30

214 13 0
                                    


الفصل الثلاثون
...............
........................
جلس على الكرسي الخيزراني بتجهم ... غاضباً من تصرفات زوجته التي اصبحت لا تطاق .... لقد ظنها في بادئ الأمر تمزح معه مزاحاً بريئاً .... لكنها تمادت كثيراً .... وكثيراً جداً ... ليس وليد من يسلم زمام اموره لامرأة ... لم يفعلها سابقاً ليفعلها الان !!
هو مقدر ومتفهم غيرتها ...تلك الغيرة العفوية التي تشعر بها اي امرأة على زوجها ....لكن حتى وان كانت تغار هل هذا يعطيها الحق بأن تأمره على طرد انسانه خلوقة لم يرى منها الا كل احترام ونزاهة !!!!
لسانها بات طويلا جداً واصبحت ترد عليه الكلام ....هل لانه يحبها ويدللها ويراعي فرق السن بينهما واختلاف العقلية وطريقة التفكير ... يعطيها الحق بالوقاحة واللسان الطويل !!!!
غسق تحتاج الى بعض الصرامة في معاملته معها ...وهذا بالضبط ما سيفعله في الايام القادمة....
تنهد بتعب واسترخى مرجعاً ظهره على الكرسي ... رفع رأسه الى السماء يحدق الى النجوم البراقة التي كانت ظاهره بوضوح على غير العادة .....
عندما تزوج من غسق فكرة بدل المرة الف ...هل الفارق العمري بينهما سيشكل عائقاً في طريق زواجهما !!!!
حسناً هو ايقن انهما وكأي زوجين طبيعيين يجب ان يمرا ببعض المشاكل شأنهم كشائن اغلب المتزوجين حديثاً ...وقد توقع الصدام معها لكن ان يصل بها الامر الى عدم الاحترام وفرض رأيها بهذه الطريقة ...فهذا ما لن يسمح به اطلاقاً ... فهو ان وافقها الان على طلبها الغير منطقي ستتمادى اكثر واكثر !!
سحب نفساً عميقاً ثم مرر اصابعه بطيات شعره ..... يفكر بكيفيه التعامل الامثل مع زوجته المجنونة ...التي من الظاهر انها ستتعبه معها في الايام القادمه الى ان تتعود على طباعه
في خضم افكاره الهوجاء سمع صوتها الهامس وهي تقول بنبرة معتذرة
- وليد ...انا ..انا ..اسفة ...ارجوك لا تغضب مني

همستها وهي تنظر لرأسه المستند على الكرسي ...كان ينظر الى السماء بصمت .... ملامحه وجهه غير ظاهره لها .... عندما خرج من الغرفة ظنت بانه سيعود بعد بضع دقائق ...انتظرته جالسه على طرف الفراش بتوتر ..كانت تلعن نفسها على تسرعها واندفاعها .. كيف اغضبته ...كيف جرحته بهذا الشكل !!!! يا الهي كادت ان تقول له انت بلا شخصية ولا رجولة !!
مالذي جرى لها بالضبط لاتعرف ..كيف نطقت وتكلمت معه برعونة ووقاحة لا تعرف ايضاً ..كل ما تعرفه ومتأكدة منه هي انها تحبه بجنون وتغار عليه !! مشاعر الغيرة هذه ليست بيدها ابداً !!!
الساعة كانت تشير الى الثالثة والنصف صباحاً ووليد لم يعد بعد ... ارتدت رداءاً محتشماً ولفت الوشاح حول رأسها وقررت الذهاب اليه لكي تعتذر .....
بحثت عنه في الصالة والمطبخ ولم يكن موجوداً ... عندما لمحت باب المطبخ مفتوح قليلا علمت انه يجلس في الحديقة ..ابتلعت ريقها بخجل وحرج وخرجت لتتوجه ناحيته بخطوات مترددة .... ظلت واقفه لبعض الوقت تنظر لجسده المسترخي على الكرسي ..كان يبدو شارداً ينظر الى السماء .... رطبت شفتيها المتيبستين وهمست بخفوت بينما ضربات قلبها تدوي بخوف وحرج من موقفها وطفوليتها
-- وليد ...انا ..انا ..اسفة ...ارجوك لا تغضب مني
لم يرد عليها ولم يحرك ساكناً بل وكأنه لم يسمعها على الاطلاق ... بدى هادئاً جداً ...هادئ بصورة خطرة .... تقدمت ناحيته اكثر وقالت بحذر
- وليد ..ارجوك ... انا ..حقاً
قاطعها بجمود دون ان ينظر اليها او حتى يعتدل بجلسته
- اذهبِ الى الداخل ونامي غسق !
دمعت عيناها وهي تعض شفتها السفلى ...جثت امام ركبته وهمست
- اسفة وليد ..سامحني ارجوك ...انا ..اعرف بأني تصرفت معك بوقاحة ... لكني تصرفت هكذا لاني احبك واغار عليك ....اغار عليك حتى من نفسك وليييييييد ...افهمني ولا تغضب مني
اعاد ما قاله مرة اخرى ودون ان يهتم بما
- قلت اذهبِ الى الداخل ...الان ..هيااا
اختنقت انفاسها وشعرت بمزيج من القهر والخجل ... اومأت وهي تكتم شهقتها وهبت واقفه وهي تهمس باختناق
- تصبح على خير
غادرت المكان بخطوات متعثرة بينما التفت وليد ينظر لها وهو يتنهد بتعب .... اعرف بأني سأقسو عليك لكني افعل ذلك لمصلحتك انت اولا واخيراً حبيبي
.....................
المصحة النفسية في لندن
..................
تجلس على كرسي بعيد عن بقية المرضى ...تنظر لهم بهدوء .... وجهها شاحب بشدة والشعيرات الفضية متناثرة بين خصلات شعرها الاسود الكثيف .... والذي كان فيما مضى طويلا مسترسلا الى منصف ظهرها قبل ان يقصوه بسبب رفضها ومعاندتها لتمشيطه وغسله ....
تذكرت كيف قامت الممرضة قبل ايام بقصه في الحمام الخاص بغرفتها ....لم تهتم ....بل لم يؤثر بها ابداً ....كل ما حولها اصبح لا يجذب تركيزها .... تشعر وكأنها تائهه ..ضائعة .... اين كانت !!! واين هي الان !!! مالذي جرى لها !!

امتدت يدها لتلمس بطنها المتكور وهي تتذكر محاولتها الأخيرة لأجهاضه ...فهي قد حاولت اكثر من مرة ان تقتل هذا الطفل المشئوم ..الا انه كان يأبي النزول ...متشبث بها بصورة عجيبة .... وكأنه يتحداها ويسخر منها ...
اغمضت عينيها وهي تتذكر الايام والأسابيع الماضية التي قضتها هنا !!! كانت تصاب بحالات هستيريه قوية ...كل ما تريده هو الخروج من هنا بأي شكل ..الا انهم بكل مرة كانو يقيدون يديها ويحقنوها بأدوية تجعلها بعالم اخر ....عالم تنسى به ماضيها وحاضرها ....
الطفل بدأ يتحرك في احشائها ...وكأنه بذلك يثبت وجوده معها .... يذكرها بخطيئتها مع كل ركلة يركله في بطنها .... وكأنها طعنات حادة تطعن قلبها وروحها بقوة مؤلمة

رفعت نظراتها الذابلة الى شاشة التلفاز الكبيرة الموضوعة في القاعة الواسعة التي انتشر بها الطاولات والكراسي البيضاء .... صوت التلفاز اختلط مع صوت المرضى وهرجهم وصخبهم ....الا انها لم تسمع شيئاً مما يقولون ...كانت تفكر برضاب
ترى ماذا تفعل الان !!!! وكيف تقضي وقتها ؟! هل لازالت تتذكرها وتحن اليها ام ربما كرهتها ونسيتها !!!
وسعاد !! هل علمت بالذي حصل !!! اجل ربما اخبرتها رضاب وهي الان تتشمت بها .... خاصة بعد ان تحققت نبوئتها التي لطالما رددتها على مسامعها ..كانت تقول لها سيأتي يوم من الايام وتندمين اشد الندم على ظلمك وتجبرك على ابنتيك !!
وهاقد صدق حدسك يا سعاد ... انا نادمة ...نادمة ...لكن هل ينفع الندم الان وكل شيء بنته خلال سنوات وسنوات قد تهدم فوق رأسها وتحول الى حطام ودمار كلي !!
هل سيأتي اليوم الذي تستطيع فيه المواجهة والالتقاء مع ابنتها ..... هل سترفع عينيها وتضعها بعيني ابنتها دون أن تشعر بالدناءة والقذارة !!!
والاهم من ذلك هل ستسامحها هي وتبدأ معها صفحة جديدة وبيضاء !!
.................
........................................
اربيل \ صباحاً
...........
كانت تنظر الى الشوارع المكتضة بالسيارات والمشاة .... القصور الفارهة والمكاتب ذات الواجهات الزجاجية بالإضافة الى المراكز التجارية .... ساحات جميلة مليئة بالنافورات ... وأسواق ومحلات بيع مختلف المواد متواجدة فيها ....
المقاهي الشعبية التي تقدم الفطور صباحا ( القيمر واللبن والعسل والخبز الحار مع الشاي ) اضافة لمحلات بيع الملابس الشعبية الكردية

اناس يسيرون بسرعة وانتظام .. بعضهم يذهبون الى جامعاتهم وبعضهم يذهبون الى اعمالهم .... رغم التعب المرسوم على وجوههم الا انهم يبتسمون ببشاشة ...يستقبلون يومهم بالتفائل والامل .... ارجعت رأسها الى الوراء واسندته على ظهر المقعد .... ليتها تظل هكذا ....تنظر وتنظر دون ان تفكر بالغد ... دون ان تعصف بها ذكريات الماضي البشعة ..... لكن حتى وان نسيت في النهار عندما تكون مشغولة مع الاخرين فيكفي ان تضع رأسها ليلا على الوسادة وبمجرد ان تغمض عينيها لوهلة حتى يتراكض امامها الشريط السينمائي مرة اخرى ودون ارادة منها ...... مهما حاولت ان تشغل تفكيرها بأمور اخرى الا انها لاتستطيع ..لاتستطيع ...الامر ليس بيدها ....
صوت الطبيبة اعادها من شرودها حين قالت لها بلطف وهي تركز على القيادة
- اذن رضاب ..الم تخمني الى اين نحن ذاهبون ؟!!!
التفتت لها رضاب بسرعه واعتدلت بجلستها ... الساعة كانت العاشرة والربع تماما عندما جاءت الطبيبة لأخذها من المنزل ...في حينها خرجت خالتها لكي تفتح لها باب الشارع وقد تكلمتا قليلا وتبادلتا التحية ... خالتها كانت تعلم بأمر خروجها وهي في الحقيقة لم تمانع خاصة عندما اخبرتها الطبيبة بأن الامر ضروري ومرتبط بعلاجها النفسي !!
همست رضاب بخفوت
- لا اعرف دكتورة ....اممم ربما نحن ذاهبون الى المشفى !!
رفعت الطبيبة حاجبيها بتساؤل وهي تبتسم لها ابتسامة صغيرة
- ولماذا الى المشفى ؟!
هزت رضاب كتفها واجابت
- لا ادري مجرد تخمين !!!!
اجابتها الطبيبة بهدوء وهي لاتزال تركز على الطريق الممتد امامها ... كانوا قد بدؤوا يخرجون من مركز المحافظة واصبح الطريق اكثر هدوءاً
- نحن ذاهبون الى عنكاوة
قطبت رضاب حاجبيها بعدم فهم ...لماذا يذهبون الى هناك ياترى !! عنكاوة هي مدينة عراقية.. تقع ضمن منطقة إقليم كردستان ... تحديداً شمال غرب مدينة أربيل.... يبلغ تعداد سكانها حوالي 30 الف نسمة .... معظم سكانها كلدان و آشوريون من أتباع الكنيسة الكلدانية الكاثوليكية....
تتميز منطقة عنكاوة بوجود العديد من الكنائس الحديثة والقديمة كما تتميز بوجود مطاعم ومرافق سياحية أخرى... تحولت عنكاوة إلى مركز جذب للمهجرين المسيحيين من المناطق الساخنة بعد احتلال العراق عام 2003 وذلك للاستقرار النسبي الذي تتمتع به البلدة ولتركيبتها السكانية المتميزة ... حيث أن الغالبية العظمى من سكانها مسيحيون ....
هزت رضاب رأسها بصمت وعادت تنظر الى النافذة ... المدينة كانت جميلة جداً لا يقل جمالها عن مركز محافظة اربيل ...ابتعدت السيارة عن العمران شيئاً فشيئاً الى ان وصلوا لمنطقة هادئة تقريباً تحتوي على منازل متفرقة ... توقفوا امام منزل صغير يحيط به جدار منخفض نسبياً ... بوابتها الخارجية كانت خشبية مطلية باللون الابيض ....
ترجلا من السيارة بصمت ..رضاب كانت تمشي ورائها بهدوء واستسلام تام ... فتحت الطبيبة البوابة وكأنها تمتلك الصلاحية لفعل ما يحلو لها .... دلفت للداخل تتبعها رضاب بحذر وهي تلتفت حولها تنظر للحشائش القصيرة الخضراء .. واشجار النارنج والبرتقال العالية .... الحديقة تبدو وكأنها مزرعة مصغرة ..خاصة بعد ان لمحت الخضراوات المزروعه في الزاوية البعيدة من المنزل ...استطاعت ان تميز الطماطم الحمراء اللامعة ...والباذنجان الممتدة بين الوريقات الخضراء اضافة الى محاصيل اخرى متنوعة ....
اما اسراب الدجاج الملون فكانت منحسرة خلف سور حديدي يقع ملاصقاً للمنزل من الجهة اليمنى ... المنظر كان رائعاً وساحراً وكأنها بقعه من عالم السحر والخيال ....بعيدة عن تلوث المدينة وصخبها .... وضجيجها المزعج

طرقت الطبيبة الباب ثم انتظرت وهي تركز على وجه رضاب المرتبك وهي تطمئنها بهزة صغيرة من رأسها ... ملامح الطبيبة الاربعينيه التي كانت تنضح بالنورانية والصفاء كانت كفيلة لكي تبث داخلها الراحة والطمأنينة ....
بعد مرور بعض الدقائق سمعا صوتاً انثويا يصرخ بحنان امومي
- انتم يا اطفال الم تسمعوا صوت الباب وهو يطرق ! حسابي سيكون عسيراً معكم !!
فتح الباب لتطل عليهم فتاة شابة تبدو في منتصف العشرينيات او اكثر بقليل ...ما ان لمحت الطبيبة حتى هتفت بقوة وسعادة وهي تهم باحتضانها
- دكتورة نوال .... لا اصدق ...اهلا وسهلا بكِ ....اشتقت لك كثيراً سيدتي ...
كانت تقبل خديها بالتناوب وهي لاتكف عن الترحاب الحار بها ...ابتسمت الطبيبة وقالت بحنان
- كيف حالك ايفلين ..اشتقت لك يا صغيرة !
ابتعدت عنها ايفلين وقالت بينما يتحول لون وجهها الابيض المكتنز الى كتلة من الحمار
- اااوه سيدتي ....عن اي صغيرة تتكلمين لقد كبرت الان واصبحت اماً لأربعة قرود وعفاريت
التفتت تنظر لرضاب التي كانت تقف تراقبهم بابتسامة صغيرة
- اهلا انستي ... عذراً تفضلا الى الداخل ..هولاء الاطفال سيفقدوني صوابي في يوماً ما
اجابت الطبيبة ببشاشة وهي تحث رضاب على الدخول قبلها
- فليحميهم الرب لك عزيزتي ....كيف حال زوجك !
اجابت ايفلين وهي تحثهم على الدخول في المطبخ الواسع والذي احتوى على منضدة كبيرة بيضاوية الشكل ذات لون بني لامع وزع عليه خمسة كراسي كبيرة وواحدة صغيرة يجلس عليها طفل لم يتجاوز التسعة اشهر من عمره .... مكتنز الوجه بوجنتين حمراويتين وشعر اشقر كان يلعب بفتات المعكرونه الموضوعه امامه وهو يطلق كلمات غير مفهومة

- زوجي بخير الحمدلله .... تفضلا بالجلوس ...عذرا على الفوضى ... فالاولاد لا يتركون مكاناً نظيفاً في المنزل ان لم يضعوا لمستهم الفوضوية علية
جلست رضاب في مقعد مجاور للطفل وهي تنظر له بحب وحنان ...عيناها كانت لامعه ..تراقب كفيه الصغيران وهما تفركان فتات المعكرونه وتضعهما في فمه الوردي .... اااه طفلتي ...ربما كانت لتكون الان بعمر الشهر او الشهرين !!
متأكدة بأنها كانت ستشبه هذا الطفل الجميل الماثل امامها ... بمرحة وحيويته .... امتدت يدها الى بطنها المسطح واخذت تقبض عليه بقوة .... حن قلبها لتلك الركلات الخفيفة التي كانت تشعر بها في اواخر ايامها ..والتي لم تشبع منها بعد !

كانت الطبيبة تتبادل الكلام مع ايفلين المنهمكة بتقليب الطعام وهي تقف امام الموقد بينما تركز نظراتها على رضاب ..وملامح وجهها التي عكست ما تفكر به بالضبط ...
منذ اللحظة التي اخبرتها رضاب عن موضوع الخطبة علمت تماما ما عليها فعله ....رضاب بحاجة لحافز قوي يدفعها لاتخاذ قرارها ....هي تعلم ان ما تعرضت له من خيانه فادحة شي لا يمكن نسيانه بسهوله الا انها متاكدة بان هذه الشابة تمتلك عزيمة وقدرة على تخطي الماضي والمضي قدما لبناء مستقبلها ....
وهي ان لم تلمح اهتماما وبوادر حب مدفون داخل قلبها لمعاذ والتي اكتشفتها هي بخبرتها ونظرتها التي لا تخطئ ابداً لم تكن لتشجعها على القبول به مطلقاً ....لكنها معجبه به وتريده وهذا واضح جداً من الطريقة التي تتكلم بها عنه حتى قبل ان يتقدم لخطبتها
صبت ايفلين القهوة في عدة فناجين ثم عادت لتجلس امامها على الطاولة وهي تقول
- لم تعرفيني على الانسة الجميلة دكتورة نوال !!
ابتسمت نوال وقالت
- هذه رضاب صديقتي المقربه وهي بمثابة ابنة لي ..مررنا من هنا وفكرت بزيارتك
اومأت ايفلين وهي تنظر لرضاب قائلة
- اهلا وسهلا رضاب سعدت بالتعرف اليك
ارغمت رضاب نفسها على انتزاع نظراتها المعلقة بالطفل ثم همست بخجل
- اهلا بك سيدة ايفلين
اجابت ايفلين بمرح وتسلية
- لالا ...لاتقولي سيدة هذا يجعلني اشعر باني اصبحت كبيرة في السن .... قولي ايفلين فقط ....
ظلوا يتجاذبون اطراف الحديث ... عرفت رضاب بأن ايفلين متزوجة منذ سبعة اعوام وهي نازحة من الموصل بعد احداث التي مرت عليها منذ دخول داعش ...شعرت بالرحة والالفة معهم خاصة بعد ان خرج اطفالها الثلاث الاخرين وشاركوهم الجلوس في المطبخ ..حيث افترشوا الارض بالعابهم ومكعباتهم الملونه وهو منغمسون بالمزاح و الضجيج والضحكات .....
قالت الطبيبة لايفلين بهدوء
- حسنا ايفلين سأطلب منك طلباً وارجوا ان تلبيه لي !
ابتسمت ايفلين وقالت بطيبة
- طلباتك أوامر دكتورة ....لن انسى ابدا ما فعلتيه معي سابقاً ..جميلك ومعروفك لن انساه طوال حياتي !
ضربتها نوال على كتفها بمزاح وقالت
- عن اي جميل تتحديثين يا فتاة !!! انت ابنتي التي لم أحضا بها .... والان دعينا من هذا الكلام اخبريني ... هل يمكنك ان تقصي على رضاب ما مررت به في الموصل ابتدءاً من طفولتك و انتهاءاً بزواجك من راكان !
صمتت ايفلين وقد اختفت الابتسامة عن وجهها لتسارع نوال بالتبرير
- ان لم تريدي التكلم لابأس لست ......
هزت ايفلين رأسها وقالت بهدوء
- بالعكس دكتورة ... انا اقص حكايتي دائما على الفتيات في المشفى كلما سنحت لي الفرصة للذهاب هناك .... ارددها واحكيها لكي يستطعن المضي قدماً في حياتهن .... خاصة اللاتي يفتقدن للامل وحب الحياة مثل رضاب تماماً
اتسعت عينا رضاب بقوة وغرقت عيناها بالدموع وهي تنقل نظراتها بينهم بتشوش وقد شحب وجهها بقوة مخيفة ...... وكأنها تسألها كيف علمتي بامري !!
سارعت ايفلين للكي تبرر بصدق
- اتصدقين يا رضاب اني احسست بحزنك منذ دخولك ...لا اعلم ربما صرت امتلك حاسة سادسة تنبئني بخفايا البشر من نظرة واحدة الى وجوههم او ربما بسبب ما مررت به انا في حياتي منذ وجودي في الموصل مرورا الى وقتنا الحالي !!
اطرقت رضاب رأسها بصمت فيما وقفت نوال واتجهت الى الأطفال وهي تقول بلطف
- تعالوا معي احبائي فلنذهب في جولة لجمع البيض !
التفتت لرضاب وقالت بهدوء وهي تضع يدها على كتفها بحنان
- سأعود بعد قليل رضاب ...
وقف الاولاد بسرعة وهو يتراكضون امامها ويندفعون الى الخارج بصخب ..... امسكت ايفلين يد رضاب وهمست برقه ....
- لابأس عليك عزيزتي ...مهما يكن ما مررتي به ..لا تجعليه ينتصر عليك .... كوني قوية دائما
همست رضاب بخفوت
- انت لا تعرفين بماذا مررت يا ايفلين
هزت ايفلين راسها واجابت بقوة
- لن يكون اتعس مما مررت به انا .....
صمتت قليلا واكملت بهدوء ....
- بدأت حكايتي منذ السادسة عشر ... ولدت لأبوين كبيرين في السن ...ابي كان موظفاً في المحكمة العليا في الموصل ..وامي كانت استاذة جامعية .... تأخرا بالزواج وبالتالي تأخرا في الانجاب وقد يأسا فعلا من ان يكون لهما طفل يملئ عليهما حياتهما الفارغة ... لكن شاءت الاقدار ان تحمل والدتي بي في سن متاخر ...
ولدت مدلله لايرفض لي طلب نهائياً ...كبرت وترعرعت على الحب والحنان ... محاطة بأهتمام عائلتي .. والدي لم يكن يمتلك اقارب كثيرين ... اغلبهم يعيشون في الدول الاوربية ... لم يكن على تواصل معهم .... اما والدتي فقد كانت تمتلك شقيق واحد اصغر منها بعدة سنوات .... كان في بداية الثلاثينات انذاك .... كان يأتي لزيارتنا والمبيت معنا باستمرار ... وبحكم انه خالي ... تعلمين ..خالي ...اخ امي ...اي انه بمثابي ابي ... كنت انام جانبه ...وامزح معه باستمرار ....
ابتلعت ريقها وسحبت نفساً عميقاً ثم اكملت قائلة
- في البداية كان يتعمد لمسي ومداعبتي في اماكن معينة من جسدي ..لم اهتم ولم يخطر ببالي لحظة بأنه سيكون .. دنيء النفس هكذا ويطمع بابنه شقيقته ... والدي بحكم عملهما كانا يتاخران بالعودة الى المنزل ... وهو كان يقضي اغلب الوقت معنا .... اقسم لك يا رضاب باني كنت انظر للمساته واتخذها على محمل المزاح .... كنت طفلة في السادسة عشر فقط بريئة وعفوية ..لم اكن افكر بتلك الامور وافهمها ابداً .... الى ان كبرت وبدأت افهم واتقزز من لمساته .... انطويت على نفسي ..اصبحت اخاف التواجد معه في مكان واحد .... عندما اعود من المدرسة اقفل باب غرفتي وانزوي بها لحين عودة والدي ....
همست رضاب بذهول ... وهي متسعة العينين ...تريد أن تستوعب ما قالته ايفلين للتو
- لكن ...لكن ..لماذا لم تخبري والدتك بالأمر !!!
هزت ايفلين رأسها وقالت بندم
- اااااه يا رضااااب .... كنت غبية وجبانه ..... حقاً لا اعرف لماذا لم اعترف لها .... ربما ...لان امي كانت متباعدة عني .... انا لا انكر اهتمامها بملابسي واكلي وشربي .....اهتمامها بمستواي الدراسي .... تدليلها المفرط لي ....الا انها لم تكن تجلس معي ....لم تحدثني يوماً عن ....عن .... انت تعرفين ...اقصد ما يصيب الفتيات كالدورة الشهرية ... او التحرش ...او ان هناك مناطق محرمة من جسدي لا يجب لأي احد العبث به او لمسه غيري انا ....لم تفهمني ذلك ..للأسف ...كانت مشغولة بعملها في الجامعة ...اعتقدت ان عالمي منحسر بالملابس والمصوغات الذهبية فقط !!!
تنهدت بحسرة واكملت

- مرت السنوات وتزوج خالي وانقطعت زياراته عنا ... كنت في حينها في التاسعة عشر من عمري ....ظننت اني قد ارتحت من وجوده نهائيا لكن ما حصل كان اسوء ... ولم يكن في الحسبان ابداَ

نهضت والتقطت منديلا ورقياً ومسحت يدي طفلها بأرتباك وتوتر وكأنها تحاول السيطرة على ارتجاف جسدها الواضح ثم عادت تجلس من جديد تراقب طفلها الذي اخذ يعبث مرة اخرى بالطعام

- دخل الإرهابيون الى الموصل .... قتل ابي الحبيب على يدهم ..... كانت ايام عصيبة وصعبه علينا ....امي تركت العمل واصيبت بحالة اكتآب حاد ... اتفقنا مع بعض الجيران على الهرب خارج المحافظة ... لكن خالي اقترح على امي ان يقوم هو بهذه المهمة ...استطاع اقناعها بأن يأخذ كل واحده منا على حده تسهيلا للامر ولعدم اثارة الشك ...نسيت ان اخبرك ان خالي في ذلك الوقت كان قد طلق زوجته ... المهم هو انه استطاع فعلا ان يقنع والدتي رغم توسلي اليها ورجائي بها ان لا تتركني وحدي معه !!
اكملت بجمود
- اتذكر للأن كل كلمة نطقت بها وانا ابكي بحرقة وخوف .... اناشدها ان تاخذني معها ..... لكن للاسف ثقتها كانت عمياء بأخيها ... وانا لا الومها .... فمن هي التي ستشك بشقيقها المقرب !!
في بادئ الامر اخذ امي وبعد عدة ساعات قليلة عاد لياخذني ...لكن قبلها استفرد بي ...المنطقة كانت مهجورة ....خالية من السكان تقريباً لم يتبقى الا عوائل قليلة ومتباعدة .... للأن اتذكر نظراته الشيطانية المقززة ... كيف هجم علي واغتصبني بوحشية ...لم يهتم ببكائي ولا توسلاتي ....المهم هو اشباع غريزته الحيوانية .... ليت الامر اقتصر على هذا ...لقد ظل يغتصبني مراراً وتكراراً لعدة ايام ثم ..... ثم اخذني كالجثة الهامدة التي لاروح فيها ... وباعني ..لا اعلم لمن ... ربما لتجار الرقيق او ربما للإرهابيين ...اوربما لعصابات المافيا ... لا اعرف .... لا اعرف سوى شيء واحد هو انه باعني و قبض ثمن ابنه شقيقته ...
تعرضت لابشع المواقف .. ضرب ... قسوة .... واهانات بشعة .... اااه فترة عصيبة اتمنى أن تنمحي من حياتي .... الى ان استطعت الهروب ...اجل فتحت الباب وهربت ...ركضت باقسى سرعة ..كان الطريق صحراوياً مخيفاً ....لا اعلم كم المسافة التي قطعتها وانا اركض دون توقف ... كنت اشعر وكأني لو توقفت دقيقة فانهم سيجدونني ويلقون القبض علي ..... لم اخف من الظلام ولا من اصوات الحيوانات اوالأجنة .... اجل هكذا تخيلت ... وكأني اركض على حافة طريق محاط بالاشبح السوداء المخيفة ..... وجدت بعض سيارات الأجرة فأوقفت سيارة أجرة طلبت من سائقها أن يأخذني لأرى عمى المريض على الحدود التركية لست ادري من اين خطرت لي هذه الفكرة ... كانت انفاسي لاهثة ... شعري اشعث والكدمات تملئ جسدي وربما وجهي ... لا اتذكر ... لمحت نظرات العطف والشفقه بعيني السائق العجوز ... اقلني صامتاً ولكننا وجدنا لجنة تفتيش .... وعندما أوقفونا وسألوا السائق لماذا تركب معك امرأة بمفردها بدون رجل بالليل !! قال لهم إنها اضطرت للذهاب لرؤية عمها المريض فصدقوه وتركونا نكمل طريقنا

نظرت لرضاب التي كانت تبكي بصمت واختناق لتهمس بخفوت وهي تضغط على كفي رضاب بقوة وكأنها تشاركها ألمها ومصابها
- اعتقد انها الرعاية الالهية هي التي انقذتني من براثنهم واعمت بصيرتهم عني ......وصلت الى هنا ...اربيل مدينة الاحلام ... كنت تائهة ضائعة لا اعرف اين اتجه ....فقدت والدتي رغم محاولاتي للاتصال بها لكني لم اجدها ... حالتي كان يرثى لها ... خوف رعب اغتصاب كلها تجمعت حولي واخذتني بدوامة سوداء وابتلعتني دون رحمة ... عندما فتحت عيني كنت في المشفى .... شاحبة فاقدة للحياة ... شبة مجنونة .... نقلوني الى مشفى الإمراض النفسية والتي كانت تشرف على حالتي هي الدكتورة نوال ...رباه كم هي عطوفه ورحيمة .... احتضنتني واحتوت خوفي كانت معي باستمرار ..حتى انها اخذتني لمنزلها عدة مرات وبعد مرور عدة اشهر طويلة من الجلسات المكثفة والعلاج النفسي ... تحسنت حالتي كثيراً .... وصار بأمكاني الخروج من المشفى ... لكن الى اين اتجه والى من اذهب !!!
الدكتورة نوال كانت طوق النجاة لي ... وجدت لي عملا في احدى المنظمات الانسانية ..حيث رحبوا بي خاصة بعد ان اخبرتهم بقصتي كاملة .... عشت حياتي مرتاحة البال على الرغم من الكوابيس التي كانت تنتابني بين فترة واخرى ... كما ان والدتي اختفت تماماً .... اشك بانها قد قتلت وربما بتدبير من شقيقها الخسيس ... كنت اقص حكايتي على الفتيات في مركز التأهيل الخاص بالعلاج النفسي ... بكل مرة ارويها كنت اشعر بالقوة والثقة ... لا اخجل من ماضيي رضاب كنت استمد منه القوة والصلابة .... استمررت في عملي لعدة سنوات ومن ثم تعرفت الى راكان ... زوجي الحبيب .. كان يعمل سائقا لنقل البضائع والمئونات للمنظمة ... اخبرته بكل ما مررت به .... كان متفهما ...عطوفاً ... مراعياً لمشاعري ... بدأت علاقتنا بصداقة بريئة ... ليصارحني بعد ذلك بحبه وبطلبه الزواج مني ... على الرغم من الفارق العمري بيننا فهو في الأربعينات من عمره وانا كنت في بداية العشرين الا اني اشعر معه بالراحة .... اشعر وكأنه ابي و اخي عائلتي كلها ... الرب عوضني به بعد رحلة عذابي الطويلة يا رضاب .... وها انا اعيش حياتي معه ... لا استطيع النوم دون ان اضع راسي على صدره المتعب ... تركت العمل في المنظمة وتفرغت لخدمة عائلتي .... وانا سعيدة بذلك ... حتى اني صرت اعرف كيف اتعامل مع ابنتي الكبرى التي اصبحت الان في الاول الابتدائي ...احاول ان اتقرب منها وافهمها بطريقة غير مباشرة على ان لا تخفي عني ادق التفاصيل الصغيرة !

كانت رضاب تستمع لها والدموع تجري على وجنتيها .... شعرت بالخجل من نفسها .... من ضعفها واستسلامها .... ما مرت به ايفلين يعد نقطة ببحر ما مرت به هي !!!
همست ايفلين بحنان وهي تحتضن كف رضاب بأخوية صادقة
- انا لا اعرف ما هي قصتك ولا اريد ان اعرفها لكن صدقيني التفكير في الماضي والبكاء عليه لا يجدي نفعاً ...خذي العبرة منه ... لكن لا تجعليه ينتصر عليك .... عيشي حياتك ...ابني مستقبلك بأصرار وعزيمة .... الحياة لاتحب الضعفاء ولا تحميهم ....تدهسهم تحت اقدامها ...كوني قوية من اجل نفسك انتِ ....
اومات رضاب وهي تمسح دموعها وابتسامة صغيرة ارتسمت على شفتيها المرتجفتين وقالت لها بصدق
- انا تركت الماضي ايفلين لكن هو يابى ان يتركني صدقيني الامر ليس بيدي
- لا بل هو بيدك انت .... انسي .... النسيان هو الدواء الشافي .... تغلبي على ضعفك لاتجعليه يبتلعك وينتصر
حل الصمت بينهما لدقائق قبل ان يندفع باب المطبخ ويدخل الاولاد بضحكاتهم وهتافاتهم وهم يحومون حول والدتهم كل واحد منهم يريد ان يستأثر على انتباهها ... ظلا هنا بعض الوقت وشاركو ايفلين وأولادها وجبة الغداء ثم غادرا بعد ان اكدت عليهم ايفلين بإعادة الزيارة مرة اخرى

طوال الطريق كانت رضاب صامته ...تنظر الى الشوارع بذهن شارد ..تسترجع كل كلمة قالتها ايفلين .... لم تدرك انهم وصلوا للمنزل الا عندما توقف السيارة وقالت نوال بهدوء وهي تلتفت لتنظر لرضاب بتشجيع مؤازرة
- والان يا رضاب ....فكري جيداً ...وانا متأكدة من انك ستتخذين القرار الصائب .... ثقتي بك عالية جداً صغيرتي
بادلتها رضاب النظرات وهزت رأسها قبل ان تودعها بخفوت وتغادر السيارة وهي بحال مغايرة تماماً عن الحالة التي ذهب بها قبل ساعات قليلة
..................
.................................
هاهي تتصل بها للمرة الثالثة ولم ترد عليها !!! يا الهي اتراها قد خاصمتها !!! اجل ربما خاصمتها !! لكنها ارادت ان تستقر حالة عزوز لربما بعد مرور عدة اسابيع سيعود لوضعه السابق .. لم تكن تعرف بأنه سيذهب الى منزلهم !! عندما اخبرها بشأن زهير تجمدت مكانها وقد شعرت بفداحة ما فعلته ! كم هذا مخجل .... لماذا لم تتصل بها وتخبرها سابقاً !!!
يا الهي هي فقط كانت محرجة من اخبارها بقرار اخيها المحجف بألغاء فكرة الزواج نهائياً ....
فجأة سمعت صوت تبارك وهي تجيبها بنبرة معاتبة ومؤنبة
- اهلا رونق كيف حالك
اجابتها رونق بحرج وخجل شديدين
- اهلا تبارك انا بخير الحمدلله كيف حالك انتِ !!!
جلست تبارك على طرف الفراش وهمست قائلة بلهجة معاتبة
- بخير يا صديقتي الصدوقة ! التي لاخفي عني امراً ابداً!!
سارعت رونق مبررة وهي تتوجه الى الصالة
- اقسم بالله يا تبارك بأني كنت ساتصل بك في الوقت المناسب
اجابتها تبارك بكآبة
- ومتى هذا الوقت يا رونق !!! لماذا لم تخبريني بأن عبد العزيز قد عاد ... لماذا جعلتيني اصدم بهذا الشكل ...هل لك ان تتخيلي موقفي وانا ادخل لعيادته وارى ما اصابه فجأة ودون سابق انذار !!!!
اغمضت رونق عينها وهمست قائلة بيأس
- رباااه ذهبتِ الى العيادة !!!
اجابت تبارك بأختناق وقهر وكأنها على وشك البكاء بشكل مثير للشفقة
- اجل يا رونق ذهبت بالصدفة ....وياليتك تعلمين كيف استقبلني عبد العزيز ببرود ... كان على وشك ان يطردني !!
هزت رونق رأسها هامسة بسرها هذا ما كنت اخشى منه .... تنهدت واجابت بلهجة متأسفة وهي تشعر بالعجز وقلة الحيلة من اجل اخيها المسكين
- صدقيني يا تبارك ...كل ما اردته هو بعض الوقت الى ان تستقر حالته النفسيه ... عبد العزيز تغير يا تبارك .........تغير كثيراً ..... ماذا اقول لك ...لقد رفض موضوع الزواج رفضا قاطعا ...وانا فكرت بأنه ربما يمكن ان يتراجع عن قراره في الايام القادمة ... لكن حالته تزداد سوء وتفاقماً !
كانت تبارك تستمع لها وقد تحول وجهها الى اللون الاصفر .... احست وكأن البرودة تسري في جسدها كالمخدر ..... لماذا حظها عاثر لهذه الدرجة !! بعد ان وجدت الانسان الذي شعرت معه بالراحة والحب وبعد ان تعلقت به كالطفلة التي وجدت ملجئها اخيراً ...يضيع كل شيء منها بغمضة عين !!!
همست تبارك بخذلان وقهر وهي تزيغ حدقتيها في الفراغ
- اذن ....هو اخبرك ..انه ...انه ...لم يعد ...
قاطعتها رونق بقوة ولهفة
- تبارك ...ارجوك افهمي موقف عبد العزيز .... مايحصل له هو امر متوقع ....هو يشعر بأنك ربما ستشفقين عليه ان وافقتي به وهو بوضعه هذا !!!!
اجابت تبارك والدموع قد ترقرقت بعينيها المظلمتين
- وكيف لي ان اثبت له العكس يا رونق اخبريني كييييف !!!!!
اجابتها رونق وهي تتنهد براحة .... فهي قد تأكدت الان أن تبارك تحب عبد العزيز بصدق وهي متمسكة به بالفعل
- الصبر يا تبارك .... نصبر عليه قليلا لربما الايام كانت كفيلة بتغير رأيه ...ماحصل له ليس بالقليل ابداً ....
اومأت تبارك وهي تمسح ..... كانت تعلم ان الطريق مع عبد العزيز بات ملغماً ومملوء بالأشواك والعثرات .... مشاعره طبيعية جداً ...لقد احست به ....احست بقهره وصراعه الداخلي ..... اشتياقه لها كان واضحاً لها .....خاصة عندما كان يجلس في الصالة والتقت نظراتهم .....لوهلة احست ان الجالس امامها هو عزيز القديم الطيب لكن سرعان ما ادار وجهه الى الناحية الاخرى .....
هي تحبه جداً ومتأكدة بأنه لايزال يحبها رغم ما يحاول ادعائه .... كل ماعليها فعله الان هو الصبر كما قالت رونق ....عل الايام القادمة يكتشف ان الحب والتفاهم ليس له علاقه بالشكل الخارجي والرصيد المالي في البنوك !

....................
.................................
منذ تلك المشادة الكلامية القوية التي جرت بينهما قبل ثلاث ايام وهو يعاقبها بالصمت ... يتكلم معها امام الجميع بصورة طبيعية وما ان ينفردا .... حتى يتخذ جانبه ويتصفح هاتفه قليلا قبل ان ينام مديراً ظهره لها ...وكأنها مجرد قطة متشردة تنام جانبه على السرير .... حتى عندما تبادر هي وتتكور خلف ظهره وتحتضن خصره بذراعها ...ايضا لم يبدي اي تجاوب معها ولم يهتم لها !
تسحق ذلك وهي مقرة بهذا .... لكنه اطال كثيراً بهجرة وخصامه ... لماذا لا يريد ان يشعر بأنها تغار .....فقط تغاررررر!

لقد تعبت من هذا البرود واللامبالاة ...لم تصدق للأن ان هذا الرجل القاسي القلب هو نفسه وليد الذي يعشقها ولا يستطيع الاستغناء عنها ولا عن قبلاتها وهمساتها له كل ليلة
ماحدث بينهما كانت مجرد مشاجرة بسيطة ..مشاجرة بسيطة وكانت لتنقضي على خير لولا انها تجرأت وكادت ان تنطق بتلك الكلمات الجارحة في وجهه ...لا يا غسق لم تكن جارحة فقط بل مهينة و فضيعه ايضاً ..كيف طاوعها لسانها و تشاجرت معه هكذا دون تفكير !!!
رأته يتوجه الى الخزانة ليخرج له قميصاً يرتديه ... لتسارع هي بإمساك القميص من يده ومساعدته على ارتدائه ثم اخذت تغلق الأزرار وكأنه طفلها الصغير ..... اما هو فقد كان هادئاً وكأنه جدار صلب يقف امامها ..... لم يهتم ويلقي نظرة واحدة لهذا القميص الاسود الشفاف الذي ارتدته له البارحة !!
التقطت العطر الخاص به رشت القليل على راحة يدها ثم اخذت تمسح به لحيته لتنزل يديها الى صدره تمسد ببطء تلك العضلات الصلبة القوية وهي ترفع نظراتها المذنبة قائلة بهمس خافت ومترجي
- يكفي خصام يا وليد ..ارجوك سامحني .. سامحني وانسى ما قلته لك ..ارجوك ..
رفع وليد حاجبيه ووجهه لم يبدي اي تأثير ثم حدق بها وشرارات البرود والحدة تكاد تقفز من مقلتية السوداويتان ... انزل يدها بهدوء وخرج من الغرفه صامتاً ....تاركاً ايها بعينين دامعتين وقلب يخفق بألم وقهر وندم !!!!!
..........................
..................................
- الى اين سنذهب بهذا الوقت زهير ؟!
كانت الساعة تشير الى الواحدة والنصف ظهراً ..حيث اغلب الناس لاذو بالفرار داخل منازلهم من اشعة الشمس الحارة خاصة الان وهم في منتصف شهر آيار .... حتى وان كان الجو معتدلا في شمال العراق الا ان الحرارة كانت ترتفع بصورة ملحوظة في فترة الظهيرة ... عندما اتصل بها قبل لحظات وطلب منها ان تستعد للخروج بسرعة ..كانت تظن بأنه يمزح الا ان ملامحه كانت تنبئها بعكس ذلك فقد سحبها من ذراعها على عجل بعد ان اخبر والدته بأنهما سيخرجان لأمر ضروري ... الاخيرة التي ودعتهم بأبتسامة ماكرة وكأنها تعرف مايخبئه زهير لها !!!
وصلا الى الشارع المقابل للمنزل ...حيث وقفا امام سيارة فارهة وحديثة الطراز ... كانت تبدو باهظة الثمن جداً ... ذات لون اسود لامع انعكست عليه اشعة الشمس لتزيدها جمالا وروعة ... اتسعت عيناها بذهول واعجاب ... همست بأعجاب
- واووو زهير انها رائعة ... رائعة وجميلة جداً ؟ لمن هي ؟!
كتف ذراعيه واجابها بفخر وملامحه تعكس سعادة حقيقية
- لي طبعاً ..لقد اشتريتها اليوم !
رفعت حاجبيها والتفتت تنظر له بارتباك وشك ... هي تعرف ان حالة زهير المادية لا تسمح له بشراء سيارة جديدة ... خاصة ان كانت باهظة وثمينة كهذه السيارة ... قالت بتساؤل وحيرة
- لكنها تبدو غالية الثمن يا زهير ..وانت تمتلك سيارة بالفعل ؟!
اجابها قائلا بلامبالاة
- لا تهتمي ولا تفكري بثمنها ... الله فتح ابواب الرزق في وجهي والحمدلله واردت ان اجدد سيارتي القديمة بأخرى احدث منها ... والان اتركينا من هذا الكلام وخمني مالاسم الذي اطلقته عليها ؟!
اتسعت ابتسامتها ثم صدرت عنها ضحكة قصيرة وقطبت قائلة بأستغراب
- انت اخترت لها اسماً ؟؟؟؟
فتح باب السيارة ثم حثها على الجلوس في المقعد الامامي وهو يقول بمرح
- بكل تاكيد بسكوتتي الشهية !
اغلق الباب ثم استدار عبر السيارة تحت انظارها المحبة التي كانت تراقبه بشغف وعشق لاينتهي .. اتخذ مكانه خلف المقود ثم ادار المحرك قائلا
- يجب ان تعرفي يا حبيبة ... ثلاث اشخاص في حياتي لهم اهمية خاصة جدا جدا و هم ... اولا امي ..ثم انت ثم سيارتي ..
ضحكت بخفة وحاولت التحكم بأنفاسها التي خرجت مضطربة ولاهثة ... بينما ضربات قلبها اخذت تخفق بعنف وجنون ..كل مرة يقول لها احبك ....تشعر وكأنها تسمعها للمرة الاولى منه ... كلما يكرر ويعيد كلمة احبك يقولها بشكل مختلف ... يثبت لها صدقة وولائه بعدة طرق .. طرق لم تعرفها ابداً ولم تسلكها بحياتها الا معه .... ادعت اللامبالاة ثم قالت بلهجة مرحة وهي تكتف ذراعيها تنظر له بتسلية
- حسنا سيد زهير فهمت ... والان اخبرني ..ماذا اسميت سيارتك المدللة ؟!
التفت ليحدجها بنظرة عميقة وداكنة تراقصت وانعكست تراتيل عشقه بوضوح عبر بحيرتيه العسليتان ليجيبها بهدوء وجدية
- حبيبة ..اسميها حبيبة ...ليبقى اسمك محفوراً بقلبي وعلى لساني داخل المنزل وخارجه!

انفرجت شفتاها بشكل مضحك ....واخذت تحدق به بصمت ... يالله قلبها تضخم بحبه حتى باتت تشعر بانه لن يتحمل اكثر من ذلك ... تمنت ان تمتلك قلبين لتحبه فوق حبها وعشقها له مرتين .... أهذا حقاً زهير الهادئ الذي كان يعاملها بأخويه ولامبالاة فيما مضى من حياتها !! حياتها البائسة التي طوتها و نسيتها ... تركتها تتبخر وتندثر كحبات الرمال لتطير وتبتعد مع ادراج الريح المستقبلية الزاهية ....
ظلت صامته لم تنطق بحرف وهو ايضاً اتخذ الصمت حليفاً له .. لعله شعر وعرف بمدى أرتباكها وخجلها !! كيف لايشعر وهو من رباها منذ الصغر ... يحس بما تحس ... ويشعر بما تشعر ... من نظرة عينيها وملامحها الناعمة يعرف ماتريد دون ان تبذل مجهوداً لأخباره او حتى التلميح له ... يكفي ان تنظر له ليصله ذبذباتها بسرعة الضوء ...
بعد مرور بعض الوقت وصلا لمجمع تجاري كبير جداً وضخم ...ربما هو اضخم مجمع رأته في اربيل كلها .. يضم الكثير من المحلات والمطاعم الراقية ... ركن سيارته في المكان المخصص ثم ترجلا بصمت .... لم تفهم لماذا احضرها لهكذا مكان ... كل ما فيه لا ينتمي لعالمها البسيط الصغير المتواضع .... احست وكأنها غريبة او شاذة عنهم ... همست بتردد وهي تمسك ساعد زهير لتجبره على التوقف
- زهير ..انتظر من فضلك ..انا ..انا ..اعتقد ان من الافضل ان لا ادخل هناك !
نظر لها مقطباً بأنزعاج واستغراب ثم اجابها قائلا بعدم فهم
- ولماذا ؟!!!
ابتلعت ريقها وقالت بخفوت و خجل بينما زحف الاحمرار الطفيف لوجنتيها
- اعتقد ان .. ملابسي ..غير ملائمة .. المكان يبدو ..يبدو ... راقي ...و انا ...
قاطعها زهير بهدوء وصرامة ...بينما عيناه تجولت بأعجاب واضح على فستانها الصيفي الطويل ذو اللون الاصفر المطعم بورود بيضاء وسوداء صغيرة وزعت على الحاشية السفلى ثم صعدت تدريجياً و وببطء الى ملامح وجهها الناعمة البيضاء المحمرة التي لفت حولها حجاب قطني تداخل لونه هو الاخر بين الاصفر والابيض .. كانت حبيبة رغم بساطة ما ترتديه الا انها رائعة وانيقة وجميلة جداً جداً
- ما ترتدية رائع ومميز .... ثقي بذلك ... ثم ان لم يعجبهم ما ترتدين تبا لهم ... اخذك الى مطعم ارقى وافضل من هذا مليون مرة ...ثم انت
اكمل بغمزة وهو يقترب منها بخفة ومرح ليلكز كتفه بكتفها
- انت مع زهير هاااا .. زهير ... لاتنسي هذا ..ومع زهير لاتخشي ولا تخجلي من شيء ابدا ابدا فهمتي يا ... بسكوتتي الشهية !!!
اومأت بسعادة وابتسامة واسعة ومطمئنة .... دلفا الى المطعم معاً ... كانت تحتضن ذراع زهير بارتباك وتوتر ... استقبلهم النادل بأدب وكان مما يبدو وكأنه بأنتظارهم .... وقبل ان يتجهوا الى الطاولة الخاصة بهم اوقفه شاب بعمر زهير ترافقه فتاة حسناء وراقية جداً .... ثم اخذ يتحدث معهما بمرح ... كان يبدو انهما مهندسان ايضاً وزملاء له في الشركة التي يعمل بها ..... عرفهما عليها قائلا
- هذه خطيبتي حبيبة ...
ثم التفت ناحيتها مكملاً تعريفه
- هذا المهندس كورشير والمهندسة بهار زملائي في العمل
رحبا بها ببشاشة ... ثم ودعاه وغادرا المكان ... على الرغم من ان تصرفات زميلته وطريقة سلامها كانت عادية جداً الا انها لم تستطع التحكم بمشاعر الغيرة والنقص التي اجتاحت قلبها .... غيم وجهها بالحزن والخجل .... كانت خجلة من نفسها ... زهير مهندس وله مكانته وهيبته .ماذا وان حدث يوما وسألوه عن شهادة زوجته !!! هل سيقول لهم بانها لم تكمل السادس الادبي حتى !!! بل وفشلت فيه لسنتين متتاليتين !! خوفها من المستقبل لم تستطع منعه .... سيظل شعورها هذا يرافقها مدى الحياة مالم تثبت كيانها ونجاحها الخاص لنفسها اولاً ثم لزهير والمجتمع ثانياً !
ما ان جلسا على طاولتهم التي كانت تقع في ركن بعيد عن الاخرين حتى احس زهير بها وبحزنها ليقطب قائلا
- مابك حبيبة !!!
اطرقت رأسها واخذت تلاعب إصبعها بارتباك ....كيف تخبره عما يخالج قلبها من مخاوف وهي نفسها خجلة منها !!!
تعبت من نظرات العطف التي كانت تلاحقها ومازالت !! لكنها بحاجة للبوح ... بحاجة لان تفتح عينيه ...لربما يعيد النظر بمسأله ارتباطهم !!لربما اعجبته زميلة له في العمل ... مهندسة مثله .... يفتخر بها امام الناس !

نغزة حادة استقرت بقلبها وهي تتخيل بأنه ربما فعلا يشعر ولو شعور بسيط بأنها اقل مستوى منه او انه سيعجب ويميل قلبه لفتاة اخرى .... فتاة تجعله يشعر بانه تسرع بقرار زواجه منها !!!!
ان تضع الان النقط فوق الحروف افضل من ان تندم في المستقبل على تأجيل ذلك ... فهي ربما ستقتل نفسها ان حدث وان عيرها يوماً بمستواها الدراسي او فكر بأتخاذ زوجه اخرى له !
- هيا حبيبة لماذا الحزن المفاجأ هذا ؟!!!
ابتسمت له ابتسامه صغير ... بلعت ريقها وهمست قائلة باختناق
- لطيفة جداً زميلتك !
رفع حاجبيه وكأنه لم يكن يتوقع جوابها هذا ...ثم ما هو الرابط الذي يربط زميلته بالحزن الذي غيم وجهها !!! ارتخت ملامحه واخذت ينظر لها بمكر وهو يرفع حاجباً واحداً ...ربما حبيبة الصغيرة تغار !!!! اجل اجل انها الغيرة !!! ابتسم واجابها قائلا
- اجل لطيفة ومهذبة !
اومأت واطرقت رأسها بصمت ... اختفت ابتسامته المتفكه وظهرت الجدية على وجهه ثم قطب منزعجاً ... وهو يقول بتساؤل
- تكلمي حبيبة مابك ؟! ولماذا تسأليني عن زميلتي ما شأني بها !!
رفعت نظراتها واجابته بصدق ودون مراوغة
- زهير .... انت لن تندم على زواجك مني ! اليس كذلك ....ارجوك ...زهير ان كنت تستعر مني لاني لا املك شهادة تجعلك تفخر بي امام الناس .. فلننفصل منذ الان ...انا ... انا ...

قاطعها زهير متعجباً من ثورتها واحتقان وجهها وكأنها على وشك البكاء
- هيي هيي على رسلك ....مالداعي لكل هذا الكلام السخيف الذي لا معنى له
اجابته بأنزعاج وضيق
- كلامي ليس سخيفا زهير ... انا اخيرك لا داعي للعطف والشفقة
قال متعجباً وهو يهز رأسه ويحدق بها بتركيز
- ومن قال اني اعطف عليك حبيبة !!! ثم الم ننهي هذه المسألة وانت قررتي اكمال دراستك الثانوية
ثم اكمل بتعمد واستفزاز لكي يثير حماسها ويعزز ثقتها بقدراتها اكثر
- ام انك تراجعت عن قرارك !!
اجابت بأصرار وقوة .... وقد تبخرت ثورتها وانخمدت
- كلا لم اتراجع لكن
قاطعها بلطف وقال وهو يمد يده محتضناً كفها المتكور على الطاولة
- بدون لكن .... ازيلي تلك السخافات من رأسك ....انت ستدرسين وتنجحين من اجل نفسك انت وليس من اجلي انا او اي احد اخر ... انا وكما تعلمين لا انظر ولا اهتم للمستوى الدراسي ابداً
ثم ارجع ظهره الى الوراء واكمل متسلياً
- فلو كان الامر بيدي لحبستك داخل قارورة زجاجية وحبست نفسي معك لأشبع منك ليلا ونهاراً
اتسعت ابتسامتها الخجولة وهي تنظر له براحة ....أأه من هذا الرجل الذي يستطيع بكلمة واحد منه ان يزيل التوتر والخوف المزروع داخلها ....كلامه هذا جعلها تزداد اصراراً وعزيمة على التفوق والنجاح مهما كلفها الامر من ثمن !!!
اكمل زهير كلامه متفكها وابتسامة لعوب تزين شفتيه
- بعد زواجنا ان شاءلله سنبدأ بمراجعه الدروس ...صحيح انا اكره المواد الأدبية ..التاريخ ...الجغرافيا .... الاقتصاد والفلسفة ....لكن ... كل شيء يهون من اجلك جميلتي
اعقب كلامه وهو يرقص حاجبيه صعوداً وهبوطاً .... ليردف بمرح
- والان دعينا من هذا الكلام ولنركز بالمهم
اجابته ببراءة وقلبها يخفق بشدة
- وماهو المهم سيد زهير
انحنى بجذعه الى الامام وهمس بصوت اجش وهو يركز على عينها الجميلتين
- المهم هو ان في مثل هذا اليوم منذ عشرون عاماً بالضبط ولدت فتاة جميلة تمتلك اجمل عينين بنيتين وشعر طووووويل اتوق لأضيع فيه واجد نفسي هناك مرة اخرى .... مزروعاً بين خصلاته الناعمة ...
اتسعت عيناها وفغرت فاهها الوردي .... احتبست انفاسها .... واخذت تحدق فيه بذهول .... ثم غامت عيناها بدموع متلألئة شفافة كحبات المطر ...... عيد ميلادها !!!!! زهير تذكر ان اليوم عيد ميلادها !!!!!! هذه هي المرة الاولى التي يتذكر بها احد تاريخ ولادتها ....هي نفسها نسيت تذكره !!!!!!!!!
همست بصوت مثقل بالمشاعر المختلطة بين السعادة والتعجب والعشق الازلي لهذا الانسان الذي لا تعرف كيف تصفه
- لم يفعلها احد من قبل ابداً زهير
اجابها هامسا وهو يبتسم لها ابتسامة رجولية جذابة
- منذ اليوم وصاعدا كل ما يخصك يخصني حبيبة ....انا وانت روح واحدة وكيان واحد فهمتي !!!
لم ترد عليه بحرف فقط دموعها الشفافة المتاثرة كانت خير جواب له
- والان لنبدأ الاحتفال ...
رفع يده وشار لنادل الذي كان يقف بركن بعيد ليأتيه بكعكة صغيرة ... كتب عليها عبد ميلاد سعيد .... صحيح ان الاحتفال كان صغيراً وحميميا الا انه بنظرها اجمل احتفال حظيت به طوال حياتها على الاطلاق يكفي ان زهير هو من اقامه لها ....
ظل يتكلم معها بكلمات هامسه طالبا منها ان تتمنى امنية قبل ان تطفئ الشموع .... أغمضت عينها وتمنت بسرها وهي تبتسم بخجل ...وما ان اطفئت الشموع حتى سارع بالسؤال عن أمنيتها الا انها ابت ان تقول له ..
رفعت كتفها بدلال وغنج وهي تجيب
- لن اقولها الان ...عندما يتحقق ما تمنيت سأخبرك ...لك وعد مني بهذا زهير !
تنهد مستسلما وهو يدعي خيبة الامل ثم اخرج علبه حمراء اللون ووضعه امامها قائلا
- هديتك حبيبتي !
وضعت يدها على صدرها شاهقة بتعجب
- احضرت لي هديه ايضاً !!!
- بالتأكيد حلوتي هيا الان افتحيها لتري ذوقي الرفيع !
فتحت العلبه بيدين مرتجفتين وقلب يخفق بشدة .... ثم نظرت بتمعن واعجاب الى تلك السلسلة الذهبية الرقيقة الناعمة التي حفرت عليها اسم زهير بحروف انكليزية مزخرفة وواضحة .... كانت عبارة سلسلة متداخله الحلقات صيغت بطريقة متقنه ...اعجبتها مباشرة ما ان وقعت عيناها عليه .... وزاد اعجابها اكثر عندما لمحت حروف اسمه .... خفق قلبها بقوة .... لا يهمها قيمة الهدية بقدر ما يهمها انه تذكرها .... تنفست بعمق عدة مرات ثم نظرت له وهي تدعي البرود والأنزعاج بينما داخلها يتراقص فرحاً وسعادة .... كيف لا وحروف اسمه ستزين عنقها ليلا ونهاراً ..قالت وهي تمط شفتيها بعدم رضا مفتعل
- جميلة .. شكراً لك !
ارجع ظهره الى الوراء ونظر اليها بتمعن ثم قال بشك بعد برهة من الصمت
- ولما تقوليها هكذا دون نفس !! الم تعجبك السلسة ؟!!!!
رفعت كتفيها ثم تنهدت بحسرة وقالت وهي تدعي الاسف
- لا اعجبتني جداً ... لكن !!!!
قطب حاجبيه الكثيفين وحثها قائلا بأهتمام
- لكن ماذا !!
اجابت بطفولية وتذمر
- لكن لماذا وضعت اسمك عليها !! كنت اتمنى ان تحتوي على حروف اسم انا !! بالنهاية انا من سيرتديها اليس كذلك ؟!
رفع حاجبه الايمن بتعجرف وغرور ثم اجابها قائلا بجدية وهو يمعن النظر بتقاسيم وجهها العابس المتجهم
- ومابه اسمي حبيبه خانم !!! ثم كيف تريدين ان اكتب اسمك على السلسلة هكذا ببساطة !! لا طبعا مستحيل ...مستحييييل
اجابت بتذمر واصرار وهي متعجبه من رفضه الصريح هذا
- ولماذا مستحيل يا زهير !!!
اجابها بحدة وجدية
- اتريدين ان تعرفي السبب !! حسناً سأقول لك لماذا ....لان السلسلة ستكون ظاهرة للعيان اي بمعنى ان كل من هب ودب في الشارع سيعرف اسمك ...وهذا ما لن اقبله بتاتا ...بتاااتاً

اتسعت ابتسامتها بغباء ...وهي تهمس داخلها بسعادة ... ربي لا تحرمني من اسدي الغيور ذو الدماء العراقية الحارة ...جعل الله روحي له فداء ..... بالرغم من ان كلامه تملكي وغير منطقي ابدا الا انها شعرت بالراحة والسعادة ....
- والان ان لم تعجبك سأرجعها للصائغ واستبدلها بواحدة اخرى لكن بدون اسماء !!!
سألها وهو يدعي الحزن والأسى ... اصبحت عيناه العسلية داكنه ولامعه ينظر لها نظرة قط يتيم فقط ابويه يستجدي الحنان والاهتمام ممن حوله ... ختم كلامه بتنهيدة عميقة وحارة جعلت قلبها يرق حزنا عليه وهي تلعن غبائها وتسرعها ... هل كان يجب عليها ان تمزح معه هذه المزحة السخيفة والسمجة !!!
هو يحبها وكل افعاله تدل على غيرته وتملكه الذي تعشقه دون ادنى شك ... لماذا جرحت مشاعره الحساسة بهذا الشكل ..اوف كم انت غبيه يا حبيبة ... همست وهي تمد يدها الصغيرة لتحتضن كفه السمراء التي كانت متكورة بقوة على الطاولة
- لا تستبدلها زهير ... كنت امزح معك ... لقد اعجبتني كثيراً
ارتخت ملامحه الماكرة العابسة واتسعت ابتسامته لتضيء وجهه الوسيم ...اجابها قائلا بأصرار وهو يدعي البرائة
- لا داعي للمجاملة حبيبتي ..انا ديمقراطي يمكنك ان تقولي رأيك بمنتهى الحرية وانا اعدك سأكون متفهماً ومراعياً ...
قاطعته بسرعة وقوة
- صدقا زهير لقد احببتها جداً ..يكفي انها تحمل حروف اسمك
تنهد براحة
- حسناً والان لنكمل احتفالنا في مكان اخر
اجابته متعجبة
- ماذا !!! مكان اخر
اجابها بثقة وهو يرفع حاجبيه
- امممم وهل كنت تظنين ان اليوم سينتهي بسرعة !!!! كلا جميلتي هناك مفاجآت اخرى بانتظارك
.............................
..........................
البصرة
..........
محتاجك حلم لو مر عليه الليل
محتاجك حزن لو غابت الدمعة
انا بدونك احسه العمر خلصان
وبس انت الوحيد التگدر اترجعة
......
يجلس بسيارته التي صفها بمحاذاة الرصيف المطل على شط العرب ... كان يريح رأسه على المقعد الجلدي نسمات الرياح الصيفية الرطبة الحارة تصفع صفحة وجهه بلسعاتها المحمومة .... لكنه لم يشعر بحرارتها ...فلهيب قلبه وانتظاره كان اكبر واكثر بكثير من لهيب الجو المستعر حوله ... حدق امامه بشرود يراقب قرص الشمس البرتقالي الذي كان على وشك الغروب .... يستمع لتلك الاغنية القديمة التي كانت تعرض في فترة التسعينات ( تسأليني ليش احبج )
كم كانت الحياة بسيطة وجميلة في ذلك الوقت ...قلوب البشر كانت نقية وبيضاء ...يعيشون على فطرتهم وعفويتهم ....لم يعرفو الكره ولا البغض ولا التفرقة في معاملتهم ..... رغم انه بذلك الوقت كان لايزال مراهقاً صغير الا انه يذكر كل التفاصيل الصغيرة الجميلة التي كان يعيشها مع اقرانه انذاك ... ليت تلك الايام تعود مرة اخرى ... ليت بلده يعود كما كان ....
فرك وجهه بيديه ثم قطب مفكراً وهو يعتدل بجلسته ليلتقط هاتفه النقال المرمي على المقعد المجاور له ... نظر لتلك الشاشة المطفئة الصامته بعينان ثاقبتان قلقتان .... متى سيرن ..متى سيصله جوابها !!!
هاقد مضى سبعة ...لا بل ثمانية ايام وستة عشر ساعة وخمس وعشرون ثانية ... وهو يعيش بحالة تشتت وعدم تركيز ... حتى عمله يقوم به بآلية وجمود ...كما ان سخرية والدته وكلماتها المبطنة التي باتت ترميه في وجهه كلما اجتمعا معاً اصبح يخنقه ويزعجه جداً ...
وكأنها تقول له بطريقة غير مباشرة ...هاهي الفتاة التي تحديت من اجلها والدتك قد رفضتك ...اشرب وتحمل نتيجة قرارك وانسلاخك عن عاداتنا وتقاليدنا !! للان يتذكر كيف تكلمت معه عندما كانو يجلسون في الصالة يأكلون طعام الغداء
- لم يردوا عليك للأن ؟!
رفع نظراته وهو يتوقف عن الأكل قائلا بهدوء
- كلا
مطت شفتيها ببرود وهي تقول باستفزاز
- اممممم ربما نسو الامر من الأساس !
ابتلع ريقه وهو يحدق بها مفكراً بأمكانية صحة كلامها !!! لا وليد لن يفعلها وينسى ابداً ...اجابها بجمود
- كلا امي لم ينسوا اطمئني ... فقط ادعي لي بالتوفيق !
هزت رأسها وقالت بهدوء قبل ان تعاود الاكل مرة اخرى
- ادعي لك يا ولدي ليلا ونهاراً ان يبعد الله عنك كل سوء و ينور بصيرتك وطريقك !
كلامها كان مكشوف له جداً ....لكنه تجاهل كالعادة ما قالته
عندما اتصلت بها ملك قبل عدة ايام اراد ان يخطف الهاتف من يدها ويكلمها بلهفة واشتياق... يستجدي الموافقة منها ان لزم الامر .... لكنه احكم السيطرة على انجرافه ورغبته .... مجبراً نفسه على التريث والصبر والانتظار .... لايهم الى متى سيطول انتظاره ... حتى لو انتظر لعدة اسابيع اخرى لايهم ...المهم ان توافق ... ان تكون بالنهاية له !! لكن مهلا ...ماذا سيفعل ان رفضته !! ربما هي رفضته فعلاً ووليد خجل من ان يبلغه قرارها ؟!!!
همس بصوت خافت ومتعب وهو يرجع رأسه مرة اخرى على المقعد ...هل حقاً رفضتي يا رضاب ؟! هل فعلا لا تريدين الاتباط بي ؟!
حتى لو كانت موافقتها تقتصر فقط من اجل ملك ..هو موافق ومرحب ...فقط فلتكون زوجته ... يكفي ان يراها تنتقل في ارجاء منزله ... امام ناظريه ... والله النظر لوجهها صباحاً سيكون اكثر من كافِ بالنسبة له ! لكن متى سيصله قرارها ..متى !!
خرج من السيارة وتوجه نحو السور الحديدي للجسر امسك به بقوة ثم رفع رأسه الى السماء هامساً بصوت يشوبه الحزن والهم
- ربي انت تعرف بأني لم انظر للحرام ابداً بحياتي .. ولعدة سنوات لم افكر بالارتباط ...قلبي خفق لها واختارها دوناً عن النساء كلهم .... يالله ...انت من زرعت حبها بقلبي ...فأجعلها من نصيبي يا ارحم الراحمين
.............................
اربيل مساءاً
..............
الوقت كان ليلا عندما وصلا الى جبل كورك والذي يقع ضمن الحدود الإدارية لأربيل .... يذهب اليه السياح من مختلف انحاء العالم .... خاصة في فصل الشتاء حيث يمكنهم ممارسة رياضة التزلج عليه
ذهبا الى قمة الجبل بواسطة المصعد الكهربائي (التلفريك) حيث يقع في قمته مطعم فخم والذي يعتبر المطعم الأعلى في العراق والمنطقة...... تناولا هناك وجبة العشاء ثم أخذها في جولة طويلة الى احد دور الاستراحات المنتشرة قرب الشلالات العملاقة .... حيث الحفلات والدبكات الكردية تضج في المكان الى ساعات متأخرة من الليل وكأنهم يقيمون كرنفالاً يومياً ....
كانت حبيبة تشعر وكأنها تسير فوق الغيوم .... تحيط بها وتدور حولها النجمات اللامعه من كل اتجاه ... كم هو رائع ان تسير الفتاة مع زوجها ...سندها .... حبيبها وهي مرفوعة الرأس ...تسير معه بالحلال دون خوف او خجل او تردد .....ذراعها تلتف حول ذراع زهير بقوة وتملك .... قلبها يتراقص من شدة السعادة
دلال زهير وعشقه الواضح بتصرفاته وهمساته كانت لها الاثر الكبير في زيادة ثقتها بنفسها ....بدت وكأنها فراشة خرجت للتو من شرنقتها الخجولة التي كانت تدفن نفسها بها لسنوات طويلة .... وكأنها تخشى السخرية والاختلاط بالناس
اجلسها زهير على احد الكراسي وهمس قائلا بمكر وتسلية
- اجلسي هنا وراقبي ما سأفعله
امسكت ذراعه وهي تلتفت حولها بحرج هامسه بخفوت
- انتظر زهير الى اين ستذهب وتتركني وحدييييي
غمز لها بتسلية واجبها وهو يبتعد عنها
- الان ستعرفين
راقبته كيف توجه الى المنصة الخاصة بالموسيقيين ... اخذ الميكروفون وهمس ببعض الكلمات مع احدهم قبل ان يهتف قائلا بفكاهة وجراءة لم تعرفه بها ابدا
- سيداتي سادتي اليوم سأغني لكم اغنية بصوتي المتواضع واهديها لخطيبتي الجميلة

احتبست انفاسها وقد تحول وجهها للون احمر ناري وهي تلتف حولها بارتباك ....الحمدلله انه لم يشير عليها او يذكر اسمها هذا المجنون المتهور .... رباااه مالذي يحاول فعله بالضبط !!!
عضت شفتها بقوة وهي تحاول كتم ضحكاتها وهي تستمع لصوته الخشن المضحك الذي بدأ بغناء اغنية باللغة الكردية

تعالي ايتها الجميلة ذات العيون الكحيلة
تعالي تعالي لأحضاني
ارجوك لاتهزي الشوارع بضحكتك
يكفي لا تحرقي قلوب الشباب بمشيتك
دلعك وحركة شفتيك وصوت كعب حذائك
سرقت قلبي بدلع وحيلة
على مهلك وبهدوء
وعلى اطراف اصابعك تمشين بشوارع المدينة
وتحرقين القلوب
تعالي تعالي ولا تفعلي هذا بي
ارجوكِ تعالي ولا تخجلي
يكفي لا تعذبيني
ارجوك لا تتدللي واعطني قبلة ... فقط قبلة صغيرة

كان يغنيها بانطلاق وسعادة وهو يرقص تارة فاتحاً ذراعيه وتاره يقف ويغمزلها ويحرك حواجبه بتسلية ...كانت تفهم بعض الكلمات العابرة فيزداد قلبها خفقاناً وسعادة ....والشيء المضحك ان الجميع شاركوه الغناء والرقص ....
بعد مرور فترة طويلة عادا الى المنزل والسعادة ترفرف فوق رأسيهما .... وما ان نزلا من السيارة حتى توقفت سيارة شرطة امام منزلهم بالضبط ...وكأنهم كانوا يترقبون وصولهم .... نزل شرطيان ضخمي الجثة قال احدهم بصوت باردة وحاد
- السيدة زهير اكرم ال.... ؟!!
اومأ زهير بفضول واجابهم بشك
- اجل سيدي انا زهير ماذا هناك ؟!
امسك الشرطي من ذراعه وقال بهدوء
- تفضل معنا الى المركز هناك امر باستدعائك
هبط قلب حبيبة الى قدميها والصدمة جعلتها كالمشوشة ... همست بصوت ينبئ عن موجه هستيرية من البكاء
- م..ما....ذا ...هناك زهير !!!!!!
التفت ينظر لها مقطباً حاجبيه بحدة وامرها بصوت حاد
- اذهبِ الى الداخل هيا
- لكن
قاطعها بقوة وحدة وقد اضلمت ملامحه الوسيمة
- قلت اذهبِ الى الداخل ... مجرد سوء فهم انا متأكد من هذا ...دقائق واعود ان شاءلله !
امسكت حبيبة ذراع زهير لتوقفه عندما لاحظت الشرطي يسحبه من ذراعه الاخرى بقسوة .. ثم قالت بصوت مرتجف ودموعها بدأت بالظهور بينما وجهها شاحب للغاية
- سيدي ...سيدي ارجوك اتركه هو لم يفعل شيئاً ارجوك
التفت لها زهير وقال بغضب
- قلت اذهب الى الداخل تبا حبيبة هييييييييييا
اومأت ودموعها بدأت بالهطول على وجنتيها بغزارة ....دلفت الى الداخل ونظراتها معلقه على الطريق الذي اختفت فيه السيارة خلف البيوت المنتشرة
................................

نهاية الفصل الثلاثون

رماد الغسقحيث تعيش القصص. اكتشف الآن