15

193 12 0
                                    


الفصل الخامس عشر
....................
انهضي يا امرأة واعدي لي حساء العدس ... مفاصلي تؤلمني أريد شيء يدفئ لي عظامي ... الثلج لم يتوقف عن الهطول منذ الصباح !!!!
قالها بتكاسل وهو يتدثر جيدا بالغطاء الصوفي وعيناه مثبته على شاشة التلفاز أمامه
أجابت زوجته وهي تناغشة بمكر
- اذهب واتعب نفسي واُحضره لك وعندما أعود ... أراك نائما وتشخر بصوت عالٍ ككل مرة أليس كذلك !!!
هتف باستنكار وغضب حقيقي
- من هذا الذي يشخر يا كاذبة ؟! انا لا أشخر ابداً ! عيب عليك ان تكذبي وتتهميني بالباطل وانتِ بهذا السن !
اجابت وهي تلوي شفتها ساخرة
- ومابه سني !!! انا لازلت بفورة شبابي !! لايوجد عجوز هنا غيرك انت !
تنهد بضجر وقال فجأة وكأنه لم يتشاجر مع زوجته لتو
- ااااه يا فخرية مفاصلي تؤلمني بشدة ... هيا هيا انهضي واحضري لي علاج القلب !
اجابت مقطبة بحيرة
- مالذي يؤلمك بالضبط يا رجل ... لم افهم .. مفاصلك ام قلبك ؟!
اجابها وهو يهتف بأرتباك
- اووووووه قلبي قلبي هيا احضري الدواء !
قالت وهي تبعد الغطاء لتنهض بتعب وتكاسل
- حسنا .. حسنا !
اوقفها مرة اخرى قائلا وكأنه طفل صغير يتذمر ويتدلل على والدته
- انتظري .. لا اريد الدواء ...اذهبِ و اعدي الحساء وانا سأكون بخير !
أومأت قائلة بنفاذ صبر
- حسنا سأذهب حالاً ..
مشت خطوتين وتوقفت لتنظر له بحزن بدت وكأنها تكلم نفسها
- اااه يا ابا مسعود ماذا سيحصل لو عرض علينا احد أولادنا ان نذهب لنسكن عندهم !!! جل ما اخشاه ان نموت هنا ولا احد يعرف بوجودنا !!!!
كان زوجها ينظر للتلفاز بوجه عابس يستمع لها بصمت لتكمل بألم
- اتذكر يا ابا مسعود .... كيف كنا نقصر على انفسنا في سبيل اسعادهم !! وماذا كانت النتيجة ما ان تزوجو حتى ذهبَ كل واحدٍ منهم ليسكن في منزل مستقل ... والله الكلب القابع قرب باب المنزل له وفاء افضل من ابنائك الثلاث !
هتف زوجها وهو يحاول اخفاء دموعه قائلا بضجر
- اووووه هل ستظلين تثرثرين فوق رأسي !!! اذهب هيا قلبي بدأ يؤلمني ستصيبني ذبحة صدرية مرة اخرى بسببك !!!
هتفت بسرعة قائلة
-حالا حاااالا فقط لا تضايق نفسك !
ذهبت زوجته بخطوات بطيئة متعبة ليهمس قائلا بألم ساخر ... أناسٍ يذهبون وآخرون يأتون ... أطفال يولدون ويكبرون ويجحدون وشيوخ يموتون ... تلك هي سنة الحياة !!!
تنهد متعباً ثم اكمل بحزن ...
- الهي لم اكن من المغضبين العاقين لوالدي ...اذن من اين ورثو ابنائي كل هذا الجحود ونكران الجميل !! الحمد لله ... لي هذا المنزل يؤويني وراتب تقاعدي يغنيني عن الاستجداء منهم ... كسرة خبز تكفينا انا وزوجتي مادمنا نعيش بكرامة !!
...................................
.................................................. .
كانت تتكأ على الحائط حجابها منحسر وشعرها العسلي متهدل من قمة رأسها ... بينما قطرات العرق الباردة متجمعة على جبينها .... رغم البرد القارص والثلج الذي غطى الشوارع والطرقات الا انها كانت لا تشعر بشيء ... فقط قلبها يخفق بجنون وعيناها متسعة وجامدة ... غارقة بالدموع ... لحظات مرعبة ... قاسية ..... مشمئزة هي تلك التي عاشتها قبل قليل ... الحقير الوغد كيف كان يتلمس جسدها بهذيان ودون ان يشعر وكأنه مغيب عن الدنيا ... كانت تحاول ان تبتعد عنه قدر استطاعتها الا انه كان اقوى منها ... اعتقدت بأنها انتهت ... سينتهك جسدها لامحالة .... الا ان صوت باران اوقفه وهو يبعده عنها قائلا بمكر
- اهدأ ...اهدأ يا صدقي ...واصبر ...
قال سليم وعيناه مثبته عليها بينما صدره يعلو ويهبط بسرعة
- اخرج من هنا ودعني معها
اجابه باران بصبر وهدوء
- تعال معي ... انسيت اتفاقنا !!! سنأخذها الى الكوخ الجبلي وهناك نستمتع اكثر ...
انتزع عيناه عن رأسها المنحني بصعوبة ثم التفت له قائلا بنفاذ صبر
- لكن الا ترى الثلج ...
قاطعه وهو يسحبه الى الخارج قائلا بخبث
- لن نأخذ راحتنا هنا خاصة وان المنطقة تحتوي على عدة منازل قريبة !
اطاعه مستسلماً وهو يَعدُ نفسه بأن يأخذ حقه منها كاملا وقريباً جداً ... لولا تلك النقطة التفتيشية لأخذها مباشرة الى الكوخ الجبلي الذي يمتلكه والدي باران والذي لايذهبون اليهِ الا في فصل الربيع ... اما الان فهو فارغ وبعيد عن مركز المدينة ... اي مهما صرخت لن يسمعها احد ... وهذا ما يريده .. فهو يريدها حرة غير مقيدة عندما يمتلكها لكي يستمتع اكثر ... حسنا سيصبر ...ومن صبر ظفر
...........................
......................................
كم هو مفجع أن يبلغ الانسان مرحلة يفقد فيها قدرته على تصديق أي شيء
أي شيء على الاطلاق.
غادة السمان
...................
اتسعت عيناها بشدة عندما رأته يدلف الى الصالة مع زهير ... تباً .. مالذي جاء به هنا ... بهذا الوقت وفي هذا التوقيت بالذات !!! نظرت لساعة معصمها وكانت تشير الى الثالثة والنصف صباحاً !!!
منذ ان اكمل إجراءات القرض وهو لم يعد يأتي للمصرف ! الظاهر انه نسي عرضة !! ابتسمت ساخرة وهي تهمس داخلها .. هذا هو المتوقع !! يبدو انه مجرد مخادع وكاذب كخالد تماما !!
حتى عندما تتصل برونق فلأخيرة لا تتطرق لذلك الموضوع .. ربما هو من طلب منها عدم ذلك ااااه كلهم مدعين ومنافقين !!!
القت السلام بوجه جامد وعابس
- السلام عليكم ...
اجابها عبد العزيز بهدوء بينما لم يفتها لمعة عينيه التي ظهرت ما ان رآها
- وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته ... كيف حالك انسة تبارك ؟!
أجابت بأقتضاب ببرود قاتل وهي تنظر له بنظرات فاترة وكأنها تخبره بعدم ترحيبها ورغبتها بوجوده في منزلهم
- الحمدلله .
قال زهير شارحاً لشقيقته وهو ينظر لعبد العزيز بامتنان صادق
- كثر الله خيره للدكتور عبد العزيز كان معي خطوة خطوة وشاركني البحث عن غسق !
شيء ما .. شيء داخلها حثها لا بل دفعها دفعاً لأن تقول ببرود ووقاحة جديدة عليها بل جديدة جداً حتى على زهير الذي استغربها ونظر لها ببهوت وعدم تصديق وكأنها ليست تبارك الرزينة الهادئة
- زهير من المفترض انها شوؤن عائلية وسرية ويجب الحفاظ عليها من الغرباء ! اليس كذلك !
عم الصمت في الصالة ... كان صمت عميق ثقيل ومزعج .... لم يصدق عبد العزيز ما قالته للتو ... أهذه تبارك ؟! أهذه هي الفتاة الناعمة الهادئة التي يحبها !! والتي من اجلها قرر ان ينكث عهده الذي قطعه على نفسه بعدم الزواج ... وكان يتصرف بصبيانية جديدة عليه !
لم يتفوه زهير بكلمة لكن من ملامحه كان يبدو عليه الحرج والاتباك ... وقف عبد العزيز قائلا بهدوء بينما عيناه كانت تعاتبها بصمت ....
- اسف لأني تدخلت بأموركم العائلية والتي كنت اعتقد بأنني فرداً منها ... ما يؤذيكم يؤذيني .. ثقي يا انسة تبارك ... ان غسق بمثابة شقيقة لي وانا من المستحيل ان امسها بكلمة ...عن اذنكم
هب زهير واقفاً وهو يحاول تلطيف الاجواء وايجاد مبرر لتصرف تبارك
- بالتأكيد انت من العائلة عبد العزيز ... ارجوك ... اعذرها فنحن اليوم اعصابنا متوترة جدا و...
قاطعه عبد العزيز مبتسما بلطف
- لابأس يا زهير ... اعانكم الله وارجعها سالمة معافاة... عن اذنكم يجب ان اذهب شقيقتي ستقلق لتأخري ... تصبحون على خير .
خرج بسرعة ودون ان يسمع ردا لزهير الذي لحق به ليوصله للباب الخارجية بحرج وخجل شديدين ... فركت يدها بتوتر وهي تهمس بندم
- يا الهي مالذي فعلته ...أكان علي ان اتفوه بتلك الكلمات المهينة ! لا اعرف حقاً مايجري معي بالضبط ما ان أراه !!!
عاد زهير الى الصالة قائلا بحدة وغضب
- مابك تبارك أجننت كيف تكلمين الرجل بهذه الطريقة الوقحة !!!
همست بصوت خافت ونبرة مذنبة .. لقد أخطأت وتسرعت وهي تعترف بذلك
- اسفة يا زهير ...انا حقاً لا اعرف كيف تكلمت بتلك الطريقة لكني فعلا متوترة وخائفة على غسق !
أجابها متنهداً وهو يفرك جبينه ويرتمي على الأريكة وقد عاد وجهه للتجهم والعبوس
- كلنا متعبون وأعصابنا مشدودة ومتوترة لكن هذا لا يعني ان نجرح الناس ونهينهم !!
ليكمل بجدية وهو ينظر لها بإمعان
- ثم لا تعتذري مني بل اعتذري منه هو ... تصرفك كان بالفعل غير لائق !!
أومأت توافقه قائلة
- ان شاءلله سأفعل ذلك ... زهير ...كنت اود ان أسألك عن سلمى !!
اجابها مقطباً وقد تغيرت ملامحه وأظلمت نظراته بشراسة
- مابها !
قالت وهي تنظر له بتساؤل
- لقد جاء السائق الخاص بهم وذهبت معه وهي تحمل حقيبة كبيرة بيدها ... ماذا هناك ... هل تشاجرتما ؟!
هز رأسه قائلا بعدم اكتراث
- فلتذهب ... تريح وتستريح !
قالت تبارك بتعجب
- لكن ..لكن ..مالسبب !!
اجابها وهو ينظر لساعة يده مقطباً بشرود
- لاتسأليني ارجوك .. شيء بيني وبينها ولا اريد لاي احد ان يتدخل
همست وهي تقلب شفتها
- انت حر اخي ... سأذهب لارى عمتي سعدية !
اوقفها قائلا بأهتمام
- كيف اصبحت الان ؟!
همست بحزن وشفقة
- ضغطها بصعود مستمر ... تنام اغلب الوقت على المهدئات لكنها تستيقظ فجأة تبكي بهستيرية وتنوح بصوت يقطع القلب .. تنادي على غسق وانفال وزوجها المرحوم ثم تنام مرة اخرى ... امي لاتفارقها ابداً تحاول ان تصبرها لكن لافائدة ...المسكينة فليكن الله بعونها غسق هي كل ما تبقت لها ... اسأل الله ان يرجعها سالمة .
آمن خلفها وهو يراقب ابتعادها بعينان متعبتان قلقتان ... ماحصل ليس بقليل ابداً .. لو انتشر الخبر ستكون فضيحة لغسق ولسمعتها ... لكن اين يمكن ان تكون .. ومن قام باختطافها !وما السبب ... طوال حياتهم التي قضوها هنا لم يكن لهم عداء مع احد ... كما انهم ليسو اغنياء ليطالبوهم بفدية رأسه يكاد ينفجر من كثرة الاحتمالات والأسئلة التي تدور بعقله!
تنهد متعباً وهو يحمل هاتفه المحمول ... بالتأكيد الان الوقت صباحاً في لندن .. سيتصل بوليد هو بحاجة لان يتكلم معه ..يستمد منه القوة ... حتى وان لم يخبره بشيء .. فقط يحتاج لسماع صوته !
.........................
...................................
لندن صباحاً
...............
مهما اقسمت
مهما ايقنت أن في بعدي عنكَ خلاصي
مهما قطعت الوعود واخذت العهود على نفسي
اعود وافشل من جديد
واعترف بفشلي
بمجرد سماعي لصوتك
احبك
احبك
احبك
يصرخها قلبي قبل عقلي
وحبك ملئي واحتلني حتى خنق انفاسي وخنقني
سرقت نبضاتي التي لم تنبض الا لك
ولا تنادي إلا بأسمك
( حبيبة )
............................
يجلسان في المطعم الخاص بالفندق الذي يقيمان فيه يتناولان الفطور .. سماء لندن ملبدة بالغيوم الداكنة ... بينما الثلج يهطل ببطء شديد مغطياً الأرصفة وقمم الأشجار الشبه عارية ... كانت حبيبة تشرب الشاي وهي تختلس لوليد النظرات ... يبدو شارداً ومتعباً ... من حقه فهو يتحمل الأعباء وحده ... حتى زهير رغم انه يحاول تقديم المساعدة الا انه ايضا لايصل اهتمامه ومقدرته على تحمل المسؤولية مثل وليد ابداً ... زهير ... همستها ساخرة بمرار .. لن تنسى مطلقا كل كلمة وجهه لها قبل السفر ... الى متى ستظل على سلبيتها هذه ؟! الى متى تتحمل تحكماته وسيطرته الغير مبررة .. الى هنا وكفى .. يكفيها ما تحملت منه .. يكفيها خداعاً وتخديراً لقلبها التعس الذي لايريد نسيانه ابداً .. ستتجاهله وتحاول بناء نفسها من جديد ... يجب ان تتحلى ببعض القوة ليس من اجلها فقط بل من اجل رضاب ايضاً !! اجل هذا ما ستفعله ما ان تعود !!
بالمقابل كان وليد غارق في دوامات الحيرة ... يشعر بأن هناك شيء ما جرى في المزرعة وزهير لا يريد إخباره ... ترى ماذا هناك !! لقد اتصل بهم البارحة وكان صوته مرتبكاً متعلثماً ! تكلم معه باقتضاب وبكلمات قليلة .. وكأنه مشغول وشارد البال !
هناك ما حصل ويجب عليه ان يعرف ! صوت حبيبة انتشلته من افكاره القلقة ..
- وليد .. ماذا سنفعل مع رضاب ؟!اعتقد بأننا يجب ان نخرجها من المشفى !
اومأ وليد قائلا بتنهيدة عميقة
- اجل اعرف يا حبيبة ... الطبيبة قالت ان صحتها الجسدية تحسنت لكنها لاتزال بحاجة لعلاج نفسي فحالتها غير مطمئنة !
أكمل وهو ينظر لها بجدية
- سأأخذك إلى المشفى لتبقي معها بعض الوقت ريثما اذهب لرؤية زوجها وافهم منه ماحصل !
غمغمت موافقة بخفوت ومدت يدها لترفع كوب الشاي الا انها وبسبب قلقها وشرودها دفعته وانقلب على الطاولة ... شهقت قائلة
- اسفة ..ا..سفة ...حقاً... انا ... انا ..
سارع وليد ليمسح الشاي ببعض المنايل الورقية قائلا بهدوء عندما لاحظ علامات الحرج والخجل مرتسمة على وجهها
- لابأس ..لم يحصل شيء ..
ليكمل وهو يقف
- سأذهب لأغسل يدي واعود حالا !!
أومأت بابتسامة صغيرة ثم اتكأت على مرفقها و ووضعت يدها على وجنتها ... تنهدت بعمق و أخذت تنظر الى النافذة بشرود تراقب منظر الشوارع وهي مغطاة بهذا الرداء الأبيض بينما الرجال والنساء يسيرون بنشاط وهمة غير عابئين لبرودة الجو الصقيعية !
فجأة رن هاتف وليد المحمول ... تجاهلته في بادئ الأمر الا انه عاد للرنين مرة اخرى .. نظرت الى الممر المؤدي الى الحمامات وكان فارغاً .. زمت شفتيها ورفعت جذعها تنظر لأسم المتصل .. اختنقت انفاسها وهي تلمح اسمه ... صمت الهاتف مرة اخرى ليصدح للمرة الثالثة ... لاتعرف اي قوة غربية جعلتها تمد يدها وتحمله لتضغط على زر الإجابه هامسه بصوت خافت
- م..م..رحباً !!
صمت ... فقط صمت وصوت انفاس هادئة هي ما وصلتها ... ثم بعد عدة ثوانٍ لاتكاد تذكر سمعته ...أحست بارتعاش أطرافها وتزايد النبضات في صدرها وهي تستمع لخشونة صوته الذي افتقدته جدا ..
-حبيبة ؟!!!!
كان تعجب اكثر منه سؤالاً ... ابتلعت ريقها ثم همست وهي تزيغ بحدقتيها في الفراغ ..
- كيف ..حالك .. زهير ! .
صوتها الهامس الرقيق انساب الى مسامعه كنوته موسيقية عذبة ... استكانت انفاسه وهدأت ثورة قلبه .. نسي انه غاضب منها .. نسي انه كان عازماً على مخاصمتها ومعاقبتها ... نسي كل شيء .. قال بصوت اجش ومشتاق
- كيف حالك حبيبة ؟!
اجابت بسرعة وابتسامة بلهاء ترتسم على شفتيها بينما قلبها اقام احتفالا وكرنفالا صاخباً من شدة سعادتها وكأنها لم تعد نفسها على نسيانه وتجاهله قبل قليل
- الحمدلله .. ب..خير
تنهد قائلا بتعب
- كيف هي رضاب ؟!
فلقد اخبره وليد كل ما حصل لرضاب وكيف فقدت طفلها وعن الأختفاء المريب لسناء وهمام ...وعن حالتها النفسية المتأزمة ... لقد جاء مصاب رضاب متزامنة مع مصاب غسق لذلك لم يخبر اي احد في المنزل ... يكفي ما هم به الان ... سمع صوتها المتألم وهي تهمس
- ليست جيدة يا زهير ... حالتها متذبذبة .... طوال الوقت شاردة وهائمة ... وليد سيأخذني لها بعد قليل.
وكأنها بذكر وليد جعلته يفيق من غيبوبة وقتية ليقول بحدة وصوت مرتفع قليلا وهو عاقد الحاجبين
- اين وليد ؟! ولماذا هاتفه بيدك انت ؟!
قالت بتعلثم ووجهها يتوهج احمرارا بسبب تطفلها على هاتف وليد دون استأذانه
- و..ليد ..ف..ي في .. الحمام !!
اتسعت عيناه بقوة ونار اشتعلت بقبله ... تلاشى كل شيء حوله .. فقط ما تجسد أمامه صورة وليد في الحمام وحبيبة معه في غرفته ... ماذا تفعل بغرفته ؟! لاا مهلا بل مالذي .. يفعلانه بالضبط وكيف وليد يذهب للاستحمام هكذا أمامها ... لكن السؤال الأهم الان هي في غرفته هو ام في غرفتها ام لعلهما يشتركان نفس الغرفة ؟!
هتف بقوة وغضب وقد هب واقفاً من الاريكة التي يجلس عليها في الصالة
- نعمممممم ...ماذاااااااا قلتِ يا انسة ؟! ماذا تفعلين بغرفة وليد ؟!
تعلثمت وبدأت تتأتأ في الكلام بينما ملامحها شحبت بشدة جراء لهجته الحادة الغاضبة
- ا..ا..نا.. انا.. لست ..لست
هتف باندفاع و بقوة مضاعفة ونيران الغيرة تنهش صدره دون اراده منه
- انتِ ماذا انطقي ؟! هل تتشاركان الغرفة ؟!
عن اي غرفة يتكلم ؟ ومالذي يتفوه به ؟! ماذا يقصد !!! اجابت بسرعة وبأنفاس لاهثة ومضطربة
- انا ..انا .. في المطعم ..و..وليد .. ذهب ل.. لغسل .. يديه ..
لتكمل بنبرة مرتجفه تهدد بالبكاء
- ما...ذا .. بك زهير ..لماذا ..تصرخ بهذا .. الشكل.. مالذي جرى لك ؟!!
هدأت أنفاسه واتجه الى النافذة يحدق بالحديقة المثلجة التي باتت تشبه قلبه الذي أثلجه ما قالته له لتو .. ربط كلامها ببعض وفهم مايجري ليستغفرالله بسره ...اجابها بصوت ابح وهو يغمض عينيه
- لاشيء حبيبة ... اسف .. انفعلت قليلا ... لقد ظننت .. ظننت ...
بتر جملته صامتاً لترد حبيبة ببراءة
- ظننت ماذا يا .. زهير ؟!
اجابها بهدوء وهو يحاول تغير دفة الحديث
- حسنا ... حبيبة ..لاتهتمي بما قلت ... اذهبِ الان ... وانا سأتصل بوليد فيما بعد ..وداعاً !!

اغلق الهاتف وهو ينظر امامه بجمود ...أمن المعقول ما يجري معه ؟! هل هذا طبيعي ؟! لماذا لم يكن يشعر بالغيرة هكذا مع غسق ! اليس من المفترض انها ابنة عمته يعاملها كشقيقة له شأنها شأن حبيبة ! ومن البديهي ان يشعر تجاه الاثنين بمشاعر الاخوة ! لماذا مع حبيبة فقط الوضع اختلف فجأة !!
حتى سلمى لم يكن يحاسبها او يغار عليها لهذه الدرجة ... عندما تلبس الملابس الضيقة صحيح ينبهها بصرامة لتغير طريقة لبسها ... لكن ما كان يفعله ليس بدافع الغيرة بل بدافع انه رجل شرقي ولا يتحمل ان يرى اي احد زوجته بهكذا ملابس .. لكن مع حبيبة ... حبيبة ... لا ... هناك مشاعر حارقة ... جارفة ...متملكة ... وكأنها له ... تخصه ...غيرته ليست بريئة وليست عادية ... انه يغار عليها وكأنها حبيبته !
ابتلع ريقه هامساً باستنكار وهو يضيق عينيه
- لا لا مستحيل ... مابك زهير ... غسق مختفية ولا اثر لها وانت تفكر بهذه الامور !!!
وبسرعة اتجه للمنضدة ليلتقط مفاتيح سيارته وينطق الى الخارج ليعاود البحث من جديد ويقدم بلاغا للشرطة ما ان تشرق شمس الصباح ... خرج وكأن شياطين الارض تطارده ... بل كأنه يهرب من الحقيقة التي يخاف الاعتراف بها او لا يريد حتى ان يطلق عليها اسماً محدداً !!!
............................
......................................
كانت القسوة خطيئتك
وكان الكبرياء خطيئتي
وحين إلتحمت الخطيئتان كان الفراق مولودهما.
غادة السمان
...................
وليد ... وليد ...اين انت ... انا انتظرك .... لاتتركني وحيدة .... ارجوك ... تعال وانقذني ..
يارب دعه يأتي ... دعه يأتي وانا اقسم بأني لن أجادله ... لن أعانده ... سأطيعه بكل ما يقول ...فقط فلينقذني ...فيلنقذني ... يا رب
كانت تهمسها كلما تفتح عينيها المتورمة ... لم يغمض لها جفن ... كلما يداهمها النعاس تجفل وتعتدل بجلستها ... تعبت ... تعبت ... أنهكت روحها وجسدها ... عطش ... خوف وذعر.. فقط هذا ما تشعر به ... اطرافها تكاد لا تشعر بها بسبب القيود ...صوت الرياح تتردد لمسامعها بصفير مرعب بينما الهدوء مطبق على المنزل يبدو انهما لايزالان نائمان ...نظرت ناحية النافذة ... بدأ نور الصباح الشاحب يتسلل الى الغرفة من بين الستائر السميكة !ها قد مر يوم على اختطافها ترى مالذي يفعلوه الان !! اااه والدتها المسكينة بالتأكيد الان قد جن جنونها ... يارب لاتدع مكروها يصيبها بسببي ! احفظها من كل شر يارب !!!!
تذكرت كيف كانت تعامله ... هي السبب ... اجل هي السبب لو انها لم تكلمة مغرور ... لو انها ابلغته رفضها الزواج منه ببساطة اكثر ... لو انها اخترعت كذبه بيضاء بأنها مخطوبة او مرتبطة ... لما حصل ماحصل ... لكن ما ادراها هي بأنه مختل ومجنون !!!
بعد مرور دقائق سمعت صوت الباب يفتح ويدلف سليم هو يحمل صينية صغيرة
- صباح الخير قطتي ...
قالها وجلس القرفصاء امامها ليكمل وهو يميل رأسه ينظر لها بأبتسامة
- انظري ... لقد حضرت لك الفطور بنفسي ... لكي لا تقولي بأنني احرمك من شيء ! قلبي طيب ليس بيدي !!!
تنفس بعمق وقال
- حسنا ... سأفتح فمك ويديك لتأكلي .. لكن بشرط !!
نظرت له بعينان دامعتان لا تمتلك الا الخنوع والنظر له باستسلام ليكمل قائلا
- تأكلي بهدوء واياكِ ....اياكِ ..ان تقومي بحركة تغضبني .. لا اريد ان أؤذيك قطتي السيامية الجميلة ... اذن ... اتفقنا ؟!
هزت رأسها بسرعة وخوف
ليقول بابتسامة رضى وهو يمد يده ليفتح القماش
- حسنا ها نحن ذا
وما ان فتح فمها حتى سارعت ودون شعور منها بالصراخ
- ساعدونييييييييييييي ساعدونييييييييييييييييي ارجووووكم ....
سارع سليم بوضع كفه على فمها بقوة محاولا إسكاتها .... الا انها عضت يده وواصلت الصراخ وهي تتلوى بجنون يميناً ويساراً ... فما كان منه الا ان يصفعها بقوة جعلت رأسها يرتطم بالخزانة الخشبية ليسيل خيط من الدماء من جانب وجهها ... قوة الضربة جعلتها تشعر بالدوار مباشرة... اعاد توثق فمها وهو يقول بشراسة وانفاس لاهثة
- غبية ... متوحشة ... فلتموتي جوعاً وعطشاً ... تبا لك لما اهتم لأمرك !!!
ثم حمل الصينيه ووقف ... ليقذفها بقوة على جهة الحائط ... مكسراً كل ما بها من صحون وأكواب قبل ان يخرج بسرعة من الغرفة !
............................
...................................
- اسمعت ما سمعت ؟!
قالتها فخرية لزوجها بخوف وريبة وهي تتوقف عن غسل الصحون ..... ليجيبها الاخير وهو يلتهم صحن البيض بنهم
- لم اسمع شيئاً !
قالت بعناد وهي تغلق صنبور الماء ثم التقطت المنشفة لتنشف يديها وهي تتوجه لتجلس جانب زوجها على البساط الأسفنجي الذي يفترش ارض المطبخ الدفء ... بينما المدفئة النفطية الموضوع فوقها ابريق الشاي تتوسط المكان
- بلا بلا يا ابا مسعود ... سمعت صوت صرخات واستنجاد من المنزل الملاصق لنا !
اجابها وهو يشرب جرعة من الشاي
- ربما صوت الاشباح فأنت تعرفين ذلك المنزل مهجور منذ زمن !
هزت رأسها بعناد وقالت
- لا ...لن تقنعني ... لم يكن صوت اشباح ايها الرجل العجوز ...كانت صرخات لفتاة !!
اجابها ساخراً بضجر
- اااااوه الظاهر بأنك خرفت واصبحت تتخيلين اشياء لا وجود لها !
همست قائلة
-هناك امر مريب ويجب ان اكتشفه بنفسي !
اجابها مازحاً بمحاولة منه لأخافتها
- اذهبِ ... عسى ولعل الأشباح تختطفك لتريحني من إلحاحك المستمر !
نظر له بتهكم وقالت
- حتى وان يكن ... لن اتراجع سأرى ماذا هناك فقط اصبر وسترى ما سأفعله !!!
...............................
..............................................
لندن ظهراً
...............
كانت حبيبة تجلس قرب رضاب تمشط شعرها ببطء ... وهي تقص عليها مقتطفات من طفولتهما ... تلك الطفولة البعيدة الشاذة ...فهما لم تكونا كباقي الأخوات ... لم تدرسا معاً ... لم تناما ولو لمرة واحدة معاً ... لم تتشاركا أسرارهما في فترة المراهقة .... لم تذهبا للتسوق وتختارا ملابسهما معاً ... بأختصار حرما من طفولتهما ...من عاطفة الأخوة التي كانت من المفترض ان تربطهما ... وبسبب من ! بسبب قسوة وانانية والدتهم !!!!
لكن رغم ذلك تبقى هناك بعض الومضات البعيدة ... لحظات قصيرة مفرحة
كتلك الأوقات التي كانت تجمعهما مع والدهم ... همست بحب
- أتتذكرين ..الأرجوحة ذات الحبال الطويلة التي صنعها لنا والدنا في الحديقة الخلفية من المنزل ؟!
لم تنطق رضاب بحرف فقط كانت تجلس بهدوء وصمت لتكمل حبيبة وهي تنهض لتجلس قبالتها على السرير ...
- اتتذكرين ذلك العصفور الصغير الذي كنت املكه ؟! اتتذكرين عندما تركته وذهبت للمدرسة دون ان اضع له الطعام وعندما عدت كنت تطعميه انتِ مع ابي ؟!
نظرت لها رضاب بأبتسامة صغيرة وعيناها تلتمع بالدموع .. شعرت حبيبة بالسعادة ...فيبدو ان شقيقتها بدأت تتذكر وتستجيب لها ... همست برجاء صادق .. يارب ارجو ان تصبح بخير وتعود قوية كما كانت
دلف وليد بعد عدة دقائق .. القى السلام وجلس على الكرسي المجاور للسرير لتبادر حبيبة بالسؤال
- هل ذهبت لرؤيته ؟!
اومأ قائلا بهدوء وهو يرمق رضاب بعمق
- اجل ...لكنه مسافر ...ولن يعود الان ... كما انه ..انه ..
حثته بلهفة
- ماذا يا وليد قل بسرعة ؟!
تنهد وهو للأن لايصدق ما ابلغة به المحامي فما ان ذهب للمشفى وعرف عن نفسه حتى طلبت منه السكرتيرة الخاصة بهمام والتي لم يرتح لنظراتها الوقحة ابداً .. بأن ينتظر قليلا ليفاجأ بعد عدة دقائق بوصول المحامي الخاص بهمام وهو يبلغة بذلك الخبر الذي صدمة بشدة وجعله ينظر له ذاهلا لعدة ثوانٍ قبل ان يستوعب الخبر ...
قال موجهاً كلامه لحبيبة وهو ينظر لوجه تلك المسكينة الشاحب
- طلقها غيابياً !!!
هتفت بقوة واستنكار بينما رضاب تزيغ حدقتيها بينهما بشرود وضياع وكأن ما يتكلمان عنه لا يعنيها مطلقاً
- كيف ..كيف طلقها ولماذا ؟!
هز رأسه نفيا وهو يجيبها بجدية
- اكاد اجن يا حبيبة هناك أمر ما قد حدث ...وأمر خطير ايضاً .. أقسم بأن لسناء وهمام يد في ذلك ... اقصد هما الاثنان مشتركان بذلك ...لن يحل هذا اللغز الا رضاب !!!!
وما ان سمعت رضاب اسم همام وسناء حتى تدفقت الذكريات أمامها وعاد كل شيء ليطفو فوق سطح ذاكرتها المشوشة ... أخذت تصرخ بقوة وهي تتراجع الى الوراء و تتفوه ببعض الكلمات الغير مفهومة عنهما ... ليسارع وليد الى الخارج ينادي الطبيبة بينما حبيبة احتضنتها بقوة وهي تقول بعينان دامعتان وبصوت مرتجف
- اهدئي ... اهدئي ...يا الهي فقط لو اعرف مافعلاه لكِ وجعلكِ تصلين لهذه الحالة !!!!
.......................
نهاية الفصل الخامس عشر

رماد الغسقحيث تعيش القصص. اكتشف الآن