40

177 9 0
                                    


الفصل الأربعون
..................

خرجت من المصرف متوجه إلى عيادة عبد العزيز ..الذي اتصل بها قبل خروجها بدقائق وطلب منها الحضور لأمر مهم جداً ....
ابتسمت وهي تتذكر مكالمته الهاتفية في ليلة عقد القران .... فما ان خرج من منزلهم حتى اتصل بها بعد مرور بعض الوقت ...ظلا يتحدثان ويتجاذبان أطراف الحديث الى ساعات متأخرة ...
رغم إرهاقها الجسدي الذي كانت تشعر به ورغم انها كانت تتوق لوضع رأسها على الوسادة لتنام بعمق بعد يوم حافل من التحضيرات والترتيبات ..... الا أنها ما ان سمعت صوته حتى دب فيها الحماس وغادرها النعاس فوراً ...

عدلت حزام حقيبتها على كتفها وهي تدلف العيادة .... كان يقف في الغرفة المجاورة لمكتبه يقوم بفحص قطة صغيرة ... وكأنه احس بدخولها اذ التفت اليها قائلا وقبل ان تلقي السلام عليه
- دقائق وانتهي ....

اومأت وجلست على الكرسي المجاور لمكتبه .... دارت عينيها في المكان وهي تتذكر اخر مرة زارته هنا .... كيف طردها وجرحها ببرود ... يالله كم كان الامر مؤلما ومرهقا لها .... وكم كانت تعاستها كبيرة في تلك الفترة .... لكن الان تغير كل شيء ....لن تتذكر الماضي بعد الان ... لن تتذكر الا كل ماهو جميل ومشرق من حياتها السابقة ...اما جراحها واحزانها ...فستحاول محوها من قاموسها الى الأبد .....

سحبت نفسا عميقا ثم انحنت لتقطت مجلة علمية كانت موضوعة على المنضدة المقابله لها ..... بدأت تتصفح بملل ... بعد مرور بعض الدقائق خرج عبد العزيز ثم جلس خلف مكتبه وكتب العلاج اللازم وهو ينصح صاحبة القطة ببعض النصائح ...ودعته الفتاة وما ان غادرت العيادة .....
حتى هب واقفا ثم استدار و اتجه اليها قائلا بترحيب حار
- كيف حالك تبارك ..
منحته ابتسامة رائعة أظهرت سعادتها وحبها له بوضوح
- الحمد لله يا عزيز ...انا بخير كيف حالك انت !
- أصبحت بخير ما ان رأيتك
احمرت وجنتاها وقالت متسائلة
- ما هو الشيء المهم الذي أردتني من اجله ؟!
امسك يدها وحثها على النهوض قائلا بمرح

- تريدين معرفة السبب بهذه السرعة ؟!! لا تقولي بأنك تخافين من وجودك معي منفردة في مكان واحد ؟!!
هزت رأسها و نفت قائلة بصدق
- كلا طبعا ..لكن ..حسنا فقط شعرت بالقلق قليلا
اجابها بمراوغة ..فهو حقا قد أراد اختراع اي حجة لكي يراها ويأخذ راحته معها أكثر ...تلك المكالمات الهاتفية والرسائل لا تشبع ولو بمقدار ذرة من توقه المتزايد لقربها منه ..

- اممممم !! كنت اريد ان اطمئن على الطائر الذي اشتريته سابقاً .....ترى كيف حاله ؟!!
ضحكت بخفة وأجابت بتعجب
- ما الذي ذكرك به الآن ؟!!!
رفع حاجبيه واتسعت ابتسامته الماكرة ليرد بهمس
- ماذا يا تبارك !!! هل ترين ان الاطمئنان على صحة الطائر ليس بالامر المهم !!!

ضحكت مرة اخرى وقالت وهي تجاريه مرحه ومداعبته التي زادته وسامة وجاذبيه بنظرها

- لا ...معك حق ....في الحقيقة هذا سبب قوي ومهم جدا ...على كل حال اطمئن ...هو بصحة جيدة كما انه يوصل سلامه الحار لك ....
اومأ قائلا بجدية
- حسنا ..هذا جيد ...

تنحنح قائلا وهو يلقي نظرة خاطفة على باب العيادة

- تعالي لغرفة الفحص هناك امانه يجب ان أعطيها لك لتوصليها للطائر المسكين
لم يمهلها حق الرد ..اذ سحبها مسرعا الى الداخل ... لتتبعه وهي تحاول ان تجاري خطواته الطويلة .... دلفت الى غرفة الفحص ...وأخذت تنظر حولها بفضول ... كانت غرفة صغيرة
مطلية باللون الأبيض ...وضع في وسطها سرير للفحص فرشت عليه ملاءة تماثل لون الجداران .....
بعدة عدة ثوان ..أحست بأنفاسه الحارة تلفح وجنتها ... التفتت ناحيته هامسة بخجل

- ماهي تلك الأمانة عزيز أريد العودة لقد تأخرت كثيرا ؟!
اجابها بهدوء وهو يقترب منها اكثر وبجراءة كبيرة لم تعتد عليها للآن

- لا تخافي ...لن تتأخري ثم نحن سنتناول الغداء معا ...لقد استأذنت من وليد ...
ابتسمت بتوتر ثم اسبلت اهدابها منتظرة ما سيقوله لها .....
كانت عينه السليمة تتجول على معالم جسدها بجراءة ....من الممكن ان يتخيل ما يخفيه هذا الفستان الكريمي الفضفاض تحته .. جسد مثير مطبوع للان في مخيلته منذ ليلة عقد القران
لا يستطيع ان ينسى كل تفصيلة صغيرة من تفاصيله التي اكتشفها بتلك الليلة .... بشرة سمراء مخملية ... شعر اسود لامع حريري ..... صدر عارم مكتمل الأنوثة .... عنق رائع يتوق لان يدفن وجهه فيه يستنشقه ويقبله بقوة .....

صعدت نظراته مرة اخرى لوجهها المخضب بحمرة الخجل الذي زادها جمالا و رقة ....ادارت رأسها جانبا تدعي النظر الى الاجهزة الطبية المتراصة ....لتهمس قائلة
- عيادتك لطيفة جدا !
ضحك بخفة بينما اخذت الدماء تندفع داخله بحرارة وضربات قلبه تصدر ضجيجا مدويا خلف قفصه الصدري ليجيبها بنبرة خشنة مليئة بالعاطفة
- ليست الطف منك تبارك !
عضت شفتها بحرج ..يا الهي مابه عزيز لما يتكلم معها بهذه الشكل الخافت والحميمي ...خشونة صوته الرجولي كان يعبث بدقات قلبها ويجعلها مرتبكة ومشوشة .... احست بأصابعه القويه تمسك ذقنها ليدير وجهها ناحيته ...هالها مدى قربه منها ...لم يكن يفصل بين وجهيهما الا انشات قليلة فقط ....
- الان سأعطيك الامانة الخاصة بالطائر
همسها بصوت ابح وهو يتناول شفتيها ببطء ...بينما احتضنت ذراعه القوية خصرها ليقربها منه اكثر .... ابتعد عنها وشفتيه تلامس شفتيها هامسا بلهاث ..
- تبارك ....
كانت تبارك تستند بجسدها عليه كليا ..... بينما اصابعها تمسك ذراعيه بقوة .. عاود تقبيلها مرة اخرى وبعمق اكبر ....استطاعت ان تشعر بمدى رغبته المعذبة لها ...... وهي ايضا كانت تريده وشغفها به لا يقل عن شغفه بها ابداً .....

ابتعد عنها بأنفاس لاهثة وحارة وهو يقول
- اليوم ساذهب إلى دهوك لحضور مؤتمر الأطباء البيطريين الذي يعقد هناك .... سيستمر ليومين وعند عودتي سأتفق مع وليد على موعد الزفاف ..اريدك ان تكوني قربي يا تبارك ....لم اعد أتحمل ....

ضحكت بخفوت وخجل وهي تهز رأسها بالموافقة .... ابتعد عنها قائلا بمرح وسعادة وهو يعدل هندامه

- الامانه وقد واصلتها لك بسلام ....والان دقائق وسأأخذك الى افضل مطعم في اربيل يختص بتقديم الكباب المشوي بأطيب والذ طريقة ....
راقبته بعشق وهي تكاد لا تصدق مدى السعادة التي صبرت كثيرا لتنالها في الأخر

.........................
....................................

البصرة ظهراً
..........
كانت تجلس قرب جاسمية على مقعد الانتظار في الردهة...بينما يقف في الجهة ألمقابله لهما زوج جاسمية مع ابن عم معاذ ( زاهي )..... الشيخ راشد حضر لبعض الوقت ثم غادر بحجة ارتباطه ببعض الأعمال الهامة ....والتي لا يمكن تأجيلها ...

تذكرت ما جرى ليلة امس حين ايقضتها ملك بذعر وخوف ... في حينها شعرت وكأن ماء حار دلق فوق رأسها .... نهضت بصعوبة وكأن قدميها أصبحت من الهلام ....المسافة بين الصالة والحمام بات طويلا ...الخطوة الواحدة تعادل دهراً من الزمن ..... عندما وصلت إليها كانت ممدة على الارض ... على جهتها اليمنى .... أسرعت نحوها وهي تصرخ بهلع لترفع رأسها على مهل وبحذر.... وتضرب خدها المزرق برفق

- خالتي ...خالتي هدى ...رباه ..خالتي ارجوك اجيبني ..خالتييييييييييييييي !!!!

لا جواب ... ضغطت على عنقها بحرفية لتتأكد من وجود النبض الذي أنبئها بأنها لا تزال على قيد الحياة ... حسنا رضاب اهدئي ...اهدئي ...الخالة لا تزال حيه ...تصرفي بحكمة وشجاعة همستها بثبات وهمي رغم ذعرها و ارتباكها الداخلي .... ثم اخذت تنقل نظراتها حولها بجنون وعقلها قد شل تماما عن التفكير .... خاصة مع صرخات وبكاء ملك الهستيري التي اتخذت جانبها تبكي بقوة وهي تحتضن دبها الصغير .... وبكل ما اوتيت من قوة نهضت واخذت تسحبها برفق الى الصالة ...جسدها كان ثقيلا جدا بالكاد استطاعت ان توصلها الى جانب الأريكة ...وضعت تحت رأسها احد الوسائد المربعة ... ثم وقفت هامسة بأنفاس مقطوعة وهي تمسح جبيتها المتعرق
- ماذا افعل يا الله ؟!!! ماذا افعل !!!!
فكرت ان تذهب مستنجدة ببعض الجيران لكنها عوضا عن ذلك اتصلت بجاسمية وأخبرتها بكلمات متلعثمة ولاهثة ...شارحة لها كل ما جرى باختصار ..... لم يمضي عدة دقائق لتأتي جاسمية مع زوجها وولدها محسن ... الاخير الذي تكفل بأخذ ملك الى منزلهم لإبقائها هناك بينما ذهبت هي مع جاسمية وزوجها الى المشفى .... الطبيب قال بأن حالتها خطرة ...فهي تعاني من جلطة قلبيه وان فرصة نجاتها شبه مستحيلة .... خاصة وانها تعاني من ارتفاع في الضغط والسكر ......لقد بذلوا جهدهم لإسعافها .... اما الان فكل ما عليهم هو الانتظار والدعاء ! خاصة في الساعات القادمة والتي ستكون الحاسمة بالنسبة لها !!

وهاهي تجلس منذ ليلة امس ودموعها لا تجف ابدا .... اااه معاذ اين انت ..انا احتاجك بقربي الان ..... ليتك تعود لترى ما اصابنا بغيابك .....مسحت دموعها وهمست بإصرار ..يجب ان اكون قوية لأجله ..هو طلب منها ذلك ... طلب ان تكون قوية وصلبه ....تواجه ما يعترضها بشجاعة ....وهي ستستمد شجاعتها منه ..معاذ معها ...تشعر به حتى وان لم يكن قربها ....
صمت رهيب ومتوتر كان يخيم عليهم ....
كانوا على يترقبون وينتظرون ما سيحصل برهبة وهلع ...خاصة هي ...بعد مرور بعض الوقت سمعوا صوت الجهاز الطبي يصدر صفيرا مدويا ... لتصبح الردهة بثانية واحدة مليئة بالممرضات والأطباء
بينما ظلت هي جالسة تنظر للباب المفتوح بجمود وقد تجمعت بعينيها الدموع .... وكأنها معزولة عن الكون كله ... بل وكأن ما يجري حولها لا يمت لها بصلة ... تريد ان تتحرك وتقف لكنها تصنمت مكانها ...فقط عيناها شاخصة امامها وضربات قلبها تكاد تتوقف عن الخفقان ..... ليخرج الطبيب بعد عدة دقائق قائلا بأسف ووقع كلماته نزلت فوق رأسها كصاعقة قوية وحاسمة شطرتها لنصرفين
- البقاء لله !!!!!!!!!!!!!

...........................
..................................

ما جرى بعد ذلك كان يشبه الكابوس ...ملئ المنزل بلمح البصر بالنسوة المتشحات بالسواد ...بعضهن جئن ليقدمن العزاء وبعضهن اشرفن على اعداد الطعام وتقديم الشاي والقهوة .... اصوات العويل والبكاء ارتفع في انحاء المنزل ...وهي جالسة في ركن منعزل ...تلبس ملابس سوداء وتلف شعرها بحجاب يماثله باللون ...تجمدت الدموع بعينيها ..وكأنها تعاندها وتأبى النزول ....
تجلس معهم جسد بلا روح ....كان شريط ذكرياتها القريبة يدور امام عينيها كالفلم السينمائي
كيف تحدث معها وكيف طلبت منها المسامحة ...كيف اعطتها المصوغات ووصتها بتلك الوصايا التي اقشعر له جسدها ما ان سمعته .....
وكأنها كانت تعرف ان يومها قد حان وانها ستفارقهم قريباً .... لكنها لم تمت ... ربما هي تحلم ... ربما ستصحو بعد قليل وتجد خالتها هدى لاتزال جالسة في غرفتها .... اغمضت عينيها بتعب .... لم يمضي عدة ساعات الا وسمعت جاسمية ترحب بخالتها سعاد ... لتهب واقفه لتستقبلها كالطفلة التي وجدت ملاذ امانها الذي اضاعته
اجل بغياب معاذ وموت والدته اصبحت الخالة سعاد هي طوق النجاة الذي تتعلق وتجد به امانها وحنانها الذي تفتقده .... ما ان دلفت سعاد حتى اندفعت رضاب اليها لتحتويها الاخيرة بذراعيها المفتوحتين لها على الدوام .... تتبعها كلا من العمة سعدية وحبيبة وتبارك وغسق اللاتي جئن لتقديم التعزية والمساندة لها .....
وكأن بوجود خالتها انفجر السد الذي كان يكبح دموعها ...لتبدأ بالبكاء والهمس بصوت خافت
- خالتي ...لقد ..لقد ..ماتت ..تركتني هي الاخرى تماما كما فعل معاذ ومن قبله يقين ...لم يعد لي احد ..انا وحيدة وضائعة ....
شددت سعاد من احتضانها وهي تساعدها على الجلوس لتهمس بحزن
- البقاء لله حبيبتي ..الموت حق على الجميع ...تشجعي وتماسكي ....استعيذي بالله واقرئي لها القران طفلتي
حاوطنها الفتيات من كل جانب بينما جلست حبيبة في الجهة الاخرى لرضاب وهي تهمس لها بالكلمات المواسية .... لكنها لم تكن تسمع او ترى شيئا امامها .....لقد خذلها الجميع ..خاصة معاذ ...قال بانه سيغيب ليومين او ثلاث .....لكنه فعل كما فعلت يقين ....تركها وحيدة ...تصارع وحدها امواج الحياة المتلاطمة ... الان فقط ادركت انها فقدت الخالة هدى ...الان احست بما يجري حولها .....لقد ماتت ..ماتت حزنا وقلقا على ولدها ...رحلت وهي تتحسر عليه ......

كانت سعاد تقرأ الايات القرآنية وهي تشجعها وتواسيها ...هذه الفاجعه لم تكن تخطر على بالهم ابدا ..ففي المرة الاخيرة التي كلمت بها هدى كانت تبدو بصحة جيدة .... فهي كانت تحرص على الاتصال المستمر برضاب .. كما انها كانت تتحدث مع هدى على الدوام

عندما استقبلوا الخبر سارع الجميع استعداداً للسفر الى البصرة .... تبارك قدمت على اجازة مستعجلة لعدة ايام ..كما انها اتصلت بعبد العزيز لكي تبلغه ...الاخير الذي كان مسافراً الى دهوك وقد اعتذر عن عدم قدومه معهم .... بينما وليد وزهير قاما بتجهيز كل ما يلزم تمهيدا لسفرهم المفاجأ هذا !!
كان لابد لهم من ان يأتوا جميعا لمؤازرة ومساندة رضاب .... فهي كانت منهارة ليس بسبب موت هدى فقط بل بسبب غياب معاذ المريب للشك والقلق ايضاً ......

................................
.........................................

مضت أيام العزاء بسرعة البرق .... اليوم هو الأخير ..وبعدها ينتهي كل شيء ويذهب كل واحدٍ منهم الى منزلة .... لتبقى هي غارقة ببحر احزانها ومآسيها وحدها .... دونه ... دون وجوده قربها ..... رغم الفترة القصيرة التي لم تتعدى الشهرين على وصولها واحتكاكها بوالدة معاذ ..الا انها تشعر بألم كبير وقوي يعتصر قلبها ...لقد احبتها بصدق ...كانت لها الناصحة والمرشدة ...للان تتذكر كيف كانت تقف قربها لتعلمها خطوات الطبخ ..والتنظيف ...حتى انها اقترحت عليها ان تعلمها الخياطة .... لم تشبع منها ومن اهتمامها بعد ..لقد رحلت مبكرا ...مبكرا جداً .....
كانت لاتزال غارقة بأحضان خالتها .... وكأنها تحتمي بها من كل مايدور حولها ....رباااه ..... صورتها وهي ممدة لا تريد ان تفارق مخيلتها ....لقد حلمت بها مساء امس .... مبتسمة الوجه ترتدي ثياب بيضاء كانت تجلس في الصالة ... وما ان رأتها حتى قالت لها ببشاشة
- تعالي يا رضاب هناك شيء اريد ان اعطيه لك
تقدمت منها بلهفة وهي تهتف قائلة ببحة بكاء

- خالتي ..انت لم تموتي لازلت حيه ..... لقد ..لقد اخبروني بأنك رحلت ولن اراك ثانية
تجاهلت قولها وهي تهز رأسها ..... ثم اخرجت من جيب ثوبها تفاحة حمراء كبيرة ولامعة لتقول لها بهدوء
- هذه لك يا رضاب خذيها ....
مدت يدها بسعادة واخذت التفاحة ثم استنشقت عطرها الفواح بقوة وهي مغمضة العينين لتهمس قائلة
- اه يال رائحتها الشهية ....شكرا لك خالتي ...


فتحت عينيها لتتكلم معها مرة اخرى الا انها كانت قد اختفت وكأنها تبخرت من المكان ..نادت عليها وبحثت عنها في ارجاء المنزل لكنها لم تجدها ابدا ......
استيقظت مذعورة والعرق البارد يتصبب من جبينها لتطمئنها خالتها التي كانت تنام معها في الغرفة ....فمنذ مجيئها وهي لا تفارق الخالة سعاد لا ليلا ولا نهارا ....حتى انها باتت تنام على ذراعها .... قصت على خالتها الحلم لتطمئنها قائلة
- انها بشارة يا رضاب ...بشارة ومراد ستنالية ...فقط قولي يارب
عادت لتنام وهي تهمس بعينان دامعتان
- يااارب ..يارب .....

عادت من شرودها على صوت جاسمية وهي تقول بسعادة
- لقد عاد معاذ ..عاد ...تعالي واستقبليه يا رضاب عاد زوجك بالسلامة ........
رفعت رضاب نظراتها للممر المقابل للباب الصالة .... فعلا كان معاذ يدلف الى الداخل من باب المطبخ .... أحست بالخدر يسير بإنحاء جسدها ...تريد النهوض والركض اليه لكن قدميها تخشبت .... نبض خافقها بعنف وهي تطالع هيئته المتعبه .... شعره المشعث ...ملامحه الشاحبه وجسده المليئ بالغبار ....عادت لتنظر لوجهه الحبيب ...عيناه كانت حمراء
نهضت بصعوبه .... وأخذت تمشي ببطء ...متجهة اليه وكأنها تسير خلف قوى مغناطيسيه تسحبها بقوة .... لقد عاد الامان اليها من جديد ..عاد زوجها وسندها ...يا الله ماهذا الشعور الرائع بالاكتفاء والقوة الذي تسلل لكل حناياها ...اقتربت منه اكثر وخطواتها تسرع رويدا رويدا
لتقف قبالته ....تبادلا النظرات لثوان ... هي بعينين دامعتين عاشقتين وهو بعينين حمراويتين وحزينتين ..... رمت جسدها بين ذراعيه ... من قوة اندفاعها عاد الى الوراء قليلا ...كان خائر القوى ...وكأنه شبح باهت ...
لم تهتم لنظرات النسوة والفتيات اللاتي تجمعن قرب باب المطبخ ..ينظرون لهما بفضول وترقب .... طوقت رقبته واخذت تجهش بالبكاء ..تارة تقبلة ...وتارة تشم رائحته الرجولية المنعشة لها .... ترتفع على اطراف اصابعها لتهمس وشفتيها تلامس بشرته ...
- ااه ..معاذ ..معاذ ..لقد عدت ...لا اكاد اصدق ....حمدلله ...حمدلله ..
وكأنه بهمستها قد عاد الى الواقع بعد ان كان يسير كالهائم .... ليطوق خصرها بذراع بينما ذراعه الاخرى كانت تمسح رأسها بهدوء ....
ظلا متعانقين لبعض لعدة دقائق ....قبل ان يبعدها هامسا بصوت مختنق وعيون مترقرقة بالدموع
- يجب ان اعود الى الى الخارج لموافاة الرجال

ابتعدت عنه وابتسامة متألمة ترتسم على شفتيها بينما وجنتيها كانت غارقة بالدموع ..لترد عليه بصوت بالكاد خرج من شفتيها المرتجفتين

- ح..حسنا ...
....................
.............................
في المساء وبعد ان فرغ المنزل تماما من جموع المعزين ..حتى جاسمية عادت لمنزلها بعد ان أعادوا ملك التي قضت ايام العزاء مع اولادها .....فلم يكن هناك بد الا من ذهابها هناك ....
كان معاذ يجلس في الصالة مع وليد زهير ....ملامح الشحوب والتعب بادية على وجهه ....
للان لا يصدق ان والدته توفيت ...توفيت بحسرتها عليه .... لم يرها ....لم يودعها ....
ربما هو السبب بموتها ..أجل هو ...لولا ذهابه الى تلك الرحلة ..لما حدث ما حدث

صوت وليد الوقور قطع عليه شروده حين قال له مواسيا فهو قد انتبه لحزن معاذ واحس بما يعتمر بصدره من مشاعر متضاربه ...الذنب وتأنيب الضمير كان ينعكس على ملامحه بوضوح تام ....
- جعله الله اخر الإحزان يا معاذ ...كل نفس ذائقة الموت ونهاية كل إنسان سبحان من له الدوام
اومأ معاذ ثم تنهد وقال ببهوت

- اعرف يا وليد واعي ما تقوله وانا لا اعترض على قضاء الله ....لكني فقط اشعر ..بأني كنت السبب بموتها .... لولا غيابي ربما لم يكن ليحصل ما حصل !!!
اجابه وليد بهدوء

- استغفرلله يا معاذ ولا تفكر بهذه الطريقة ...تعددت الاسباب والموت واحد ....حتى ان كنت موجوداً ...لم تكن لتمنع مشيئة الله ...وانت انسان مؤمن ...وحرام ما تقوله

ظل معاذ صامتا ونظراته جامده على الارض .... وكأن مشاعره هي الاخرى تجمدت يعرف ان كلام وليد صحيح ..لكنه لايستطع ان يزيل شعور الذنب الذي يكتنفه ...هذه الامر فوق طاقته ... والدته كانت هي مصدر طاقته ...لقد كان يستمد القوة منها ....كانت هي العمود الذي يستند عليه ولا يمكن ان يتخيل بانه لن يراها ان يسمع صوتها ثانية

سأله زهير مستفهما
- لم تخبرنا يا معاذ ما كان سبب تأخرك في رحلتك كل هذا الوقت ؟!

شرح لهم معاذ كل ما صادفه .... كيف دخل هو وحيدر ومن رافقهم الى رحلة الموت هذه ...كان من المفترض عليهم عدم الدخول للمناطق الساخنة ..لكن الجيش وابناء الوطن كانوا بحاجة ماسة الى المساندة والدعم ...وكان لابد لهم من اخذ المئونة اليهم والتأكد من استلامهم لها ...... لكن ما حصل هو ان الاعداء حاصرو المنطقة التي كان يتواجد بها ... مما اضطرهم الى البقاء ....لم يكن هناك اي وسيلة له للاتصال لكي يطمئنهم عنه وعن رفاقه ....

المشاهد التي عايشها كانت مشاهد تقشعر لها الأبدان ... يقسم بأنه لم يستنشق رائحة الدماء من جثث الشهداء بل كانت رائحتهم تشبه رائحة المسك .... أشلائهم متناثرة ...يستقبلون الموت بسعادة
ساهم مع الرجال بنقل المصابين وساعد بإسعافهم ....للان يتذكر كيف اصيب احد الابطال برصاصة قناص اخترقت صدره وقد نقل الى أحدى المخيمات ونبضات القلب بدأت تهبط وتنفسه بدأ يختفي .... الفحوص الطبية كانت تشير الى تمزق شديد في شريان التاجي الأيسر للقلب مما سبب نزيف داخلي شديد... قام الطبيب بخياطة الشريان الممزق ..ونجحت العملية نجاح باهر .... في حينها قال الطبيب بدهشة
انها معجزة كيف عاش الجندي !!! فاصابته كانت خطيرة جدا ولكن بعد توقف النزيف وجدت الشريان فيه إصابة بسيطة ....
كانت تلك مجرد شيء بسيط لا يضاهي رهبة ما تعايش معه في الايام اللاحقة ....اراد البقاء معهم ... اراد ان يدافع عن تراب وطنه مثلهم .... فهو يمتلك وطنية و غيرة على وطنه مثلهم تماما .... لكن المسئول عن الجيش رفض قائلا ان مهمة احضار المؤن والمستلزمات الطبية هي ايضا مهمه لا تقل اهمية عن ما يفعله الاخرون .... فلولاها لما استطاعوا الصمود كل هذه الفترة ...وان شاءلله النصر سيكون قريبا وعلى الابواب ...

....................
.............................

- ستذهبون بهذه السرعة خالتي ؟!!!
قالتها رضاب بحزن وهي تنظر لخالتها ..... كل الفتيات كن يجلسن بالغرفة المجاورة للصالة فهذه هي الليلة الاخيرة لهم في البصرة وغدا منذ الصباح الباكر سيعودون الى منزلهم ...
لتجيبها خالتها بحنان
- يا ابنتي لقد مضت عدة ايام على وجودنا ...وقد عاد زوجك سالماً والحمدلله ..يجب ان تعتني به جيداً ..... المسكين يبدو حزينا ومتأثرا جدا ...فقد الوالدة ليس بالامر الهين ... ربما فقدها هو اشد صعوبه من فقد اي شخص اخر .... كما ان وليد وزهير لديهم اعمالهم التي تركوها في اربيل ..كذلك تبارك اجازتها اوشكت على الانتهاء ....

همست بلهجة معتذرة وهي تنقل نظراتها لتبارك ..فهي لم تحضر الى عقد قرانها بسبب غياب معاذ ومرض خالتها هدى المفاجأ ...

- اه ..تبارك عزيزتي ..اغفري لي عدم حضوري لعقد القران ارجوك لا تغضبي مني
اجابتها تبارك بطيبة وتفهم

- بالتاكيد لست غاضبه منك يا رضاب لا تفكري ابدا بذلك

كانت غسق تجلس بينهم وملامحها شاحبه وباهته مما جعل رضاب تقول لها بعفوية وبرائة
- غسق وجهك شاحب للغاية ... ربما هي بوادر للحمل وانت لا تعلمين ذلك !!!!!

شحب وجه غسق اكثر من ذي قبل لتجيبها بشفاه جافة وصوت بالكاد استطاعت اخراجه

- لا ...لست حامل ....فقط ...متعبة قليلا ....

وقفت وهي تهمس باستئذان

- عن اذنكم سأذهب لارتاح قليلا

خرجت من الغرفة لتتبعها سعدية بسرعة بينما ظل الباقون يتبادلون النظرات فيما بينهم بتوتر وحزن لتستطرق رضاب قائلة

- مابها غسق خالتي ؟!!! اشعر بأنها ليست على مايرام !!

تنهدت سعاد بعمق وحسرة ثم اجابتها بهدوء

- قصة طويلة حبيبتي اخبرك اياها فيما بعد ...ما عليك التركيز به الان هو زوجك ..اهتمي به جيدا حبيبتي واصبري عليه ...فهو سيحتاج لتفهمك ومساندتك له في الفترة القادمة !!!

.........................
.............

گوميلي ييمه وداعتچ تعبان
بس بشوفچ ابره وتبتسم عيني
بس انتي الوحيده القادره بهالكون
بتراب الچفن يحبيبه تشريني
اسمعيني ييمه وگومي اترجاچ
مامرجيه منچ هيچي تاذيني
گوميلي آنه جيتچ ماأريد اعذار
طشرني الوكت يايمه لميني
طبعچ وآنه اعرفچ ملگه للخطار
خطارچ عزيز وماتفشليني
انفضي تراب گبرج كسري السرداب
وبطيبت كلامچ يمه حاچيني
محتاج النصيحه وداعتچ محتار
شوريني ياأمي ارجوچ انصحيني

............................

انقضى الليل الذي حمل بين طياته الهموم والحزن لتشرق الشمس معلنة عن بزوغ نهار جديد مشرق على البعض وحزين على البعض الاخر .........
بعد ان ودع عائلتها صباحاً توجه مباشرة لغرفة والدته واغلق الباب خلفه بهدوء ... تركته في بادئ الامر ظناً منها بأنه يريد الاختلاء مع نفسه قليلا ...خاصة بعد ان شددت عليها خالتها قائلة اتركيه يجلس مع نفسه لبعض الوقت واصبري هو يحتاج الى فترة من الزمن ليستوعب ما حصل .....لم يشاركهم الغداء ظل معتكفا طوال اليوم بالغرفة ...يخرج للذهب الى الحمام ويعود مرة اخرى مغلقا الباب ورائه دون ان ينطق بحرف

انشغلت بقية النهار مع ملك تارة وبتنظيف وتحضير العشاء تارة اخرى ..... اكملت الطعام ورصت الصحون على المائدة ...ثم توجهت اليه .... فتحت باب على مهل ....
كانت الغرفة مظلمة ... رغم دخول بعض الضوء من مصابيح الشارع التي اخترقت الستائر الخفيفة .....كان ينام على فراش والدته موليا ظهره لها .... اقتربت منه ...ثم جلست جانبه ومدت يدها لتلمس ذراعه هامسة برقة

- معاذ ...
همهم بصوت خافت .... نبرة البكاء كانت ظاهرة وجليه عليه لتقول بحزن
- العشاء جاهز ..هيا انهض لتأكل قليلا
اجابها بنبرة ابحه
- لا شهية لي ..كلوا انتم ولا تنتظروني

دمعت عينيها واجابت بتوسل
- معاذ ..ارجوك ....لاتفعل هذا بنفسك ...انت منذ الصباح لم تضع شيئا بفمك ...بالله عليك لا تعاقب نفسك بهذه الطريقة !!!!
اجابها بجمود وحدة وجسده صار متشنجا وصلباً

- قلت لا شهية لي ....اخرجي من هنا ودعيني وحدي

صمتت قليلا .... ماذا عساها ان تفعل ؟!!! كيف تساعده ؟!! من حقه ان يحزن على فراق والدته
لكن ليس بهذه الطريقة ...رباه وكأنه لا يعاقب نفسه فقط ..بل يعاقبها هي ايضا بجفائه وانطوائه
ليته يعلم فقط بما يفعله بها بتصرفه هذا !!! هي تحتاجه جانبها اكثر مما يحتاجها هو ....
لقد اشتاقت له ...اشتاقت لحبه ولطفه .... اشتاقت لنظراته وهمساته الحنونة ....
لكنها ستصبر هذا كل ما يمكنها ان تفعله الان ....وليكن الله بعونه وعونها ....
نهضت وخرجت من الغرفة .... بينما دموعها كانت تسيل على وجنتيها ببطء وعجز ....

......................
...............................

اربيل مساءاً

................
كان ممدا على الفراش يعبث بهاتفه المحمول عندما دلفت الى الغرفة ورائحتها المنعشة تسبقها
كانت تلف على رأسها المنشفة .... ترتدي ثوبا مخمليا شبه شفاف وردي اللون ... جلست امام المرآة وبدأت طقوسها الليلة التي بات يعشقها ويراقبها بشغف .... مشطت شعرها الطويل ببطء .... ثم تركته حرا ينزل كوشاح حريري لامع على طول ظهرها .....بينما اخذت تمسد يديها ورقبتها بالمرطب الذي له رائحة تشبه رائحة الياسمين ... يبعثر كيانه ويجعل جسده يستجيب لها على الفور ...
ما ان انتهت حتى توجهت للفراش لتنسدل جانبه وهي تطلق تنهيدة متعبة و عميقة ... ادعى عدم الانتباه لها ظنا منه بانها ستقوم بالتودد اليه لكنها عوضا عن ذلك سحبت الملاءة لتغطي جسدها ثم اغمضت عينيها استعدادا للنوم ..... نظر لها وهو فاغر الفاه ... قال بعدم تصديق

- هل ستنامين الان ؟!!!
اجابت وهي مغمضة العينين
- اجل زهير ...متعبة ومرهقة جدا جدا ...
لتردف وهي تفتح جفنيها وتنظر ببرائة
- وقلقة ايضاً
رفع جذعه واستند على ذراعه قائلا بتساؤل
- ولماذ قلقة ؟!!!
اجابت متنهدة بأسى
- قلقة على رضاب ... مسكينة اختي كان يبدو عليها التأثر والحزن !!!
همس وهو يدير وجهه الى الجهة الاخرى قائلا بصوت خافت وكأنه يكلم نفسه
- لا تقلقي عليها بل اقلقي علي انا !!
قالت بتساؤل
- ماذا قلت يا زهير ؟!!
اجابها بصوت مرتفع

- قلت لا تقلقي عليها ..معاذ معها ...وهما الاثنان سيسندان بعضهما البعض ويتجاوزن هذه الازمة ان شاءلله ....

أومأت هامسة برجاء قبل ان تغلق عينيها مرة اخرى

- أرجو ذلك
قال بغيض وهو يتابع ما تفعله وملامحه عابسة
- هل ستنامين وتتركين زوجك المسكين يتضور جوعاً !!!! اي قلب تملكين !!

اجابت وهي تنظر له بتعجب واستغراب
- هل انت جائع حقاً !!!
أومأ صامتاً بعناد وكأنه طفل صغير يتدلل على والدته ....همت بالنهوض وهي تقول
- حالا سأعد لك بعض الشطائر لتأكلها ...
سارع لامساك ذراعها قائلا بتعجب
- تعالي هنا الى اين تريدين الذهاب ؟!
- الم تقل انك جائع ؟!!
ليجيبها بمكر وخبث
- اجل جائع لكن ليس للطعام ..بل لشيء اخر ...
لوت شفتها وقد فهمت مايريده طفلها الكبير هذا ثم عادت لتريح رأسها على الوسادة وهي تقول
- رباه زهير انت جائع على الدوام ...الا تشبع ابداً ؟!!!
هز رأسه ثم انحنى ليطبق شفتيه على شفتيها يتناولهما بشراهة .... من ثم انتقلت قبلاته العطشى على وجنتيها لينزل الى رقبتها .... يستنشق عطرها بنشوة .... ليطبع قبلة عميقة تركت اثراً احمر اللون .... لتهمهم حبيبة بخفوت ونعومة وهي تدعي المعارضة .... همست قائلة بدلال
- انتظر زهير لقد تذكرت شيئا مهما جدا
كان لايزال يوزع قبلاته على وجهها وصدرها هامسا
- ليس الان حبيبة فيما بعد حبيبتي ....
دفعته بلطف وهي تقول بأصرار
- لالا اريد ان اقول لك امرا لا يحتمل التأجيل
رفع رأسه ووجهه بات احمرا وعيناه عاصفتان وغامقتان
- ماذا حبيبة ؟!
اخذت تمرر اصابعها على شعيرات صدره السوداء وهي تقول بغنج

- كنت اريد ان احدثك عن موضوع اكمال دراستي !

- مابه ؟!!

رفعت نظراتها باستنكار وعتب وهي تقول

- رباه زهير هل نسيت !! لقد وعدتني بانك ستقدم لي على الامتحانات الخارجية للصف السادس الاعدادي هل كنت تكذب علي ؟!!!!
رفع حاجبيه قائلا بينما يده تمسد ذراعها وكتفها برقة
- لم انسى بكل تأكيد ...نحن الان بالعطلة الصيفية .... ولايزال الوقت مبكرا لقد استفسرت وتأكدت من مصادر موثوقة في ممثلية وزارة التربية الموجودة بأربيل !!
اجابته قائلة بعناد
- لكن زهير ...ربما ...
وضع اصبعه على فمها ليسكتها قائلا بنفاذ صبر
- يكفي حبيبة ..... اسألي ماتريدين لكن ليس الان ...
وكالعادة ابتلع شفتيها ولم يدعها تكمل كلامها ....كان يسحب استجابتها سحباً .... بينما اصابعه تداعب جسدها بحميمه جعلتها تبادله شغفة الذي لا ينطفئ ابدا بكل لهفة وجراءة تعلمتها منه هو

.................................
يارب ولد اريد بهل حياة
منادس النسوان
ضل ما ينحمل
بعد ما احمل حجي عيالي ثكيل
ربي اريدن حمل
ما ريدن حِمل !
حظي ما يكعد أظن بفراشي شوك
يمته يكعد مو اكل روحي اكل
فارغ وهزيت كاروك الجهال
وعمتي هزت ايدهة ال ما تنحمل
شنهو برجج مرة سألني البنات
ال ما متوقعه بيه يوم انسأل
جاوبتهن بس ذبح روحي الكلام
الحَمل برجي واني احلم بالحمل
يا إلهي بداعت ايتام العراق
ما اطلع تعييني ب طفل

.......................

الايام تسير بوتيرة واحدة ...مملة وحزينة ...اصبحت منطوية على نفسها ..لاتشاركهم احاديثهم ولا تجلس معهم كالسابق ..وقد لاحظ الجميع هذا التغير والتزموا الصمت ... متفهمين ومقدرين وضعها وحساسيتها المفرطة إزاء هذا الموضوع ...
وليد لم كان اكثرهم شعورا بها .... كيف لا وهي تنام كل ليلة تبكي بين ذراعيه ..... على الرغم من انها حاولت ان تبدو طبيعية امامه لكي لا تحزنه ولا تذكره بمصابها .... لكنها لم تكن تستطع ان تكبح دموعها التي كانت تنهمر بمجرد تذكرها لعجزها وقلة حيلتها ....
كان يبذل جهده لإسعادها ....حتى انه اخذها الى المزرعة لعدة مرات .... كانت تقضي اغلب الوقت تجلس بين اشجار البرتقال والتفاح ...تراقب جدول الماء الصافي الذي كان يسير بسرعة ...حاملا معه الاحجار الصغيرة و الأوراق اليابسة .....
كم تمنت ان يكون كل ما مر بها هو مجرد حلم طويل وستصحو منه فجأة لتجد ان كل شيء على ما يرام ...لكن للاسف ما تعيشه وما تتحمله ليس حلما ...بل هو واقع ويجب ان تقر وتتعايش معه رغما عنها ....
كانت تجلس على الفراش تقرأ احد الروايات العالمية وهي رواية ( آنا كارنينا )
استوقفها مشهد جعلها تفكر مرارا وتكرارا في حالها ومستقبلها ..حين جلست آنا تحكي لزوجة أخيها قائلة "أنا لا أؤذي أحداً غير نفسي، فلست أملك حق إيذاء الغير".
اجل هي لا تملك حق ايذاء الجميع .... ليس لانها تتعذب بالتالي يجب على من حولها ان يتعذبوا
ويتحملوا ماهي فيه !!! خاصة وليد ... هو لا يستحق منها الانانية وحب الذات !!
يجب ان تفكر به ..مادامت لن تجد السعادة لها فليس من حقها ان تحرمه منها وهي تستطيع ان تقدمه له بكل طوعية وطيبة خاطر !! الحل بيدها هي وهي من عليها ان تقرر مصيرها !

قطع عليها سيل افكارها المتضاربه دخوله وهو يحمل علبه مربعة الشكل ..القى عليها التحيه وهو يقترب منها قائلا بمرح

- مساء الخير مثيرتي ...
ابتسمت واجابت بنبرة تفتقد للسعادة
- مساء الخير ....
سألته بفضول وهي تنظر للعلبه
- ما الذي تحمله بيدك ؟!
جلس قربها قائلا بمرح وهو يضع العلبه على حجرها
- شكولاه ومن النوع الذي تحبينه
فتحته بلهفة وحماس وكم اسعده حماسها الطفولي .... يحزنه حالها وشحوبها ...لقد بدأت زهرته الندية تذبل يوما بعد يوم ...لكن لا هو لن يسكت .... قريبا سيذهب ويعرض الفحوصات الطبية على اشهر الاطباء في اربيل ربما هناك حلا لحالتها ...الله لطيف ورحيم بعبادة ... لن يبقى مكتوف اليدين يراقبها تذوب امامه كالشمعة المحترقة ... بأذن الله سيكون هناك بابٌ للأمل سيفتح لهما
- الله ...شكرا لك وليد ...

التقطت قطعه صغيرة ثم وضعته في فمها واخذت تمضغه بتلذذ وهي تغمض عينيها هامسة
- امممممم كم هي لذيذة ...
رفعت قطعة اخرى ووضعته في فمه قائلة بلطف

- كل هذه القطعة وليد
هز رأسه قائلا بحنان وهو يلتهم تقاطيع وجهها الناعم
- انت تعرفين اني لا احب الشكولاه ثم انا احضرته خصيصا لك

اصرت بطفولية
- من اجلي وليييييد ارجووووك
رفع حاجبيه قائلا بمكر
- حسنا أأكلها لكن بشرط
نظرت له بتساؤل ليهمس وهو يلتقط قطعة الشكولاه ويضعه بفمها الذي فتحته بعفوية
- الان استطيع ان ااكلها واتذوق طعمها بمزاج ....
تحولت وجنتيها للون وردي محبب وهي تنظر بخدر لزوجها الذي انحنى ليأكل الشكولاه من بين شفتها بطريقة جعلت ضربات قلبها تهدر بعنف معلنه حبها له للمرة التي لا تعرف كم ..فهي لم تعد تعرف كم هي تحبه وكم يبلغ مقدار عشقها لهذا الرجل الذي يذهلها بحنانه ورجولته وهيبته الطاغية
قال بخبث وهو يعتدل بجلسته
- لذيذة وشهية حقاً ....

مسح طرف شفتها المحمرة بإبهامه ثم همس قائلا بصبيانية

- سأذهب لأستحم وبعدها سأعود لك حلوتي ...أنتظريني ولا تنامي ....

..............................
.......................................

يقف امام اللوح الخاص برسم التصاميم الهندسية ... يراجع مخطط هندسي ... لقد باشر العمل مع كورشير قبل فترة قصيرة ... العمل مريح جدا رغم تواضع مدخوله المادي مقارنة بما كان يقتضية سابقاً ...لكن هذا المبلغ الضئيل كان يكفيه وهو مقتنع جدا بعمله هنا ....خاصة وانه يمتلك زوجة قنوعة تستقبل بسعادة وحب كل ما يقدمه لها دون اعتراض او تذمر ...تشعره انه سيد المنزل وزوجها وسندها الحقيقي .....

عندما ترك العمل في تلك الشركة لم يشعر بالندم قط ...رغم إلحاح المدير المتكرر بأن يعطي لنفسه الفرصة ويفكر مرة اخرى قبل اتخاذ قراره ...لكنه رفض بشكل قطعي ... فهو من المستحيل ان يبقى بمكان كان فيه موضعا للشك وعدم الثقة ....
كورشير اثبت له بانه بالفعل صديقه الحقيقي ... كان يتقاسم معه بالعدل الأجور التي تعود على المكتب من خلال مشاريعهم البسيطة ..... قائلا له بكل جدية وصدق ... انت تتعب مثلي تماما وتبذل مجهودا لا يقل عن مجهودي لذلك انت شريكي بكل شيء يا زهير ....

رنين هاتفه المحمول أخرجه من شروده ...ترك القلم من يده وتوجه الى مكتبه ليلتقط الهاتف
رفع حاجبيه باستغراب ... لقد كانت حبيبة هي من تتصل !! هذه هي المرة الاولى التي تفعلها ؟!
ترى ماذا هناك ...ما ان فتح الخط حتى وصله صوت حبيبة المذعور وهي تقول بنبرة مهتزة

- زهيررررررررر تعال الى المنزل الان حالا !!!!!!!!!


...........................

نهاية الفصل الأربعون

رماد الغسقحيث تعيش القصص. اكتشف الآن