9

203 15 0
                                    


الفصل التاسع
.....................
ولكنها الأقدار تجري بحكمها علينا
وأمر الغيب سر محجب.
.......................
الأيام تسير بوتيرة واحدة ... الكل مشغول بالتحضيرات لحفل زفاف زهير على قدم وساق ... تم الحجز بقاعة كبيرة وفخمة ... على الرغم من ثمنها الباهظ وعلى الرغم من معارضة زهير إلا ان وليد أصر على الحجز هناك ... لم يتواجد في المنزل ولم يحاول الاحتكاك او التوصل مع غسق بداَ !!!
ولكن وعلى الرغم من عدم وجوده الا ان كل شيء كان يتم تحت أشرفه وتوجيهاته وكأنه لم يغادر المنزل قط ...شعورها بالخجل بدأ يتصاعد خاصة عندما يجتمعون لتناول الطعام ... مكانه كان خالياً وكئيباً ... الكل يتجنب توجيه الكلام للأخر ... ماعدا زهير المتفكه الذي يحاول خلق جو من المرح ... مع محاولاته المستمرة لتجاذب إطراف الحديث .. والتي باءت جميعها بالفشل مما اضطره للصمت هو الآخر مستسلماً لحالة الجمود المسيطرة عليهم ... والدتها كانت صامته هي الأخرى ربما أحست بها وبشعورها ... فهي ورغم أنها تمادت بغضبها إلا أنها محقة أيضا فتدخله أصبح خانقا جدا ...ولا يحق له أن يتهمها بهذا الشكل المهين
زفرت بضيق ثم وقفت لتستأذن ... قالت سعدية بتساؤل
- إلى أين حبيبتي أنت لم تكملي عشائك ؟!!
همست بابتسامة صغيرة
- لقد شبعت أمي ... عن إذنكم !
توجهت لغرفتها وهي لا تزال تشعر بثقل كبير يجثم على صدرها ... ترى أين ذهب ؟! وكيف يتدبر أمره ؟!
كرامتها لم تسمح لها ان تسأل تبارك او حبيبة عن مكانه ! تبا له يستحق كل كلمة قالتها بحقه ... لكي يحرم في المرة القادمة التدخل بشؤونها الخاصة ! اجل هكذا وضعت حد فاصل بينهما...خط احمر لا يتجاوزه أبدا !!
تأففت بملل ثم ارتمت على سريرها تهمس بخفوت
ترى هل كنت قاسية عليه !!! أكان علي أن افقد أعصابي بهذا الشكل المخزي؟!
لتعاود الهمس وكأنها تبرر لنفسها
- كلا ...كلا لم أكن قاسية أبدا ما فعلته كان الصواب بعينه !
قضمت شفتها السفلى بتوتر ... لكن حسنا ما كان عليها ان تقول بأنها لا تطيق البقاء بمكان هو فيه !!! اعتقد اني تماديت بهذا الكلام فقط !!
اووووه لماذا اتعب نفسي بالتفكير !! فليفعل ما يشاء هل هو طفل صغير لا يجيد التصرف لوحده !!!
بتلك الكلمات اخمدت صوت ضميرها الذي بدأ يؤنبها من اجله و منذ عدة ايام
...........................................
.................................................. .
حزن يغتالني
وهم يقتلني
وظلم حبيب يعذّبني
آه! ما هذه الحياة التي كلّها آلام لا تنتهي
وجروح لا تنبري
ودموع من العيون تجري
جرحت خدّي أرّقت مضجعي وسلبت نومي
آه يا قلبي يا لك من صبور على الحبيب
لا تجور رغم ظلمه الكثير وجرحه الكبير
الذي لا يندمل ولا يزول
ما زلت تحبه رغم كل الشّرور
ما زلت تحن اليه
رغم ما فيه من غرور
.........
نزار قباني
....................
ارتمت حبيبة على الفراش تبكي بصمت وألم ... ها قد انتهى الأسبوعان بغمضة عين ... تموت باليوم ألف مرة ومرة وهي تشهد بعينيها على كل التفاصيل الصغيرة والكبيرة الخاصة بالزفاف !!
ربااااااه لا تستطيع التحمل أكثر .. كيف الأيام تتسابق بهذا الشكل !! وكأنه تعاندها وتسخر منها قائلة انظري هاقد اتى اليوم الذي تحاولين إنكاره ونسيانه ... اتى رغما عنك !!
بعض الأحيان تتخيل ان يفاجئها قائلا
- احبك حبيبة ... ألان اكتشفت خطئي وتسرعي ... احبك أنت وسألغي كل شيء ...
لكنها تستيقظ من أحلامها الساذجة المضحكة التي تحاول ان تخدر بها واقعها المؤلم القاسي ... فلا زهير سيغير رأيه ويشعر بحبها مهما دعت وتمنت ولا الأيام والساعات ستتوقف وتتجمد !
انها تسير إلى الأمام حامله معها نعش أمنياتها وأحلامها وحبها الميؤس منه !
لا تظن بأنها ستحتمل ان تراه يتزوج من سلمى ... قد تقع مغشيا عليها او تنهار بالبكاء عندها سيفتضح كل شيء ...همست وهي تدفن وجهها بالوسادة ... الهي خذني الى ابي لارتاح ... فلم يعد هناك مكان لي في هذا العالم الظالم !!!
تقلبت على فرش من الجمر لم تستطع النوم ابدا مهما حولت إغماض عينها تندلع نار حارقة بقلبها .... الساعة كانت تشير الى الثانية عشر والنصف بعد منتصف الليل ... انتعلت خفيها ونزلت إلى الأسفل ... المنزل هادئ لا يسمع فيها الا دقات الساعة الرتيبة ... توجهت الى المطبخ لتعد لها شراب دافئ يساعدها على النوم ... لكنها تسمرت مكانها وهي تنظر لظهره العريض الذي يوليه لها كان يبدو شاردا بعالمة الخاص يدخن السيكارة بتمهل
متى أصبحت تدخن يا زهير !!! همستها بحزن وضيق ... غرقت عيناها بالدموع ... منذ أسبوعين وهو لم يوجه لها كلمة ... حتى لم يعد يطلب منها ان تكوي قميصه او تعد له القهوة او الشاي ... يعاقبها ويقتلها بتجاهله ولامبالاته ... لعدة مرت تشاهده يعد بنفسه القهوة التسارع ناحيته كالطفلة وهي تقول بتوسل
- اذهب و... استرح انت ... وانا احضرها لك !!
الا نه كان يجيبها ببرود دون ان يلتفت ناحيتها او حتى يوجه لها مجرد نظرة عابرة تريح قلبها العاشق
- شكرا لا اريد منك شيئاً !!!!
عادت من شرودها ثم سحبت نفسا عميقاً مرتجفاً واستدارت لتعود ادراجها بهدوء ... لكنها تسمرت عندما سمعت صوته الخشن وهو يقول لها امراً
- انتظري حبيبة
..........................
.........................................
لندن
................
كانت تراقب حركاته بسخرية مريرة ... يتصرف بصورة طبيعية جدا ... وكأنه لم يفعل شيئاً ... اه منك يا همام كم انت غامض وبعيد عني بمشاعرك ... ترى بماذا تفكر !!! اتمنى ان افهمك وافهم غموضك ... ماذا تخفي داخلك ... ومالذي تخطط له بالضبط ايها الحوت الكبير ... قلبي يحدثني بأنك تخفي عني الكثير والكثير من الأسرار المخزية لكن عقلي يأبى ان يصدق ... فقط لو يعود الزمن ويتوقف عند ذلك اليوم المشئوم الذي جاءت به امي لتخبرني برغبتك الزوج مني ... لكنت وقفت بوجهها و ذهبت الى وليد لأطلب منه الحماية لكن اه والف اه لم اعرف قيمة العائلة والسند الا الان ...وكله منك يا امي دائما كنت تبعديني عن بيت خالتي تمنعيني من الاتصال بهم او التواصل معهم ... لكن ماذا افعل قد حصل ما حصل ولا ينفع الندم والبكاء .... حتى لو أردت الطلاق فأنا اجبن من ان اطلبها ليس الان وقد اصبح يربط ما بيننا طفل بريء لا ذنب له باختيار ابويه ....
التقط حقيبة اوراقه ثم جلس على أريكة بيضاء اللون موضوعة أقصى غرفة النوم جانب النافذة الكبيرة ... فتح الحقيبة يتفحص داخلها ليتأكد من شيئا ما عندما احس بنظرتها الغريبة المصوبة ناحيته ... رفع رأسه قائلا بتهكم
- ماذا !!!! لماذا تنظرين لي بهذا الشكل !!! هل تحبيني لهذه الدرجة طفلتي ؟!
تقدمت ناحيته ببطء وقالت بصوت هادئ
- ابتعد عنها ... تركها وشئنها لا تدخلها بمخططاتك المعقدة !!
رفع حاجبه وقال بتساؤل
- ابتعد عن من ؟!
اجابته بسخرية وهي تكتف ذراعيها
- لا تدعي عدم الفهم .... اقصد حبيبة ...
ثم أشارت نحوه بسبابتها محذرة
- اياك ان تقترب منها او تضعها في رأسك ... ثم نحن لم نشتكي قلة العرسان أمامك لتتطوع وتبحث لها عن عريس !!
ارجع ظهره الى الوراء قائلا باستخفاف
- اوووه القطة الناعمة بدأت تخرج مخالبها الصغيرة وتخربش بها !!
قطبت تجيبه بضيق من سخريته
- اجل عند اللزوم اخرج مخالبي لادافع عن الذين يهمني امرهم !! وحبيبة شقيقتي وامرها يهمني اكثر مما تتصور لذا ابتعد عنها رجاءاً !!!
اغلق الحقيبة بهدوء وكأنه لم يسمع ما تفوهت قبل قليل ... ركز نظراته الباردة عليها وقال وهو يرفع زاوية شفته بابتسامة ساخرة
- ليس هذا ما فهمته من سناء !!!
ابتلعت ريقها وهي تشعر بالخزي من تصرفات والدتها المهينة المخجلة ... كيف تنقص من قدر حبيبة امامه هكذا ؟!!! كيف يطاوعها قلبها ان تنعتها بالمعاقة البلهاء ليس أمام زوجها فقط بل أمام اي شخص يسأل عنها !!!! قالت وهي تدعي الامبالاة والكبرياء
- لا شأن لك بأمي فلتتكلم كما تريد المهم ما تريده حبيبة ... على اية حال هي ألان تحت كنف وحماية وليد وهو المسئول عنها ولن يجبرها على شيء مطلقاً
رفع كتفه وهو يقلب شفته السفلى قائلا بضجر
- وما شائني انا بعائلتكم المعقدة افعلوا ما تريدون ... انا المخطئ بتدخلي ومحاولتي تقديم المساعدة
هتفت بسرعة وصرامة
- ونحن شاكرين لك معروفك لكننا لا نريد منك شيئاً فلا تشغل نفسك بنا وركز بعملك ومصالحك
وقف وهو يرمقها بنظرات متهكمة ثم اقترب منها هامسا بلهجة مقززة
- كما تأمر قطتي الشرسة ... الى اللقاء حبي
.همست رضاب وهي تتنهد براحة وتراقب خروجه بحزن دفين
- فقط دعها وشئنها ويكفيك ما فعلته ولازلت تفعله بي !!
........................
..................................
شمال العراق
........
ماذا فعلت بنفسي ... اي طريق هذا الذي اسلكه !!!
! إلى اين ستسير بي يا قارب الاستسلام وأين ستجرفينني وتقذفيني يا رياح الضعف !
هل تسرع باتخاذ سلمى زوجة له !! سحب نفسًا عميقا من سيكارته ثم نفثها بشرود
لماذا تراوده فكرة انه اخطأ باختياره وتسرع بقرار الزوج !!! لكن حتى لو ندم بماذا ينفعه ندمه !! التفكير بخطئه الان أشبه بشخص يحاول السباحة عكس التيار !
رحمك لله يا ابي ... انت السبب بكل ما نحن فيه ... اجل ليس هو فقط بل وليد و تبارك ايضا ذنبهم برقبة والده ....
تنهد بحسرة وشعوره بالخواء يتصاعد .... وكأنه ليس عريس وغدا سيتزوج ويبدأ حياة جديدة !!!!
حتى عندما تلقى التهنئة من عائلته اليوم ...حاول ان يكون مندمجاً ومرحاً لكن مهما حاول خداعهم فأنه لن يخدع نفسه .... هو ليس سعيداً ولا متحمساً لهذا الزوج .... ربما غدا ستتغير مشاعره ... اجل ... غداً عندما يكون امام الأمر الواقع مشاعره حتما ستتغير ... وبالنسبة لسلمى فبالمعاشرة والتعود سيتقرب منها ويعتاد عليها !
شعر بحركة خلفه التفت ينظر ليفاجأ بوجودها ... حبيبة !!! تلك الصغيرة التي بدأت تثير داخله غريزة المسؤولية والاهتمام ... كانت تريد الانسحاب و العودة أدراجها الا انه أوقفها قائلا
- انتظري حبيبة
استدرت من جديد تنظر له بابتسامة خجولة ووجه متورد ... تقدمت ناحيته وقالت بخفوت وهي تشبك أصابعها بتوتر ملحوظ
- نعم زهير ؟!
نظر لها بصمت لعدة دقائق يراقب رأسها المطرق بتركيز ... رق قلبه لها كثيرا هو اراد ان يكلمها منذ فترة الا ان كبريائه منعه ... فتصرفها ذلك اليوم أزعجه وأغضبه كثيراً .... لا يعلم لماذا شعر بالغيرة من تجاوبها واحترامها لوليد وكيف انها وافقت على كلامه بسرعة دون ان تعير وجوده أدنى انتباه !!!
أجلى حنجرته وقال وهو يدعي ألامبالاة
- لماذا مازلت مستيقظة الى ألان ؟!
أجابت وهي وتعبث بطرف جديلتها الطويلة كالعادة
- لا ..اعلم ...لم ...استطع النوم ...ففكرت... بشرب كوب من الحليب الدفء ..
هز رأسه وقال وهو يرفع حاجبه الأيمن
- ولماذا فررت عندما شاهدتني ؟!
نظرت له بسرعة وهي تقول ببرئه تامة
- حسناً ... انا ... فقط... لم .. لم ...أود أن أزعجك !
قال لها وهو يوليها ظهره من جديد
- تعالي واعدي لي كوب من الحليب معك .... فانا أيضا لا اشعر بالنعاس
ابتسمت بسعادة وقلبها يخفق بشدة .... نسيت كل شيء ... حتى انها نسيت حزنها ونسيت ان زفافه غداً
- حالا ...سأعد...ه ...لك
راقبها بابتسامة صغيرة .... لا ينكر انه اشتاق لحديثها الطفولي ونبرتها الخافتة التي تبث في روحه موجه من السلام والهدوء الداخلي ... لكن ما فعلته أغضبه وأحزنه كثيرا !!!
وضعت كوب الحليب امامه ثم جلست قبالته على الطاولة وهي تمسك كوبها بين يديها
شربا الحليب بصمت وتمهل قالت حبيبة بهمس
- زهير
همهم شاردا
- هممم
- لا..زلت ..غضبا ..مني !!!
رفع نظراته العميقة ليركزها على وجهها المتورد الخجول ... ظل يحدق بها لعدة ثون ثم قال فجأة وهو يعاود النظر على الكوب الذي يحركه بين يديه
- كلا لست غاضبا منك حبيبة انت النسمة العذبة التي تضفي على المنزل الانتعاش .... لكن !!!
نظرت له لاهثة وقلبها يكاد ينخلع من مكمنه ليطير ويحلق حوله من شدة سعادتها
- لكن ... ما ....ذا ؟!
اكمل بجدية وهو ينظر لها بهدوء تام
- لكن اذا قطعت لي وعداً بما سأطلبه منك الان فأني سأنسى بالفعل كل ما حصل !
ومالذي حصل يا زهير ؟! فقط لو اعرف مالذي اقترفته بحقك لارتاح انا ويرتاح قلبي الذي اصبحت تتفنن بتعذيبة دون ان تشعر ! همستها بسرها وهي تنظر له قائلة
- بماذ..ا ...تريدني... ان أعدك ...زهير ؟!
سحب نفساً عميقاً مثقلا بالهموم ثم قال وهو مقطب الحاجبين
- عديني يا حبيبة بأنك اذا واجهت أي مشكلة مهما كانت صغيرة او كبيرة فانا الشخص الوحيد الذي تلجئين له ... فهمتي انا وحدي من تستمعي لكلامه ... لا وليد ولا والدتك ولا اي شخص مسئول عنك الا انا ... انا فقط !!
هزت رأسها بعفوية كالطفلة المطيعة وهي تقول بحب لم تستطع إخفائه لكنه كالعادة لم ينتبه له
- ا..عدك ...زهير ...أعدك
ارتخت ملامحه العابسة وارتسمت ابتسامة واسعة وسعيدة على شفتيه وهو يقول براحة تامة
- اذن نحن متفقان !!
صمتت قليلا ثم تجرأت وقالت
- ا..نت ...ايضا ..عدني بشيء مهم جدا !!
رفع حاجبه متسائلا بصمت
لتكمل بتوسل
- لا تشرب ا..لسكائر... مجد...اد..ا رجوك !!
قهقه بخفة وقال وهو يغمز لها ممازحا بلطف وصبيانية
- أتخافين علي ؟!
احتبست أنفاسها وتحول وجهها لثمرة فراولة طازجة وهي تسبل أهدابها هامسة بسرها
"يارب خذ من سنين عمري ما تشاء فقط اجعله يعش حياته سعيدا وفرحاً "
لم يشاء إحراجها أكثر خاصة وان وجهها تلون بحمرة أخاذة ... أجابها برقة
- أعدك حبيبة ... ثم أتعلمين انا لا اشرب السكائر أبدا ... لكني شربت واحدة اليوم لأنني ... امممم ... حسنا .. كيف اشرحها لك ... ربما متوتر قليلا
ثم ضحك بتهكم وأكمل قائلا
- متوتر من فكرة إنشاء أسرة !!!
اختفت ابتسامتها وقالت بصوت مختنق وقد عادت الى صخور الواقع المؤلم لتسقط من فوق الغيوم الوردية التي كانت تحلق فوقها لبعض الوقت
- متأكدة ...بأنك ستكون اب و ... زوج .. رائع ... فليوفقك... الله ... زهير
اومأ بصمت ثم وقف قائلا وهو يفرد ظهره وذراعيه
- سأخلد الى النوم تصبحين على خير حبيبة ولا تنسي وعدك لي ابدا
راقبت اختفائه وهي تهمس بعينان دمعتان
- تصبح على خير وسعادة يا ماضي ومستقبلي وحبيب العمر كله !!
...............................
..............................................
منذ الصباح الباكر والمنزل بهرج ومرج ... لم يخلو من الضيوف الذين لم يذهبوا الى قاعة الزفاف الا قبل قليل ... الخالة سعاد ذهبت مع والدتها وزهير الذي كان يبدو عليه الشرود اغلب الوقت بينما هي وتبارك وحبيبة سيقلهم وليد .... وقفت امام المرآة تضع القليل من الكحل الأسود بعينيها لأول مرة تضع مستحضرات التجميل .... كانت قد اختارت ارتداء فستان حريري ازرق طويل يصل لكعبيها مع حجاب يماثله باللون ...
همست داخلها بانزعاج " اااف لماذا لم اذهب مع امي الان سأضطر لرؤيته "
ارادت ان تعتذر عن الذهاب معهم الا ان نظرات والدتها الصارمة ألجمت لسانها ... كما انها كانت تشعر بالخجل من الخالة سعاد التي كانت طوال الوقت حزينة على عدم وجود ولدها في المنزل !!
كانت لاتزال لم ترتدي حجابها عندما نزلت الى المطبخ لتشرب الماء ... توجهت الى البراد وما ان شربت الماء واستدارت حتى تسمرت في مكانها ذاهلة عندما شاهدته يقف عند باب المطبخ ينظر لها بجمود !!!
.....................
.................................
وإني أحبك
لكن أخاف التورط فيك
أخاف التوحد فيك
أخاف التقمص فيك
فقد علمتني التجارب أن أتجنب عشق النساء
وموج البحار
أنا لا أناقش حبك.. فهو نهاري
ولست أناقش شمس النهار
أنا لا أناقش حبك
فهو يقرر في أي يوم سيأتي.. وفي أي يومٍ سيذهب
وهو يحدد وقت الحوار، وشكل الحوار
.........
نزار قباني
.............................
كان يقف ينتظرهم امام باب المنزل في الخارج عندما اتصل به زهير قائلا برجاء
- وليد من فضلك لقد نسيت هاتفي النقال في الصالة على الطاولة المجاورة للتلفاز أرجوك هلا أحضرته لي !!!
قال وليد بضجر وتأفف
- بالله عليك يا زهير اي هاتف هذا الذي تريده الآن ؟!! ركز بزفافك وعروسك !!
قال زهير بنبرة جافة لم تعجب وليد ابدا بل كل تصرفات زهير الاخيرة باتت لا تعجبه فهو دائم الشرود والعصبية وان كان يحاول ان يبدو طبيعيا أمامهم حتى انه حاول لعدة مرات ان يتقرب منه ويفهم سبب ضيقه وانزعاجه الا انه كان كتوم جدا
- حاضر وليد سأركز على زفافي وعروسي ومع ذلك لاتنسى ان تحضر الهاتف معك !!
عندما دلف الى الداخل لم يظن انه سيشاهدها هكذا أمامه !بهذا المنظر الذي لا يعرف كيف يجد الوصف الدقيق له !
كانت سلاسلها الذهبية للولبية منتشرة حولها بفتنة طاغية .. لازالت كما يتذكرها منذ سنوات .... ممتدة كأشعة الشمس ...يصل الى نهاية خصرها الدقيق الذي أظهره فستانها الأزرق بوضوح ... ظل متجمد يحدق بها ببلاهة ... لا هو يستطيع التراجع والخروج ولا هو يستطيع ان ينطق بحرف لينبهها لوجوده ... اخيرا أحست به التفتت نحوه بسرعة لتزيد فوق عذابه عذاب مضاعف .... الكحل الأسود كان يٌظهر بريق عينيها الزرقاويتين بوضوح وكأنها زجاج لامع .... بينما اللون الوردي لشفتيها كانت تزيدها إغواء وإثارة ... الدماء أصبحت تسري بجسده ساخنة وملتهبة .... أمن الممكن انه يحبها !!!! يحبها !!
لا ... لا مستحيل ... من المستحيل والجنون ما يهذي به .... ظلا ينظران لبعض لعدة ثوان قبل ان تنطلق غسق وتختفي من امامه وكأنها سراب منعش في صحراء قاحلة !!!
ابتلع ريقه ثم همس دون شعور منه ...
" الهي اعمِ الأعين والأبصار عنها ."
قلبه نغزة بشدة وكأن اليوم سيحدث امر سيء خاص بغسق وحدها فقط ولا يعرف ماهو !!
..................................
......................................
استقلا كل من حبيبة وتبارك وغسق سيارة وليد الذي كان يرمقها بين حين واخر بنظرات غامضة ... كانت تدعي عدم الانتباه وهي تشعر بالخجل ... كيف رآها دون حجاب ... لكنها لم تكن تعلم بوجوده في المنزل ... أوف ماذا ستفعل هل كانت متعمدة الظهور امامه بشعرها !! ثم الخطأ منه هو !! كيف يدخل الى المنزل هكذا دون استئذان !!! تبا يا غسق وهل سيستأذن ليدخل لمنزلة! اووووه لم اعد اعرف من هو المخطئ فينا انا ام هو !! القت نظرة نحو حبيبة التي كانت تنظر الى النافذة بوجه متجمد وملامح باهته ...مالذي يجري لتلك الفتاة ؟!!!
تسائلت غسق بسرها ... أصبحت انطوائية اكثر من السابق خاصة في الأسابيع الاخيرة ... ربما بسبب ولدتها التي لا تسأل عنها ابدا ... منذ وصولها الى منزل خالها وهي لم تشاهد حبيبة تتكلم مع والدتها ولو لمرة واحدة فقط !!!
قالت بابتسامة ناعمة وهي تنظر لفستانها الوردي
- جميل جدا فستانك يا حبيبة
التفتت تنظر لها بجمود وهي تهمس بصوت مبحوح بدا واهنا وضعيفا
- شكرا ..لك غسق ..لقد اشترته ....لي خالتي سعاد البارحة !
عادت لتنظر للنافذة وهي تكمل بهدوء
- لم اكن اريد منها شيئاً ... لكنها اصرت !!
صمتت غسق ترقبها بشفقة بينما حبيبة بعالم اخر ... تفكر بالرجل الوحيد الذي أحبته وتمنته والذي كانت تدعو بصلاتها كل ليلة ان يجعله الله من نصيبها .. ربما كانت أنانية وشريرة .. كيف كانت تدعو بضراوة على سلمى .... اجل لاخر لحظة لم تفقد الأمل بان يتركها ... حتى وهي تراقبهم ينقلون الأثاث لشقته الصغيرة !!!!
سلمى لا تليق بك زهير ... أرادت ان تقولها له صارخة كلما لمحته امامها .... الا انها كانت اجبن من ان تفتح فمها بكلمة ... تنهدت بارتجاف ... تتمنى ان تنجح مستحضرات التجميل بأزلة شحوبها ... كانت مستنزفة القوى .... تحاول ان تتماسك ... لكن لا فائدة ... لقد أخذتها خالتها البارحة لتشتري لها فستانا !! ظنا منها انها حزينة لانها لا تمتلك واحدا لتحضر به حفل الزفاف...يا ليتك تعلمين فقط ما اريده وما يريحني فعلا يا خالتي !!! همستها بيأس والم !!!
..................................
.........................................
الحفل كان رائعا عزفت به الموسيقى والاغاني الخاصة بالاعراس ... كان زهير يتبادل التهاني بأبتسامة متصنعة !! لقد ظن واوهم نفسه بأن مشاعره ستتغير اليوم في ليلة زفافه ! لكن لا ... لاشيء تغير .... احساسه ظل على حالة الجمود نفسها ! اين اللهفة ؟!!! اين الشغف ؟!!! اين التوق ؟!!!
الم يقولو ان الزواج هو مفتاح الاستقرار للرجل !! اذا لماذا لا يشعر بذلك ؟!!
نظر لسلمى التي كانت تتوهج كالماسة البراقة ... أتراها حقا تشعر بالسعادة ام أنها تمثل دورها هي الاخرى !!!
التقت نظراته بنظرات زوجته المتلألئة لتبسم بنعومة اضطر لان يبادلها ابتسامتها بسعادة مزيفة وشعوره بالانزعاج لازال يجثم على صدره ويخنق أنفاسه !!!
........................
....................................
كانت تبارك تجلس شاردة الذهن تراقبهم بصمت تفكر بالطلب الذي طلبه منها الدكتور عبد العزيز !!!!
تذكرت كيف التقت به في المقهى وكيف بدأ كلامه بصورة مباشرة
- الحقيقة آنسة تبارك ... هناك أمر مهم جدا كنت اود ان أقوله لك
نظرت له بانتباه شديد وهي تركز على وجهه البشوش بدقة .. لم يكن الدكتور عبد العزيز وسيما لدرجة تخطف الأنفاس ... وجه اسمر عينان بنيتان مع شعر خفيف من الجهة الأمامية ...لم يكن طويلا ولا قصيرا كان مربوع الطول .. كل شيء فيه معتدل ... حتى شخصيته كانت لطيفة وجذابة جدا ... يمتلك كاريزما من نوع خاص ! النوع الذي يشعرك بالراحة والألفة منذ الوهلة الاولى !
قالت بهدوء وفضول
- تفضل دكتور عبد العزيز أسمعك !
اجابها وهو يتقدم الى الأمام ليتكأ بذراعيه على الطاولة
- حسنا آنسة تبارك ... انا لا احب اللف والدوران في الحقيقة .. انا اطلب يدك للزواج ...
لا تعرف مالذي جرى لها عندما سمعت كلماته !!! حقيقةً لم تكن تنتظر منه ان يقول لها هذا الكلام ابدا ... بهتت ملامحها ونظرت له بتعجب ودهشة بينما انعقد لسانها ... كانت حائرة ... ماذا تقول وبما ترد عليه ... ليكمل بجدية وصوت عميق
- حسنا ... كما تعلمين انا طبيب بيطري ... ابلغ من العمر تسع وثلاثون عاماً ... في الحقيقة تسع وثلاثون ونصف ... اعمل في مزرعة شقيقك بصورة مؤقتة الى ان يصدر امر تعيني بأحد المستشفيات الحكومية ! لكني أفكر مستقبلا بفتح عيادة صغيرة ان شاءلله !!
أجابته بتلعثم وهي لاتزال غير مستوعبة لما تفوه به
- انا ... انا ... حقا لا اعرف ماذا اقول لك !!
أجابها بلطف وتفهم
- لاتقولي شيئاً الان ... خذي وقتك في التفكير .. كان من الممكن ان اطلب يدك من وليد لكني أردت رؤيتك اولا لأشرح لك ظروفي الشخصية .. قبل الإقدام على الخطوة التالية !!
صمت ينتظر ردها بلهفة واضحة ... سحبت نفسا عميقا تحاول ان تهدأ بها ضربات قلبها المضطربة بينما يديها شبكتها بقوة لتمنع ظهور ارتجافها ... قالت بلهجة هادئة
- هل لي ان اعرف لماذا اخترتني انا بالذت .. اقصد انت لم ترني الا لمرة واحدة فقط ؟!
اجابها وهو ينحني بجذعه للأمام اكثر
- لا اعرف ... صدقا لا اعرف ربما لأنك شقيقة وليد ... رغم ان صداقتي معه حديثة لعهد وليست وطيدة لكنها كافية لاعرف مدى امانته ورجولته ... او ربما بسبب شقيقتي
نظرت له بتساؤل ليكمل بابتسامة جعلت الاحمرار يزحف لوجنتيها
- شقيقتي لا تتكلم في المنزل الا عنك وعن مدى حنانك وطيبتك ورقتك !
قالت بلهجة خجولة وهي تحاول ان تغير مجرى الحديث
- لم اتوقع ان تكون رونق شقيقتك فهي ...
قاطعها متفهما
- لا تشبهني ابداً ... رونق هي أختي غير الشقيقة
اكمل شارحا باختصار
- والدي تزوج بعد وفاة والدتي ثم رزقه الله برونق ... كنا عائلة سعيدة ومستقرة لكن للأسف لم تدم سعادتنا اذا توفيا بحادث سير مروع وأصبحت انا المسئول عنها.... كنت لها الأب وألام والأخ ... الى ان تزوجت من ابن عمي لعدة سنوات ثم توفي زوجها اثر تفجير سيارة مفخخة في بغداد !!
قالت بأسف واضح
- اسفة جدا
اجابها بمرح وهو يرجع بظهره الى الوراء
- مر زمن طويل على ذلك لا تهتمي .
ثبت نظراته الحنونة على وجهها المتورد قائلا بلطف
- ارجوك انسة تبارك خذي وقتك في التفكير وانا سأنتظر ردك على احر من الجمر !!
قالت بلهجة صارمة رغم توترها وخجلها الشديد الا ان رزانتها وهدوئها ورجاحة عقلها كان هو المتحكم بقرارها
- الحقيقة دكتور لا احتاج وقتا للتفكير ... لقد اتخذت قراري بهذا الموضوع و منذ زمن طويل ...انا لا افكر بالزواج لا الان ولا مستقبلا ...
ثم حملت حقيبتها ووقفت قائلة دون أن تنتظر رده
- ارجو انت تجد من تناسبك فعلا ... عن اذنك !
الا انه هب واقفا وهو يقول بأمل ورجاء جعل نبضات قلبها تتسارع
- وانا لن اعتبر هذا رداً نهائيا ... سأنتظر ... سأنتظر اتصالك تبارك .. فكري من جديد ارجوكِ !!
عادت من شرودها على صوت رونق التي تمت دعوتها هي وشقيقها لكن عبد العزيز لم يأتي الى الحفل ... ارادت سؤالها لكنها امتنعت فبأي حق تسأل وهي قد رفضته !!!
- ماشاءلله العروس جميلة جدا
ابتسمت تبارك قائلة
- اجل جميلة فليوفقهما الله
قالت رونق بمكر
- العقبى لك تبارك !!
اجابتها بهدوء
- شكرا لك رونق ولك ايضا ان شاءلله
تنهدت رونق قائلة
- بعد المرحوم جلال لم يعد هناك من يملئ عيني صدقيني
لم تعرف تبارك بما ترد عليها صمتت وهي تنظر لها بتعاطف .. لتكمل رونق بتعمد وبلهجة حزينة
- اااه كم تمنيت ان يحضر عزوز الى الحفل لكنه سافر !!!
رفعت تبارك حاجبها وقالت بصوت حاولت ان تجعله هادئاً وطبيعياً رغم لهفتها وفضولها
- سافر !!!!
اجابت رونق قائلة وهي تركز نظراتها الثاقبة على وجه تبارك المرتبك
- اجل سافر البارحة مساءا الى بغداد لحضور ندوة تقيمها نقابة الأطباء البيطريين !!!
أومأت تبارك صامته لتكمل رونق وهي تدعي البراءة
- عزوز رجل لا يعوض ابدا محظوظة هي من ستكون زوجته
همست تبارك بخجل وهي تتجنب النظر لها
- ارجو ان يرزقه الله الزوجة الصالحة
تمتمت رونق خلفها برجاء
- اتمنى ذلك فعلا
...........................
....................................
- أمي ....أمي ... ماما ... أماه ... يا نبع الحنان تعالي ... انهضي بسررررعة !!
امسك ذراع والدته المليء بالأساور الذهبية ليجبرها على الوقوف ... قالت بضجر وهي تقف على مضض
- اوووووه يا رزكار ماذا هناك يا ولد ؟!
اجابها بسعادة وهو يسحبها و يحثها على السير
- وجدتها يا امي وجدتها !!
قالت والدته بتعجب
- من هي التي وجدتها !!
اجاب بفخر
- زوجتي المستقبلية ...فقط تعالي معي وستشاهدينها بنفسك !!
تبعته باستسلام وفضول ترى من هي المحظوظة التي استطاعت ان تلفت نظر ولدها الوحيد ... أشار بيده قائلا بعينان حالمتان
- هناك يا أمي تلك التي ترتدي فستانا ازرق ...
ليكمل وهو يعض شفته السفلية بهيام
- اه لقد خطفت قلبي يا اماه
نظرت والدته ناحيتها وهي تضيق عينيها الصغيرتين قائلة بلامبالاة
- اهاا ... هذه ... لكن هناك من هي اجمل منها على فكرة !!
ضرب قدمه ارضاً كالأطفال وقال بعناد
- لكني اريدها هي يا امي ... ام انك ..
ثم نظر لها بمكر لتحثة والدته وهي مقطبة
- ام انني ماذا ؟!
اجابها بتحدي فهو يعرف والدته اذا وضعت امراً برأسها لا يهنئ لها بال ان لم تفعله
- ام انك تشكين بانهم سيوافقون على اعطائها لي !!
قالت بقوة واستنكار وهي تضع يدها على خصرها
- نعمممم !!! لم تخلق بعد من ترفض نسب السيد خورشيد اشهر تاجر سيارات في اربيل كلها !!!
قال وعينيه تبرق بسعادة
- اذن ستخطبيها لي !!!
التفتت تنظر لها من جديد وهي تلوي فمها قائلة بعدم رضا
- صحيح انهم فقراء وعائلة وليد لا تنتمي لعشيرة معروفة لكن لا بأس سأتنازل واخبطها لك بما انها تعجبك ... ماذا افعل لقلبي الحنون !!
قال بهذيان ولعابه يسيل وهو يعاود النظر اليها
- تعجبني جداً جداً يا أمي ... أتعرفين اسمها !
أجابت وهي ترفع كمي فستانها اللامع لتظهر أساورها الذهبية كلها
- اجل تعرفت عليها في بداية الحفل ... اسمها غسق
..........................
.............................................
نهاية الفصل التاسع

رماد الغسقحيث تعيش القصص. اكتشف الآن