24

239 13 0
                                    


الفصل الرابع والعشرين
............................
بغداد - المشفى
..........
يجلس على الفراش بجمود .... يستمع لكلام الطبيب الذي كان يشرح بإسهاب يحاول قدر استطاعته ان يخبره بمدى سوء حالته بكلمات لطيفة ومشجعة ... اذاً فهو فقد عينه ...فقدها للأبد ولا أمل لأن تعود كما السابق ابداً ... اه يا عبد العزيز يالك من غبي ...ألم تفهم كلام الطبيب ... لقد اقتلعوها بالكامل ... بالإضافة لفقدانه احدى عينيه اصبح منظرها مقززناً منفراً ...هو نفسه اشمئز عندما نظر لأنعكاس وجهه في المرآة ... جزء ليس بقليل من جانب وجهه كان محترقاً وعينه مفقوعة !!!!
رغم كل ذلك لايسعه القول الا الحمدلله رب العالمين ...فهو مايزال على قيد الحياة ... ربما نعمة وجوده مرتبطة بأخته الغير شقيقة رونق ...فمن لها ان فقدته !!!! صحيح هي تمتلك اقارب من ناحية والدتها ..الا انها لم تزرهم ...لم تسافر اليهم ابداً ...فضلت العيش معه ..حتى بعد ان ترملت وهي صغيرة السن !!!
اخبره الطبيب ان جبيرة يده يمكن ان يتخلص منها في اليومين القادمين لكنه قدمه لاتزال تحتاج لبعض الوقت ربما أسبوع اخر .... وانه يستطيع السير مستعيناً بعكاز خشبي ... غيبوبته استمرت لمدة اسبوعين او اكثر بقليل ... رباااه المسكينة رونق ..ترى ماحالها الان !!!
اخيراً وبعد مرور عدة دقائق على انتهاء الطبيب من كلامه قال بهدوء وسكينة
- هل أكملت كلامك دكتور ؟!
ليجيبه الطبيب بارتباك طفيف ودهشة من ملامحه الهادئة التي لاتظهر اي تأثر مما اخبره به
- اجل ...اخبرتك كل شيء وبمنتهى الصراحة
اومأ قائلا باقتضاب
- كيف يمكنني الاتصال بعائلتي لكي أطمئنهم عني !!
اخرج الطبيب هاتفه المحمول قائلا بلطف
- تفضل .....يمكنك الاتصال من هاتفي ان اردت !!
مد عبد العزيز يده ليأخذ الهاتف قائلا بشكر
- شكرا لك ..لن استغرق طويلا بالمكالمة !
وقف الطبيب قائلا
- خذ وقتك ريثما انهي الكشف على بقية المرضى ..عن اذنك ..
ضغط على عدة أزرار ثم انتظر قليلا ليصل لمسامعه صوت رونق الذي يبعث داخله الراحة والسعادة والامل
- السلام عليكم
هتفت رونق بعدم تصديق وبصوت مرتجف وكأنها بحلم
- عبد العزيز !!!! اخي عبد العزيز أهذا انت ؟!!!!
اجابها متنهداً
- اجل رونق انا عبد العزيز ...ك....
لم تدعه يكمل اذا انطلقت تهدر بنبرة بكاء وبلهفة وخوف
- اين انت اخي ...اين اختفيت كدت ان اموت قلقاً عليك يا الله ..ألاف الخيالات المرعبة مرت امام عيني ... لماذا لم تتصل بي ...عزوز اجبني ...اين كنت ...عزوز لما انت صامت !!!
طمئنها بلطف وهو يعتدل بجلسته
- انا بخير رونق لاتقلقي ... فقط تعرضت لحادث طفيف
قالها بمرح وهو يحاول ان يبدو طبيعياً .... لايريد اخافتها على الهاتف .. يكفيها الصدمة التي ستتلقاها فور عودته ..الا ان ما قاله لم يزدها الا بكاءاً وذعراً وهي تهتف بصراخ اخترق طبلة اذنه
- مااااااااااااااذا .....حادث !!! رباه عزوز اي حادث !!! وكيف ! لعد علمت ! قلبي كان يحدثني بذلك ... هل اصبت بأذى !!! هل هناك ما يؤلمك ....
اوقف سيل الكلام قائلا بهدوء بينما يده تتلمس جانب وجهه المحترق
- اهدئي رونق ...اخبرتك انا بخير اصابتي طفيفة جداً
اجابت بقلق وبنبرة معاتبة
- اذاً لماذا لم تتصل في الايام السابقة !!!
تنهد مرجعاً ظهره الى الوراء
- كنت مشغولا بعدة امور اخرى ..اسف ...رونق اغفري لي تقصيري هذا !! اخبريني كيف حالك ...هل انت بخير ...
أجابت بنعومة وقد هدئت أنفاسها اخيراً
- لا تقلق انا بخير الجيران لم يتركوني ابداً دائما يسألون عني ويتفقدوا احوالي
لتكمل بمكر وخبث
- حتى تبارك تزورني باستمرار كما انها كانت قلقة عليك جداً جداً ربما اكثر مني !
اغمض عينه السليمة وفرك جبينه بتعب وقد ارتسمت على شفتيه ابتسامة صغيرة ...تبارك !!! تلك النسمة العذبة التي عبرت بحياته ...ياليت ما حدث لم يحدث ..ياليته لم يلتقيها ..لم يحبها .... لم يختارها زوجة ...لم يقرر من اجلها ان يغير مسار حياته التي رسمها لنفسه ...وحيداً مع اخته ... ليته ما ورط قلبه بحبها
اخرجه من شروده صوت رونق وهي تهتف
- هيييييييييي عزوز اين ذهبت !!
أجابها مبتسماً
- معك ... اسمعي انا يجب ان اغلق الهاتف الان
لتوقفه بسرعة ولهفة
- انتظر عزوز متى ستعود الى المنزل !!
يعود للمنزل !!! اجل يجب ان يعود ...بل حتما هو سيعود ...لكنه يحتاج لبعض الوقت ... يريد ان يتحلى بالشجاعة ... يستجمع شتات نفسه ...هو للأن غير مصدق كيف اصبح شكله ... وكأنه مسخ شديد القبح فكيف الحال ان شاهدوه أصدقائه ... اخته ..و... و...هي !!! تبارك !! كيف ستنظر له كيف ستفكر ... بالتأكيد ستنفر ..هذا هو الطبيعي ...اجابها مقطباً
- قريباً ان شاءلله ... لا تتصلي بهذا الرقم فهو ليس لي
اجابت بحيرة وشك
- اين هاتفك عبد العزيز ولماذا هو مغلق !!
اجابها ببساطة تامة .... فهو لم يعد يمتلك القدرة على الكذب والادعاء
- فقدته في الحادث رونق ...وقبل ان تسألي وتستفسري .. ستعرفين بنفسك كل شيء ما ان اصل ... فقط اصبري !!
هتف بسعادة واستسلام فكل ما ارادت التأكد منه هو ان اخيها بخير وبصحة جيدة وهاقد أطمئنت
- حسناً اخي ... المهم ان تكون بخير وتعود لي سالماً ... وبالمناسبة هناك مفاجأة سعيدة بانتظارك ...لن اخبرك اياها في الهاتف !!
ودعها ثم اغلق الهاتف وهو يزفر الهواء بحسرة ..اي مفاجأة واية سعادة تلك التي بأنتظاره !! لقد تحطم عالمه قبل ان يبتدأ حتى !!
.....................
...................................
تقف في الممر الداخلي للصالة ...تفرك يديها بقوة وتوتر وترقب ... بينما تبارك تنظر لها بابتسامة مشجعة وهي تهمس ..
- الان ستأتي وتريها ..فقط اصبري قليلا
اومأت باستسلام وهي تمسد على ملابسها لتهدأ من ارتعاش يديها ..كانت قد ارتدت تنورة سوداء طويلة مع قميص ربيعي زيتوني اللون يحتوي على ازهار بيضاء صغيرة عند الكتفين لينزل بالتدريج الى خصرها .. بينما تركت شعرها الناعم متهدلا على كتفيها بعفوية ... وجهها كان مشرقاً ..مبتهجاً ... وكأنها تضع مستحضرات التجميل على الرغم من انها تركت استعمالها منذ وقت طويل جداً
سمعت صوت الباب الخارجي يفتح لتتجه الى النافذة بسرعة ...تنظر من بين الستائر ... لتراها فيخفق قلبها بعنف ..دون تركيز ودون شعور او تخطيط منها .. ودون ان تعير ادنى انتباه لذلك الجسد الضخم الذي يحملها .. اتجهت بخطوات سريعة متعثرة ومرتبكة الى بوابة الصالة لتفتحها فيلفح وجهها الهواء الربيعي ... همست بصوت شبه مسموع
- يقين ...طفلتي الصغيرة
كان يحمل ملك بذراعه اليسرى وهو يسير جانب وليد الذي كان يرحب به ببشاشة ... وما ان دلف الى داخل المنزل حتى سمع صوتاً انثويا متلهفاً يصرخ بسعادة
- يقين ... طفلتي يقين ...!!
بدأت ملك تتلوى بحضنه تريد النزول فرضخ لها وانحنى لينزلها ببطء .... لتندفع الطفلة بخطواتها الصغيرة ترتمي بين ذراعيها ... ركز نظراته العميقة الزيتونية عليها ... كانت شابة ربما في بداية العشرين ... وجهها ناصع البياض ... شعرها اسود يصل لمنتصف كتفيها ... ناعماً مسترسلا يتطاير مع الهواء ... رفعت نظراتها البنية ألامعة وهي تقول بابتسامة واسعة بينما ملك تدفن رأسها برقبتها بألفه لم يستغربها ابداً
- ش..شكراً لك .. سيد معاذ... شكرا ... لأنك احضرت يقين !!
صمت ينظر لها بغرابة ... شابة ... جميلة ... ناعمة وصغيرة جداً .. عكس ما توقعها بمراحل كثيرة ... عيناه مركزة على هذا المشهد امامه ... كانت تحتضنها بحنو وكأنها بالفعل ابنتها ... لكن مهلا .. من هي يقين ؟! ولماذا تطلق هذا الاسم على ملك
صوت وليد المتضايق اخرجه من شروده عندما قال موجها الكلام الى رضاب وهو يحدجها بنظرة حادة
- اذهب الى الداخل رضاب
ثم التفت له قائلا وهو يشير بيده نحو باب الصالة الخشبي
- تفضل من هنا سيد معاذ
.............
..........................
قبلت كل انش في وجهها بلهفة غير طبيعية ...وكأنها فارقتها منذ سنوات ..رائحتها الطفولية انعشت رئتيها .. بينما السعادة تكاد تقفز من حدقتيها .... لقد عادت الى الحياة بعودتها ... همست وهي تجلسها في حضنها
- هل اشتقت لي ؟! اجيب حبيبتي ..هل اشتقت لماما !!!
اومأت الطفلة ببراءة وهي تبتعد عنها لتجلس جانبها ارضاً قائلة
- اجل كثيراً جداً ..حتى اني كنت اطلب يومياً من عمي موعاذ ان يحضرني اليك ..لكن جدتي كانت تصرخ علي !
قطبت واختفت ابتسامتها بينما قلبها ينقبض فجأة ..جدتها !! اذن فهي تمتلك جدة ...يا الهي هذا ماينقصها !!!
- لماذا كانت تصرخ عليكِ طفلتي ؟!
اجابت بتعلثم طفولي وببراءة تامة وكأنها وكالة إخبارية .... بينما عيناها ويديها مشغولتان بتلك الألعاب التي فرشتها رضاب على الأرض والتي طلبت من تبارك ان تشتريه لها منذ ان غادرت ملك فهي كانت متأكدة من انها ستلتقي بها في يوماً ما
- لا تحب ان أذكرك ...تقول لي باستمرار ..لا تقولي امي رضاب ... ليس لديك الا ام واحدة وهي الان في السماء !!!
عضت رضاب شفتها السفلى بتعجب ودهشة ... فملك طفلة صغيرة لاتفهم شيئاً ..كيف تتكلم معها بهذه الطريقة القاسية ... بينما همست بخفوت
- يا الهي !!! كيف امكنها قول ذلك !!! طفلتي المسكينة كيف تتحمل العيش مع شخص قاسي القلب مثلها !! ربااااه ربما تقوم بضربها ايضاً !!
اتسعت عيناها برعب حقيقي وهي تتخيل ان تلك المرأة ممكن فعلا ان تضرب صغيرتها وتوبخها بسبب تعلقها وطلبها المستمر لرؤيتها ... ادارت وجه ملك ناحيتها وقالت
- يقين ..حبيبتي اخبريني الصدق ..لاتكذبي ...هل ..هل جدتك تضربك !!
هزت رأسها نفياً وقالت
- لا فقط تصرخ علي ..لكن عمو موعاذ يحبني جداً ..ويأخذني الى الروضة والى مدينة الألعاب ..انا احبه اكثر من جدتي
تنهدت براحة وهي ترجع ظهرها الى الوراء متكئه على طرف السرير ... الحمدلله ... وجود معاذ طمئنها قليلا .. يا الهي ..كيف ستتحمل فراقها من جديد ... يجب ان تطلب رقم ذلك المدعو معاذ لكي تتصل للاطمئنان على يقين ...كما انها يجب ان تراها باستمرار ... لاتعرف كيف .. لكن يجب ان تتفق على ذلك ... اجل يجب ان تراها كل اسبوعين او ثلاث .. هي طفلتها ..هي يقين ... ابنتها الحبيبة ... ولن تتركها ابدا ..ابداً
....................
..............................
ظل معاذ جالساً الى المساء بطلب من وليد الذي قال له بلطف وبشاشة
- انت ضيف ..والضيف واجب اكرامه ..كما اننا اصبحنا اصدقاء ولن اسمح لك بالمغادرة الا بعد ان تتناول العشاء معنا
ملك كانت تنتقل في المكان بحرية تامة وكأنها فرد من افراد العائلة ... بل وكأن هذه العائلة هي عائلتها بالفعل .... شعر معاذ بالألفة والحميمية وكأنه يعرف وليد منذ فترة طويلة خاصة عندما التقى بزهير ووالدته ...والتي رحبت به هي الاخرى وكأنه ولدها ... فرشت السفرة وكانت عامرة بأشهى المأكولات ... ظلوا يتجاذبون اطراف الحديث الى ساعات متأخرة من الليل ... المناطق الشمالية امنة تماماً في المساء عكس باقي المحافظات العراقية التي كانت تعاني ولازالت من انعدام الأمن ... فبعد الساعة التاسعة مساءاً نادراً ما يخرج احد من منزلة ...
تمنى ان يلقي نظرة اخيرة على رضاب قبل ان يغادرهم الا انها لم تخرج ابداً ... يبدو انهم من الأسر المحافظة وهذا واضح جداً من خلال حرصهم على اغلاق باب الصالة المؤدي الى الممر الداخلي للمنزل ... لمحها لمرة واحدة فقط ... عندما فتحت ملك الباب لتذهب الى الداخل عندها كانت رضاب تنزل الدرجات التي كانت مقابلة للصالة تماماً ... لتلتقي نظراتهما بهدوء ... عيناها حزينتان ...رقيقتان ..عطوفتان ... بهما لمعة جذابة ... جعل الفضول يتأكله ليعرف مابها هذا الشابة ..ولماذا ملامحها حزينة .... هالة النقاء والبراءة تحيط بها وكأنها اميرة خيالية تخفي سراً ما ... ظلا ينظران لبعض لعدة ثوانٍ تكاد لا تعد .. لتقطعه هي بأن تسبل أهدابها وينغلق الباب فجأة !!

قال وليد وهو يوصله الى الفندق الذي يقيم فيه وبعد ان تبادلا ارقام الهاتف
- انت مدعو الى حفلة زفافي في الاسبوع القادم ان شاءلله
ابتسم معاذ وقال مهنئاً بصدق
- الف مبارك ..وبالتأكيد سأكون موجوداً مع ملك ...هذا يشرفني ويسعدني جداً
يشعر بأنه قد ارتبط بهذه العائلة ...هناك ما يجذبه ناحيتهم ... شيء خفي لا يعرف كيف يفسره .. لا علاقة له بملك ولا بطيبتهم الصادقة ... شيء اكبر واعمق من ذلك بكثيرررر !!
....................
...............................
كان يقف في المطبخ ينظر لها بتجهم ... منذ ان اخبرها بأن طلب امتحاناتها قد رفض وهي تبكي ... لها الان خمسة دقائق بالضبط ودموعها لم تنقطع ابداً .... لو كان هناك اي طريقة امامه ليسهل عليها قبولها للأمتحانات لفعلها ... فهو منذ التاسعة صباحاً كان ينتقل في أروقة ممثلية وزارة التربية ... من مكتب لأخر .. يطلب منهم بعض الاهتمام والتفسير ... ليخبره الموظف المختص اخيراً وكأنه يمن عليه بالجواب بأنهم تأخروا كثيراً في تقديم الطلب .. الذي من المفترض تقديمه في بداية السنة الدراسية ...
لقد اخبرها فور وصوله بأنه سيكون معها خطوة بخطوة في الايام المقبلة وبأنه و بنفسه سيتمم امر تقديمها للأمتحان القادمة .. لكنها لاتريد السماع ... وكأنها لاتفهم مايقوله لها !!!
تنهد قائلا بجدية تامة وهو يركز على دموعها التي كانت تتساقط بحرارة وكأن نهاية الكون تتوقف على تلك الامتحانات البائسة
- هيا حبيبة كوني اكثر تماسكاً وقوة ...الأمر لايحتاج لكل هذه الدموع !
رفعت نظراتها وقالت بضيق ...لم يعجبها نبرة الاستخفاف التي يتكلم بها ..وكأنه يستهين بقدراتها وبتصميمها على اكمال دراستها التي تركتها مرغمة
- بلا يحتاج .... كنت افكر بها ليلاً ونهاراً واضع كل امالي عليها ... بل هي فعلا كانت املي الوحيد لكسر الملل الذي اعيشه
هتفت جملتها الاخيرة مع شهقة قوية وبائسة جعلت الكلمات تخرج من فمه بعفوية وقوة
- هناك اشياء اهم عليك فعلا التفكير جدياً بها ...
اجابت بتأكيد بينما شعورها بالذنب يتصاعد ويطفو فوق روحها البريئة الشفافة
- ا..جل معك حق ... يجب ان افكر برضاب .. واكون جانبها في الايام المقبلة ..انا انانية ..فكرت بمستقبلي الدراسي ونسيتها لوهلة !!
رفع حاجبه بعدم رضا ثم دس يديه بجيبي بنطاله متكئاً على اطار النافذة
- لا انا لم اقصد رضاب في الحقيقة !
قطبت قائلة بعدم فهم
- ماذا تقصد اذن ؟!
هز كتفه بلامبالاة وهو يجيبها بغموض ...اراد ان يلهب شعلة الفضول داخلها ...اوربما يلمح لها عن نيته بخطبتها ...
- ربما سيتقدم احدهم لخطبتك قريباً
هوى قلبها الى قدميها وجفت الدموع بعينها خلال ثانية واحدة وهي تهمس داخلها بجنون ...يخطبها شخص ما !!! رباه ابعد ان تخلصت من وجود زوجته البغيضة التي كانت تقف كحجر عثرة في طريقها وبعد ان تحملت كل تلك الالام والمصائب التي حلت على رأسها جراء حبها الميؤس منه يأتي رجل اخر ويتزوجها !!!! يتزوجها وقلبها معلق بحب زهير الغبي العديم الاحساس !!!! اذا لم يكن له اي مشاعر فلماذا قبلها !! ومامعنى تلك الكلمات التي قالها في غرفته تلك الليلة !!!
اجابت بقوة وملامحها تعكس مدى رفضها
- ومن قال اني افكر في الزواج اصلاً !!!!
اجابها مقطباً بينما قلبه ينقبض من فكرة رفضها الارتباط به
- هذا هو المتوقع حبيبة ..انت لست صغيرة ..بالتأكيد ستتزوجين في يوماً ما !!
هتفت بغضب حدة وهي تتشبث بطرف الطاولة
- وانا لا افكر مطلقاً مطلقاً بالزواج ...خاصة بالطريقة التقليدية
اتسعت عيناه بذهول وعدم تصديق وهو يهتف بقوة
- نعم نعم طريقة تقليدية !!! اذن كيف تريدين الزواج حبيبة خانم !!!
ليكمل وهو يومأ برأسه قائلا وكأنه اكتشف شيئاً عظيماً بينما نظراته الشرسة تلتهمها
- الان عرفت لماذا تريدين اكمال الدراسة !
نظرت له بشك وقالت بلهاث
- ما...الذي ...عرفته !
بلمح البصر ودون ان يعطيها فرصة التراجع او الانسحاب كان يقف امامها ماداً يده يمسك ذراعها يحفر اصابعه بقوة وهو يجيبها
- تريدين الدخول للجامعة ... ومن ثمة تتعرفين على شاب في مثل عمرك .. تتمعشقين معه ...اجل ..اجل .. هذا ما تبتغيه ...
قاطعته وهي تحاول ابعاد يده عنها لتجيبه بتحدي مسفر .. بينما تثبت عيناها المتمردة على عيناه الحمراء الغاضبة
- ابتعد عني ..اتركني ...ثم حتى ان افترضنا صحة ما تقوله ... وماذا في ذلك !من حقي ان اختار شريك حياتي !
اتسعت عيناه بقوة وكأنهما ستخرجان من محجريهما بينما مجرد الفكرة جعلت النيران تندلع داخله لتتأكل قلبه ..تماما كما تندلع النيران الحارقة في الغابات الأستوائية
- افعليها ... فقط تجرئي وافعليها يا حبيبة ... وسترين ماذا يمكن لزهير الهادئ فعله !!
تخلصت منه وتراجعت بسرعه الى الوراء وهي تهتف بتحدي ... تريد ان تشاهد غضبه هذا ..الذي يجعلها تشعر بالسعادة .... الحقير ..عديم الأحساس ... ذو القلب المتحجر .... يقول لها بكل صفاقه بأنها تريد اقامة علاقة مع الشباب ...وكأنه لا يعرفها ولا يعرف اخلاقها ... الا يمتلك ذرة من الاحساس ليشعر بأنها تحبه هو .. هو ... هذا الغبي الابله !!
- ماذا ستفعل سيد زهير !!
ردها وتحديها هذا استفزه اكثر وجعل غضبه الاعمى يتصاعد ... هتف بقوة
- نجوم السماء اقرب لك مما تفكرين به يا حبيبة ..فهمتي ...انت لن تتزوجي الا بموافقتي انا ..
استدارت تغادر المطبخ بهدوء بعد ان رمقته باستخفاف متعمد ... وهي تهمس داخلها بأرتجاف ..لن اقف هنا لأستمع لهذيانه وجنونه ... بينما زهير يكاد يكسر ادوات وصحون المطبخ من شدة غيضة وغضبه ليصرخ بصوت عالٍ
- لن تتزوجي الا بموافقتي .... ضعي هذا الكلام برأسك ولا تنسيه ابداً ... أسمعتِ ..ابداً !!
.....................
...............................
كانت غسق تشعر بالأرهاق الجسدي فهي ومنذ العصر تنتقل من محل لأخر تتبع الخالة سعاد ووالدتها بطوعية تامة ... يدخلون لمحل ويخرجون من محل اخر ...الوقت يسير ببطء شديد هي تعبت والمسنتان لم تتعبا من السير والثرثرة .... تنهدت بأرهاق وهي تتصل بوليد الذي اخبرهم بأنه سينتظر اتصال منهم ليأتي ويرجعهم للمنزل ...همست بتذمر وهي تنظر لوالدتها وخالتها المشغولتين بالتحدث مع البائع
- ولييييييييد ارجوك تعال وانقذني !!
يجلس بأحد المقاهي القريبة من الاسواق المتخصصة ببيع الملابس وهو يشرب القهوة بمتهل يراقب حركة السير بشرود ... لقد اشترى بالفعل غرفة نوم رائعة وجميلة جداً وبأحدث طراز ... كما انه اتم كل الاستعدادات الخاصة بالزفاف والذي سيقيمه بحديقة منزلهم الواسعة ... ابتسم برجولة وقلبه يخفق بقوة ... لم يتبقى الكثير على موعد الزفاف .. كل شيء يتم بسهولة وبتيسير من الله ... قريبا سيستقر ويؤسس عائلة وحياة خاصة به ... حياة اختارها هو ... بأرادته ... مع الإنسانة التي اكتسحت قلبه واستحلته بالكامل ... صوت رنين هاتفه النقال اخرجه من تأمله ... ليصله صوتها الناعم المتذمر .. تأهبت حواسه بتحفز ظناً منه انها تعرضت للتحرش او المضايقة ... فهو يعرف جيداً استغلال الشباب للأماكن المزدحمة لكي يتحرشو بالفتيات .... ليجيب بأهتمام وصدق وهو يعتدل بجلسته
- ماذا هناك غسق ؟!
قالت وهي تتنهد بعمق
- لقد تعبت من اللف في الأسواق ...اشعر بالجوع والعطش ..والدتي والخالة سعاد لا تتركاني لالتقط انفاسي !!!
زفر براحة واجابها متفهماً وهو يركز نظراته الداكنة على النافذة
- أأنت منزعجة بسبب ذلك !!
هتفت بتذمر وهي تزيغ حدقتيها بتعب
- اجل وليد منزعجة ومتضايقة جداً
اجاب بهدوء
- هاتي امي لأتحدث معها
همست بخفوت وهي تسترق النظرات نحو والدتها والخالة سعاد
- حسناً لكن لاتخبرها بأني طلبت ذلك منك
ثم هتفت وهي تنادي ببرائة
- خالتي سعاد ..خالتي ...
التفتت لها سعاد بتساؤل بينما سعدية مشغولة بتقليب ملابس النوم الفاضحة
- ماذا هناك !
مدت يدها وقالت
- وليد يريد التحدث معك !
قطبت وهي تتقدم لتأخذ الهاتف من يدها لتهمس قرب اذنها قائلة بتوبيخ
- هزي طولك واذهبِ لتختاري بعضا من قمصان النوم المغرية ..هيا يافتاة تحركي ولا تظلي جامدة هكذا
اومأت قائلة وهي تبتسم بمجاملة
- حاضر خالتي ... حاضر ... سأذهب
اجابت سعاد وهي تركز على بعض الملابس المعروضة
- اهلا وليد خيراً ماذا تريد ؟!
ليأتيها صوت ولدها قائلا
- انا انتظركم بنفس المكان الذي أوصلتكم اليه قبل قليل
هتفت بذهول وهي تعدل وضع العباءة فوق رأسها
- الان !!!! لازال الوقت مبكرا ..كما اننا لم ننهي جميع الحاجيات لازال علينا شراء العطور ومستحضرات التجميل وايضاً ...
قاطعها بصبر ولطف
- لابأس امي ...انا متعب ولا استطيع الانتظار اكثر ..كما ان لدي عمل ضروري جداً كنت قد نسيته وتذكرته الان حالاً
اجابت بمحاولة منها لأقناعة
- انتظر فقط لنصف ساعة اخرى !!!
قال بلهجة قاطعة لا تقبل النقاش
- غداً امي ..غداً اكملوا شراء كل ما تريدون !
همست باستسلام وهي تنهي المحادثة
- كما تريد يا ولدي ...دقائق وسنكون بانتظارك امام بوابة السوق
...........................
...................................
تجلس على الأريكة تنقل نظراتها بين سلمى ووالدتها حيث جلستا بتأهب وكأنهما وحشين كاسرين على وشك الانقضاض عليها .... لقد اوصلها زهير مشدداً عليها نقل كل متعلقاتها دون اهمال او نسيان شيء ابداً ... هي كانت مقدره وضع سلمى ... لذلك لم تهتم لأستقبالها البارد ..فمهما يكن الطلاق ليس سهلا ابداً ...ابتسمت قائلة بلطف
- انا اسفة وحزينة لما آلت اليه الامور بينكم ...كنت اتمنى ان ...
قاطعتها سلمى بغرور وترفع وهي تضع ساق فوق الأخرى
- لا تتأسفي تبارك ...بالعكس ..انا سعيدة بهذا الانفصال الذي جاء متأخر جداً ... من المفترض ان نخطو هذه الخطوة منذ وقت طويل
لتكمل والدتها بنبرة هجومية ودفاعية وكأنها بساحة حرب
-هذا الزواج كان خطئاً منذ البداية ... لكن ماذا اقول ...الملوم الوحيد هنا هو مراد ..فهو من اصر على اتمامه بالرغم من نصيحتي بالاعتذار لوالدك ... والعدول عن قراره الظالم بحق ابنتي
همست تبارك بهدوء وهي تنظر لها بأبتسامة صغيرة جعلت غضب رحاب يتفاقم
- كل شيء قسمة ونصيب خالتي !
اجابتها بحدة
- اجل قسمة ونصيب ...ونصيبها ليس مع اخيك الذي لم يقدر النعمة التي بيده ...لطالما كان زهير مقصراً على ابنتي ....
قطبت تبارك بعدم فهم وبراءة وهي تتساءل
- ماذا تقصدين ؟! كيف كان مقصراً !!!
هزت رأسها مؤكدة وهي ترجع ظهرها الى الوراء
- اجل مقصراً في الصرف عليها ..لم يكن يسمح لها بشراء ماتريد بحجة مقدرته المالية المحدودة حتى عندما عرضنا المساعدة عليه ايضاً رفض ..ابنتي كانت تعيش بفقر مدقع !
رفعت تبارك حاجبيها بأستغراب ...عن اي فقر تتحدث !!! لطالما كان زهير مراعيا لمتطلبات زوجته المالية .... لكن ليس بأسراف كما ليس ببخل ... اجابتها بهدوء ورزانة
- ان كان زهير فقير الحال فهذا لاينقص من قدره شيئاً ... الفقر ليس عيباً يا خالتي ... لكن رغم ذلك فأخي لم يقصر معها من هذه الناحية !
اشاحت رحاب بيدها بينما سلمى تراقب مايجري بصمت
- وما ادراكِ انت بما كان يجري بينهما !!! على اية حال الكلام لم يعد يجدي نفعا الان .... شكرا لتعبك بإحضار حاجات ابنتي ...نكافئك بيوم زفافك ان شاءلله
قالت جملتها الأخيرة بسخرية ظاهرة ...بل ظاهرة جداً وكأنها تعايرها على عدم زواجها الى الأن ... مسكينة لم تعرف بأن كلامها هذا لم يعد يؤثر بها مطلقاً ... فهي اشترت راحتها بالتجاهل والادعاء بأنها لم تسمع شيئاً ومنذ فترة طووووويلة جداً .... لتجيبها تبارك بأبتسامة صغيرة وهي تقف
- تعبكم راحة خالتي ..وللمرة الثانية اسفة لكل ماحدث ...
ودعتهم بأدب وغادرت الصالة متجهه الى البوابة الخارجية لتزفر الهواء المحتبس داخل صدرها وتستنشق هواءاً نظيفاً وصحياً وهي تهمس داخلها ..متعجبه من كمية الغل والحقد الذي تحملانه بقلبهما كل من الأم والابنة ...
- كان الله بعونك يا زهير كيف ناسبت هذه العائلة وتحملتهم كل تلك الشهور !!!
................
............................
يجلسون في مطعم صغير لكن عصري وحديث يقع بأحد شوارع أربيل المزدحمة ... قالت سعاد بتعجب ومكر وهي تنظر لوليد بنظره العالم بكل شيء
- الم تقل انك مستعجل ولديك عمل مهم عليك أنجارة !!!
ثم نقلت نظراتها بينه وبين تلك القابعة جانبه وكأنها طفلة صغيرة تتدلل على والدها ليجيبها بابتسامة واسعة وهو يخطف نظراته المحبه تجاه غسق
- نتعشى فقط اماه ...لايجوز أراجعكم الى المنزل وانتم متعبون هكذا .. ستعتقد عمتي اني بخيل وقليل ذوق
لتهتف سعدية باستنكار وقوة
- معاذ الله ان افكر بك هكذا يا زينة الشباب ...وهل يوجد في العشيرة من يمتلك لطفك ولباقتك وهدوئك وو...
اسكتتها سعاد وهي تنظر لها قائلة بمكر
- اسكتي انت طيبة لاتعلمين شيئاً ثم هل ستعددين مزاياه هنا ونحن نكاد نموت جوعاً ..
ثم عادت لتنظر لولدها العاشق قائلة
- والان فلنرى ماذا سيطعمنا السيد وليد !!!

كانت سعاد تشعر وتلمس سعادة ولدها بزوجته ...تستطيع ان تقرئها بعمق عينيه الداكنتين التي ترمقان غسق بحنان الكون كله ...تنهدت براحة ..الان هي مطمئنة على وليد ...مهما كبر ابنائها يبقون امام عينيها صغاراً ... ترتاح لراحتهم ...وتسعد لسعادتهم ...ووليد وجد السعادة اخيراً ... حتى زهير بعد ان اخبرها بنيته على الزواج من حبيبة قلبها اطمئن قليلا ليس عليه فقط بل على حبيبة ايضاً ...فحبيبة رقيقة وطيبة .. تستحق السعادة .. تستحق رجل يدللها ويحبها كزهير .... تعترف ان زهير عصبي وحاد المزاج في بعض الاحيان ... الا انه طيب القلب وحسن المعشر .. كما انه يحبها وهذا واضح جداً .... لم يتبقى الا تبارك ورضاب ..ياليتها تطمئن عليهما ايضاً قبل ان تموت .... خاصة رضاب تقطع قلبها بتباعدها وانطوائها .. سامحك الله ياسناء ... كيف تهملين ابنتيك هكذا !!! من يملك مثل هاتين الزهرتين يجب ان يشكر الله كل يوم مراراً وتكراراً ... قلبها غاضب جداً على سناء ..هي حتى لاتريد ان تتصل بها ... كما انها تعرف شقيقتها جيداً طماعة وانانية بكل تأكيد هي الان تتسكع بشوارع لندن تشتري الثياب الفاخرة وتعيش حياتها بسعادة ...هذه هي سناء وستبقى هكذا طوال عمرها !!!
قال وليد ببشاشة وفخر
- هذا المطعم من انظف وافضل المطاعم في اربيل ...اتي اليه بأستمرار طعامهم لذيذ جداً
فتح قائمة الطعام الموضوعة على الطاولة قائلا بأهتمام
- والان لنرى .... ماذا تحبون ان تأكلو ... يقدمون هنا ..
ثم اخذ يعدد الاصناف المقدمة
- كشيكه ي كولاى...كفته السليمانية... قاورما ... لكزك ...قلي سيلك ... كفشك او رهك !!
هتفت غسق بتذمر
- يا الهي ماهذه الأسماء الغريبة !!! لالا انا لا افهم شيئاً ... اطلب انت يا وليد ...
اومأ ثم قال وهو ينظر لوالدته وعمته قائلا
- قلي سيلك ... كفته السليمانية .. مع السلطة ...والمقبلات مارأيكم !!
وافق الجميع على ما اختاره لهم ليأتي النادل ويدون ما طلبه .... بعد مرور عدة دقائق كان الطعام قد افترش الطاولة ... رائحته شهية وطعمة رائع جداً ... قلي سيلك ... عبارة عن قطع لحم صغيرة .. تطبخ مع البصل والتوابل الخاصة ... وتوضع على نار متوسطة الحرارة حتى يصبح اللحم قابلا للمضغ جيدا ويفضل لحم الخروف أو العجل الصغير.... كان وليد يضيف الطعام بطبق غسق وهو يهمس لها قائلا
- هيا غسق اريدك ان تنهي الطبق كله
بينما يده تسللت من تحت الطاولة لتمسك يدها بقوة ... حاولت ابعاد يدها الا انه لم يسمح لها ... التفت ينظر لها هامساً بخبث
- كلي عزيزتي ..الطعام يصبح سيء الطعم عندما يبرد
اومأت ووجهها يتوهج احمراراً ...هو لا يفوت فرصة ليتغزل ويتقرب منها ... وهذا يسعدها جداً جداً رغم الخجل الذي للأن تشعر به ناحيته قليلا .... وليد الماكر ... امامهم هادئ ومتزن ووقور ... وما ان ينفرد بها ينقلب مئه وثمانين درجة ... مندفع بعواطفه و جريء بلمساته وهمساته ... لكنها تعشق انقلابه السري هذه وتعشق جراءته الوقحة واعتادت عليها !!
.......................
............................
البصرة
...........
- أذن فأنت ستذهب الى حفل الزفاف فعلاً !!!
قالها حيدر بتعجب وهو ينظر لوجه معاذ المسترخي ... ليجيبه الأخير قائلا وهو يعتدل بجلسته
- اجل ان شاءلله ..لقد وعدت وليد بذلك !!
نظر حيدر لأبن عمه بتركيز .. معاذ متغير منذ عدة ايام ..تحديداً منذ عودته من أربيل ... متغير بطريقة ما ..لا يعرف كيف لكن ابتسامته وشروده المستمر كان امراً مثيراً للأهتمام والتأمل ... قال حيدر بهدوء
- ووالدتك !!
هز معاذ كتفه بتساؤل
- وما بها امي ؟!
ابتسم حيدر وقال
- هل تعتقد انها ستوافق على ذهابك !!
يعلم ان زوجة عمه غير راضية عن سفرة معاذ الأخيرة ... وهو يعرفها جيداً ..امرأة قوية وذات شخصية صارمة ... وهذا منعكس على تصرفاتها وطباعها الحادة ... هي كانت تفرض رأيها على عمه المرحوم الذي كان يٌشهد له بالصلابة والعناد ... كل شيء كان يفعله بإرادته الحرة .. لم يسمح لشخص بالتدخل يوماً في قراراته ...لكن مع العمة هدى كان كل شيء مختلف ... كل العشيرة كانت تعرف بمدى حبه وتعلقه بها وبمدى سيطرتها عليه ... سماحه لها بإبداء رأيها لم يكن ضعفاً منه ابداً بل بسبب حبه وعشق لها ...كان عمه الشيخ دائما يقول ..
" تلك البغدادية قلبت حياة اخي رأساً على عقب وجعلته ينسلخ عن عادات وتقاليد العشيرة"
اخرجه صوت معاذ من تأملاته حين قال
- وليد اصبح صديقي ..وقد دعاني بنفسه ...وانا وعدته بالحضور ... من غير اللائق ان اخلف وعدي له !
اجابه حيدر وهو يرفع حاجبيه بسخرية طفيفة
- لم ترد على سؤالي هل تعتقد ان والدتك ستسمح لك بالسفر !!
ليكمل بتسلية وهو يهز رأسه قائلا
- فقط لو تراها كيف كانت تتذمر بسبب ذهابك هناك في المرة الماضية ..صدقني لم تكن لتفكر بالذهاب ابداً
ابتسم معاذ ليجيبه بهدوء
- اعرف ..امي من بعد وفاة شقيقي اصبحت تشدد الخناق حولي .. وكأنها تخشى فقدي انا الأخر ... اتعرف يا حيدر ...من حقها ان ترفض سفري ... لا تنسى ان اخي لقي حتفه في أربيل !!
سحب حيدر نفساً عميقاً ثم قال
- رحمه الله .... اذن كيف ستقنعها !!
اجابه معاذ وهو يحك مؤخرة رأسه بينما يعود بظهره الى الوراء
- لا اعرف سأفكر بطريقة ما !!
اومأ حيدر قائلا
- وانا سأقف الى جانبك لو احتجتني بأي شيء
حيدر ابن عمه المرحوم صلاح الأخ الأصغر الغير شقيق لأبيه وعمه راشد .... طيب القلب لدرجة كبيرة ..لايعرف الحقد ولا النفاق على عكس ابناء عمومته زاهي ...وحسين كانا قاسيين وماكرين ... متباعدين عنه ..او ربما هو من كان متباعداً ... بسبب حقدهم الدفين عليه ظناً منهم بأنه يفكر ويطمع بأخذ المشيخة من عمه !!
وقد لمحو له بهذا الاتهام لعدة مرات ... حسناً هو حقاً لايعرف كيف تولدت هذه الفكرة الغريبة برأسهم ... كان دائماً يرد عليهم بهدوء يحاول ان يكون صديقاً لهم ... الا ان جميع محاولاته بائت بالفشل لذلك و تجنباً للمشاكل والمتاعب ... آثر الأبتعاد عنهم بصمت ...
- شكراً لك حيدر .. لا اعرف كيف أكافئك على مساعدتك المستمرة لي ... ياليتني امتلك شقيقة ..والله كنت اهديتها لك بطيب خاطر
قهقه حيدر بخفة بينما استحكمت حنجرته غصة مؤلمة ليقف قائلا بمرح
- لا داعي للشكر معاذ ..انت اخي قبل ان تكون ابن عمي ...وبالنسبة للزواج فمن هي التي سترضى بالزواج من أرمل معه ثلاث اطفال !! كما اني لا افكر بالزواج بتاتاً !
ليكمل وهو يغمز بخبث
- تركت مسأله الزواج لك انت يا ابن عمي !!
وقف ومعاذ قائلا بجدية
- انت خير من يعرف سبب عزوفي يا حيدر لذلك اغلق هذا الموضوع الان واذهب لترى مصالحك !
هز حيدر رأسه قائلا قبل ان يغادر المكتب بهدوء
- أراهنك بأنك ستنسى .... وتتزوج .... وقريباً جداً .. لدي احساس ملح يرودني بشأن ذلك ! وانا احساسي لا يخطأ ابداً وانت خير العارفين !!
ابتسم معاذ وهو يعاد الجلوس من جديد ... يحدق بأثر ابن عمه شارداً .... ليهمس قائلا بمرارة
- ليتني استطيع النسيان والبدء من جديد يا حيدر ..ليتني استطيع فعلا !!
....................
................................
الأيام التي تلت كانت حافلة بالتحضيرات والتجهيزات .... الكل مشغول بعمل شيء مهم ... اما هو فقد كان يتلوى غضباً وغيرة وهو يراها ترمقه بلامبالاة وكأنه لاشيء ... تتكلم مع الجميع بسعادة الا معه ... تبصق الكلمات في وجهه ببرود واقتضاب .... من يصدق ان كل هذا يظهر من حبيبة .. تلك الصغيرة الخجولة ...اصبحت قوية وجريئة وترادده بالكلام .... الطفلة السيئة تريد الذهاب الى الجامعة لمصاحبة الشباب ولكي تصطاد لها عريساً ... هز رأسه بسخرية وهو يركز عيناه الثاقبة عليها ...لم تعرف من هو زهير ... ومالذي ينوي فعله معها !!! فقط اصبري حبيبة .. القليل من الصبر وسترين ... اعدك بذلك ..
هتف وهو يتقدم منهما قائلا .. بدتا وكأنهما تستعدان للخروج ... بنظرة فاحصة قيم ما ترتديه ... تنورة طويلة وواسعة مع قميص اخضر اللون احتوى على تطريزات بسيطة ... شعرها جمعته على شكل جديلة طويلة ..ووجهها خالي من مستحضرات التجميل نهائياً .... سحب نفساً طويلا وهو مطمئن ..هذا يشعره ببعض السعادة ... لكن رغم ذلك كانت جميلة جدا
- الى اين العزم ان شاءلله !!!
اجابت تبارك بطيبة وهي تعدل من لف الحجاب حول وجهها
- سنذهب مع امي للسوق لنشتري الفساتين لي ولحبيبة ولرضاب !
التفت حوله قائلا
- واين هي امي ورضاب !!
اجابت ببراءة
- امي في الغرفة ذهبت لتحضر عبائتها ... ورضاب لن تخرج كالعادة طلبت منا اختيار الفستان لها !!
اومأ وذهب لعدة دقائق ثم عاد اليهم من جديد وعلى وجهه ابتسامة واسعة ومنتصره وهو يقول
- هيا سأخذكم انا الى السوق
رفعت تبارك حاجبيها بتعجب وقالت
- وامي !!!
ليجيبها وهو يلتقط مفاتيح سيارته وهاتفه المحمول من المنضدة المقابلة لشاشة التلفاز
- امي تعبه لن تأتي ...
ثم نظر لحبيبة قائلا بمكر
- ثم انا سأكون معكم واساعدكم بالاختيار ايضاً لو اردتم !!
هتفت تبارك باستنكار
- لاااااااا شكراً لانريد منك الا ان تأخذنا ذهاباً واياباً وكثر الله خيرك ..الى هنا ونكتفي بخدماتك !

كانت حبيبة تتابع ما يجري بصمت لكنها بهتت عندما قال بأنه هو من سيرافقهم الى السوق !!! لديها شعور بأن هناك مصيبة بأنتظارها ... فليستر الله ... مشى امامهم بخيلاء وتعجرف بينما تبعته تبارك بسرعة وهي غافلة عن تلك الشرارات المتوترة التي حامت بين زهير وحبيبة .... تنهدت حبيبة هامسة وهي تلحق بهم ... ماهذه الورطة ياربي !!
.........................
.........................................
اغار عليك من الهوا لو فات
واحبك مو مثل باقي اليحبون
ماتلكه اليعزك مثلي هيهات
اني لشوفتك ضميت العيون
افرح من اشوفك يوم مرتاح
واحزن لو اشوفك يوم مهموم
واذا صب الدمع من عينك وطاح
اطيح اني اعله وجهي وبعد ماكوم
.................
بعد جولة دامت لعدة ساعات اشتروا كل ما يحتاجونه ... واتصلوا بزهير الذي اوقف سيارته وسارع ناحيته الرصيف ليساعدهم بوضع العلب في صندوق السيارة ... وبينما هو يغلق الباب سمع صوت شاب همس قرب حبيبة التي كانت تقف على الرصيف كلام بذيء ووقح ... جعلت الدماء تتجمد في عروقه لوهلة لتعاود الفوران والحرارة .. وكأن اذنيه ستخرج دخاناً ساخناً لا محالة .. توقف وهو يكور قبضتيه بقوة ثم عاد أدراجة ليلحق الشاب الذي مشى عدة خطوات بطيئة ليوقفه قائلا ببرود
- ان كنت رجلا اعد ماقلته !!
التفت الشاب الذي اوحت ملامحه وهيئته بأنه ليس من أربيل ربما هو سائح جاء من احدى المحافظات الاخرى ... ليرمق زهير بنظرة ساخرة ووقحة من رأسه لأخمص قدمية ... وأجاب بتحدي وهو يركز عيناه على عيني زهير
- مؤخرة مثيرة !!!
بعد ان نطق بهذا الكلام فقد زهير كل ذرة للتعقل في رأسه ..انهال على الشاب بالضرب والسباب بينما الشاب يبادله اللكمات والضربات وكأنه لايبالي ... كان يماثل زهير طولا و رشاقه ...بعد مشاجرة دامت لعدة دقائق ثقيلة ... التف حولهم بعض المارة ليفضوا الشباك بينهم ... وبالفعل تركه زهير مرغماً وهو لايزال يرغي ويزبد بالكلام والسباب .... بينما حبيبة وتبارك جامدتان تنظران لما يجري بخوف وذعر .. خاصة حبيبة كانت تعرف ان ما حصل لن يمر مرور الكرام .... الله اعلم مالذي سيفعله زهير معها ...فهو بكل تأكيد سيوبخها ويلقي اللوم عليها .... هذا الشاب كان يلاحقها من مكان لمكان ويرمي الكلام الهامس قرب اذنها ... تبارك لم تكن منتبهه فهي كانت منشغلة بالنظر الى واجهات المحلات ... يا ليتها امتلك الجرائة لتوقفه وتضربه بالحذاء على رأسه ... لكنها هكذا خجولة وجبانة .... الوغد لقد تمادى فعلا ويستحق كل ما جرى له ...
عاد زهير وهو بحال يرثى لها ... ازرار قميصه الأولى مقطوعه و كدمة حمراء على وجنته ... كان يمسح الدم العالق اسفل شفته وهو يهمس بتوعد
- هيا امامي قبل ان ارتكب جريمة قتل الان !
مشت تبارك جانبه وقالت بينما حبيبة تسير جانب تبارك بخوف
- اهدأ يا زهير ...لم يكن عليك ان تدخل بشجار من اجل شيء تافهه مثل هذا !!
التفت ينظر لها بشراسة قبل ان ينقل نظراته المظلمة ناحية تلك المسكينة الشاحبة
- تفاهه !!! يقول لحبيبة تمتلكين مؤخرة مثيرة وتريدين مني السكوت !!! لماذا هل اخبرك احدهم اني جبان ولا استطيع الدفاع عن اهل بيتي !!!!
لم ترد عليه فقط لحقت به وهي تمسك حبيبة من ذراعها ... وما ان دخلو الى السيارة حتى هتف زهير قائلا
- اسمعيني جيداً حبيبة ..منذ اليوم لايوجد خروج من المنزل مطلقاً ... الا بوجوي انا !! فهمتي !
ابتعلت ريقها تنظر لعيناه المركزة عليها من مرآة السيارة ليهتف بغضب
- اجييييييبي لم اسمع صوتك !!!
همست بخفوت وقد تجمعت الدموع بعينيها بينما قلبها يخفق بجنون
- فهمت
عندما لمح دموعها رق قلبه لها ...هي ليست المذنبة ابداً ..حتى ملابسها محتشمة ومستورة ... الذنب يقع على أولائك الشباب المنفلتين الذين لا يراعون شرف الناس ولا حرمتهم ... تباً هو يغار عليها من وليد ...وليد الذي يعرف جيداً بأنه يعتبر حبيبة ورضاب كابنتيه ... فكيف سيكون حاله وهو يرى ويسمع ذلك الشاب المستهتر يوجه هذا الكلام لحبيبته ... صغيرته ... وزوجته المستقبلية ... قسماً بالله لو لم يتدخل المارة بأنقاذ ذلك الأهبل لكسر له أضلعه ... وليدخل بفصل عشائري او يبات ليلته في السجن لم يكن ليهمه الأمر ابداً !
جميعهم التزموا الصمت طوال طريق العودة ... كانت حبيبة تنظر للنافذة بشرود ... لم تدير وجهها ناحيته ابداً ... تعرف جيداً بانه يسلط نظراته عليها من المرآة .... ما ان وصلو الى المنزل حتى سارعت بالنزول دون كلمة واحدة ...
هتفت سعاد بقلق واستنكار وهي تشاهد تلك الكدمة في وجهه ولدها
- رباااه مابه وجهك يا زهير !!!
اجابها بجمود وهو يتوجه لغرفته
- لاشيء ... فقط اصطدمت بعمود النور دون ان انتبه !!
همست سعاد بتعجب وهي تتابع خطواته المبتعده
- عمود النور !!!
التفتت تنظر لتبارك بتساؤل لتجيب الاخيرة وهي تلحق حبيبة التي هرولت لغرفتها بسرعة البرق
- كما قال لك امي ...اصطدم بعمود النور ...
ضربت سعاد كفاً بكف وهي تهز رأسها قائلة بذهول
- الحمدلله رب العالمين ... يبدو ان اولادي قد عادوا لفترة الطفولة من جديد !!!
.............................
.......................................
مغمضة عيناها تذهب بسبات ثقيل بعد نوم متقطع بسبب تلك الكوابيس التي تزورها ككل ليلة ... والتي لم تخلف ميعادها يوماً ..كأنها اقسمت على عدم تركها ابداً حتى ولو لليلة واحدة .... احست بأنامل صغيرة تتحرك حول وجهها بشقاوة وهمس طفولي خافت
- هياااا امي انهضي !
ظلت مغمضة العينين .... هل فعلا سمعت صوت يقين توقضها !!! لالا بكل تأكيد هذا حلم وليس حقيقة ... عاودت تلك الأنامل الرقيقة مداعبت رموشها ..انفها ...وجنتيها برقه ...مع ضحكة طفولية ماكرة .... فتحت عيناها بتمهل ..كانت الرؤية مشوشة بسبب نور الشمس الذي حجب وجهها عن مدى رؤيتها ...لتتضح الصورة ببطء .... اتسعت ابتسامتها برقة وهي ترفع يدها بعدم تصديق لتلمس تلك الخصلات الناعمة وهي تقول بصوت مبحوح
- يقين .... ابنتي ..أهذه انت !!!
انحنت ملك وقبلتها دون ان تنطق كلمة ... فالطفلة اعتادت على ان تطلق عليها رضاب اسم يقين ولم تكن تمانع ابداً ... اعتدلت رضاب جالسه وهي تحتضن ملك من خصرها ثم ترفعها لتجلسها على فخذيها ....
- اووووه يا الهي ...انا لا احلم .... متى اتيت حبيبتي !
هزت كتفها وقالت بنبرتها المحببة
- احضرني عمي قبل قليل وقال لي ..ستبقين هنا اليوم وغداً !
قربتها رضاب لصدرها وقبلت رأسها بسعادة .... رؤيتها لوجه يقين البشوش جعل الصباح اجمل صباح مر عليها لحد الان ... همست بحنان
- اتمنى ان تبقي معي طوال العمر صغيرتي وليس ليوم واحد فقط !!
نظرت لها ملك بصمت بينما أصابعها تتلاعب بأزرار الثوب المنزلي الذي ترتديه رضاب ... لتنزلها رضاب ارضاً وهي تقول
- والان ...تعالي معي لأغسل وجهي واسناني ومن ثم نفطر معاً ... وبعدها نرى ماذا سنفعل فيما بعد !
.........................
...................................
كان المنزل بحالة فوضى تامة ...رضاب تقضي اغلب الوقت مع ملك ... تبارك ذهبت مع غسق الى صالون التجميل ...بينما تجمعن النسوة من الجيران والاقارب مع سعاد وسعدية لمساعدتهما في التحضيرات .... حبيبة كانت تمد يد المساعدة لخالتها متى ما ارادت ... مشت بتمهل لتتجه الى غرفتها لكنها توقفت عندما سمعت صوت زهير يناديها من داخل غرفته قائلا
- حبيبة تعالي هنا !!
قطبت وهي تزم شفتيها بضيق ..ماذا يريد منها الأن !!! تنهدت وتقدمت لتقف عند الباب تجيب ببرود
- نعم !!
كان يرتدي بنطالاً اسود ... بينما جذعه العلوي عاري تماماً ... يمسك بيده قميصاً قطني ازرق اللون ... التفت ناحيتها ثم قال ببراءة تامة وعيناه العسليتان ترمقانها بتوسل ...كانت الكدمة لاتزال تزين جانب وجهه الوسيم ... رغم شفقتها عليه لأنه حصل على هذه الكدمة بسببها ..الا انها ما ان تتذكر تحكماته وثقته الزائدة عن حدها حتى يشتعل فتيل الغضب داخلها من جديد
- حبيبة ..هلا قمت بكي هذا القميص !!! وبسرعة من فضلك !!
ارادت الرفض وليفعل ما يشاء الا ان المنزل مليئ بالضيوف كما ان تبارك ليست هنا لتقوم بهذه المهمة ..اذن ليس هناك الا هي ... اجابت بضيق وهي تتقدم لتأخذ القميص من يده بينما تحاول قدر المستطاع ابعاد نظراتها عن هذا الجسد العضلي المتناسق وكأن آله اغريقية قديمة تقف امامها
- حسناً دقائق ويكون جاهزاً
استدارت لتخرج الا انه امسكها من ذراعها قائلا
- الى اين !!
اجابت ببرود بينما جسدها يرتجف بقوة ... فرائحته العطرية جعلت نبضاتها تتصاعد والحرارة تكتسحها كالطوفان
- اكويه في غرفتي
هتف بمكر وهو يسحبها للداخل
- لالالا ... هاهي المكواة لا حاجة للذهاب لغرفتك ثم العودة لغرفتي ...وكل تلك المشاوير الطويلة ...اكويه هنا وانتهينا
اومأت وهي تبتلع ريقها بأرتباك ثم توجهت للمنضدة المخصصة لكَي الملابس وشرعت عملها صامته ..جلس على طرف السرير يراقبها بسعادة ... شبك اصابعه خلف رأسه ثم وضع ساق فوق الاخرى واخذ يحدق بها بافتتان ....
متى سيأتي هذا اليوم الذي ستكون فيه حبيبة زوجته !!! متى يغلق الباب عليهما وينهال على هذا الفم المغوي تقبيلا ... وعلى تلك الرقبة المرمرية استنشاقاً ... هو لو اراد لكلم وليد اليوم قبل الغد واخذ موافقته لكن ... لا ... الان ليس وقته ...خاصة وانها أصبحت متمردة ..لا تطيق له كلمة ...لقد تغيرت كثيراً ... اين ذهبت قطته الصغيرة الخجولة !!! لكن مع ذلك يعجبه قوتها وكبريائها .... يعجبه جداً ... اتجهت نظراته لشعرها الطويل الممتد خلف ظهرها كالشلال الحريري ليقول بهدوء
- متى سترتدين الحجاب !
اجل يريدها ان ترتدي الحجاب ... يجب ان يحافظ عليها ... للأن يشعر بفوران الدماء في اوردته ما ان يتذكر تحرش ذلك الحيوان الحقير ...
رفعت اليه نظراتها المتعجبة المندهشة ... مالذي ذكره بهذا الامر الان !! قالت بلامبالاة وهي تعاود التركيز على الكي
- لم اقرر بعد !!
ليجيبها بنبرة متهكمة وابتسامة ساخرة
- ومتى ستقررين حبيبة خانم !!
عندما يقول حبيبة خانم لاتعرف مالذي يحصل لها .. حقاً لاتعرف ... لكن الذي تعرفه بأن ما تريده هو ان تنبش اظافرها في وجهه الوسيم ... لتمحي هذه النظرة المتهكمة والابتسامة الساخرة ..اجابته بتحدي
- ليس الأن ...وليس في القريب العاجل ...لازال الوقت مبكراً !
هب واقفاً واتجه اليها ليقول بحدة وهو يمد يده ليمسك جديلتها الطويلة التي يعشقها والتي لايطيق ان ينظر لها اي شخص
- عمرك سيصبح عشرون عاماً ! وتقولين الوقت مبكر ؟! ام ربما تعجبك نظرات الشباب التي يوجهوها ناحيتك !!! ها ... اجيبي !!
ابعدت يده وقالت وهي تضع القميص جانبا و تبتعد عنه خطوتان
- ارجوك زهير ...هذا امر يخصني انا وحدي ...وانت وان كنت ابن خالتي لايعطيك الحق بأملاء الأوامر لي ... ثم رضاب غير محجبة ..لماذا لاتطلب منها ان تتحجب !
الماكرة الصغيرة وجهت له ضربة مباشرة و اصابت الهدف مباشرةً .... ماذا سيقول لها !! ايقول انه يحبها ويغار عليها ؟! ام يقول بأن رضاب لاتهمه مثل ما تهمه هي ...ولا تشغل عقله وتفكيره مثلما تفعل هي ! وشعور التملك هذا لا يجتاحه ولا يستيقظ من سباته الا ناحيتها هي فقط !! حدق بها بجمود وصمت دام لعدة ثوان قبل ان يجيبها قائلا بهدوء
- لا تقارني نفسك برضاب ..فهمتي !!
آلمها جداً ما قاله ...لماذا !!! مالذي فعلته ليجعلها مختلفة ويجعل علامات الاستفهام تتجه اليها
لتهمس بعينان دامعتان
- لماذا تفعل هذا بي زهير !!! لماذا تعاقبني بهذا الشكل !! مالذي اقترفته بحقك !!
اتسعت عيناه بشدة .. رباه الحديث اخذ يتخذ منحنى اخر تماما !! كلما اراد اصلاح الامور بينهما يعقدها بتسرعة وغضبه الاهوج
- وهل طلبي منك ارتداء الحجاب هو عقاب بوجهه نظرك يا حبيبة !
نظرت له بحيرة ... تشوش .... وعتاب ... ليكمل بهدوء ولطف وهو يتقدم منها اكثر الى ان وقف قبالتها تماماً ينظر لعينيها الدامعة بلين
- لماذا لا تسميه اهتمام ... غيرة ... حرص !
فتحت شفتيها تريد ان ترد الا ان لسانها عقد ..طارت الكلمات من عقلها ..غيرة ...حرص ..اهتمام ...مالذي يقصده بالضبط !!! قلبها يكاد ان يتوقف من شدة ضرباته ... بينما برودة مع حرارة اختلطا ليسيرا عبر عمودها الفقري ... احست بتجمع العرق على جبينها ... مايجري بينهما الان خطأ ...لايجب ان تقف هكذا امامه قريبة منه ... وهو .. يشرف عليها بطوله الفارع وعضلاته المفتولة ..بينما عيناه العسلية ترمقها بهذه الطريقة الدافئة الحنونة ... هذا الرجل بكل تأكيد يستغل برائتها وعدم نضجها ....
كان يركز نظراته على شفتيها ... ثم يعاود الصعود ليلتهم وجهها المحمر ... لاتعرف كيف شحذت طاقتها المسلوبة وحركت قدميها المتخشبة لتبتعد من امامه بصعوبة وتتجه الى الباب المفتوح ...تهرب من نفسها قبل ان تهرب من السر الكامن خلف تصرفات زهير المحيرة !!!
..........................
......................................
ليلة الحناء
..............
لن تهربي مني
فإني رجلٌ مقدرٌ عليكِ
لن تتخلصي مني
فإنَّ الله قد أرسلني إليك
.....................

الحديقة تضج بالمدعوين والشباب الذين جاءوا لمشاركة وليد سعادته .... الاغاني الخاصة بهكذا مناسبات كانت تتعالى في ارجاء الحديقة ... الاضواء معلقة على اشجار البرتقال والليمون ... بينما نهض بعض الشباب ليقوموا برقص الدبكة الكردية ليشاركهم وليد وزهير بذلك
تقام عادة الحنة في ليلة الأربعاء التي تسبق ليلة العرس في بيت العروس وبما ان غسق تعيش في نفس المنزل فقد كانت الحفلة واحدة .... حفلة الرجال في الخارج وحفلة النساء في داخل المنزل ... .
نصبت سعاد صينية كبيرة احتوت على شموع الكافور .. والياس وكاسات الحناء ... كانت غسق ترتدي فستان كرزي اللون رائع الجمال عاري الذراعين لا يحتوي الا على حمالات رفيعة ... مظهراً مقداراً سخياً من مقدمة صدرها المكتنز و الذي غطته بشال واسع يشبه لون فستانها ... شعرها مصفف بطريقة مموجة على جانب وجهها ... الرذاذ اللامع كان قد رش على شعرها وصدرها .. بينما مستحضرات التجميل كانت قد وضعت لها بطريقة اظهرت زرقة عينيها واكتمال شفتيها الشهيتان ... وتلافياً لأي احراج فقد طلب وليد وشدد على والدته لأكثر من مرة بعدم السماح مطلقاً للمدعوات بالتقاط الصور في الهواتف النقالة ...
الاغاني والزغاريد كانت تملئ المكان بهجة وسعادة بينما بعض الفتيات وقفن ليراقبن بسرية رقص الشباب على الدبكة الكردية من النافذة ....
رضاب كانت تشاركهم السعادة بصدق هذه المرة ..كيف لا وابنتها معها منذ الصباح الباكر ...لقد علمت فيما بعد ان معاذ قد حضر الزفاف بدعوة من وليد .... ثم ارسل ملك مع زهير قائلا له بأنه سيتركها اليوم في عهدة رضاب ... تنهدت براحة وهي تنقل نظراتها تراقب حبيبة وتبارك اللتان تجلسان قرب غسق .... يبدو ان معاذ هذا شخص طيب القلب ... اجل والا لم يكن ليكلف نفسه عناء الحضور من البصرة الى اربيل وهو لم يكد يتعرف على وليد .... لكنها لازالت متخوفة من جدة الطفلة ...خاصة وانها تخبر يقين وتشدد عليها على عدم ذكر اسمها ابداً ! فالطفلة تخبرها ببرائة شأنها كشأن كل الاطفال ... عن كل ما تقوله جدتها عنها !
كانت غافلة عن عيون النسوة المركزة عليها فهي اليوم متألقة وجميلة .. خاصة وهي ترتدي هذا الفستان المحتشم ذو اللون المتدرج من الأزرق الى الاخضر الفاتح .... كان وجهها متوهجاً وعيناها تلتمع كالنجوم البراقة في السماء الصافية ... وضعت لها تبارك القليل من مستحضرات التجميل و بعد الحاح شديد وافقت على ذلك .... فجأة شعرت بيد الصغيرة تضغط على يدها هامسة بتذمر ودلال
- تعالي .. تعالي
همستها ملك وهي تسحبها من يدها ..لتقطب رضاب وهي تنهض قائلة بحنان
- الى اين تأخذيني يقين !!!
لكنها لم ترد عليها لتكمل رضاب ضاحكة بنعومة وهي تتبعها مستسلمة
- حسناً ... حسناً ... على مهلك صغيرتي ها انا قادمة !!
تبعتها بابتسامة واسعة وهي تنظر لملابس ملك الجميلة كانت قد البستها فستان منفوش يشبه فساتين الاميرات ... فهي قد اوصت تبارك بشرائه لها عند ذهابها للسوق ... البسته لها فور وصولها الى اربيل .... كل الامور التي خططت وحلمت ان تفعلها مع طفلتها الراحلة هاهي تحققه الان ... حبها لهذا الطفلة يزداد يوماً بعد يوم وكأنها فعلا قطعة من قلبها .... وصلت الى المطبخ لتتفاجأ بوجوده ... كان يقف قرب الباب الخارجية للمطبخ مولياً ظهره لها .... تجمدت مكانها وهي تنظر لظهره العريض وطوله الفارع ...
مالذي يفعله هنا !!! ولماذا اصرت يقين على إحضارها للمطبخ !!! لم تعرف كيف تتصرف ارادت الانسحاب بهدوء الا ان صوته الرخيم أوقفها حين استدار قائلا لها وعيناه الزيتونيتان تعكسان دفئاً وطيبة لم تخطئها ابداً
- انتظري من فضلك !!!
....................
..............................
نهاية الفصل الرابع والعشرين

رماد الغسقحيث تعيش القصص. اكتشف الآن