43

158 13 0
                                    


الفصل الثالث والأربعون
.....................

عم الصمت بينهما لعدة ثوانٍ .... رفع جسده و اتكأ على ذراعه ينظر لها بهدوء وبرود ...وكأنه لم يصدق ما قالته او ربما اخطأ السمع !! كان منتبه لتغيرها منذ الصباح الباكر لكنه لم يظن بأنها تخطط لهكذا فكرة مجنونة !!!!
قال بهدوء وهو عاقد الحاجبين
- ماذا قلتِ ؟!!!
أجابت بصوت خافت ومرتجف
- أريدك ان تتزوج يا وليد ....
قال بسخرية وتهكم ظنا منه انها تمزح معه بكل تأكيد فما من امرأة عاقلة تفكر بأن تدفع زوجها للزواج بأخرى وتحت اي ضغط او ظرف
- واخترني العروس ايضا !!! شيء رائع فعلا !
أردف وهو يتمدد مرة أخرى استعداد للنوم
- نامي يا غسق ... نامي ...غدا لدي اعمال كثيرة ولا وقت لي لمزاحك الان !
اجابت بجدية تامة وهدوء مثير للإعجاب رغم الحرائق المندلعة داخلها
- ومن قال اني امزح ! انا اتكلم بجدية !
تنهد قائلا بصبر وهدوء ..... وكأنه يكلم ويجاري طفلة صغيرة وغاضبة

- الم نتكلم بشأن هذا الموضوع في وقت سابق وقد انتهينا منه نهائيا !!!
اجابت بحدة وغضب وهي تلاحظ بروده وهدوءه المستفز وكأنه يستخف بقرارها المهم والمصيري هذا والذي يعد اكبر وأعظم قرار قد تتخذه المرأة بحياتها كلها خاصة وان كانت تحب زوجها وتعشقه بجنون وتملك كما تفعل هي
- لا يا وليد الامر لم ينتهي بعد ولن ينتهي الا بزواجك !!!
عقد حاجبيه وقال بنفاذ صبر

- ما الذي جرى لك غسق ؟! هل ظهر جنونك الان في هذه الساعة المتأخرة من الليل !!!!

أجابت بعينين دامعتين وبلهجة منكسرة جعلت قلبه يتلوى الما عليها وعلى ضعفها الذي لا يليق بها اطلاقا
- لم اجن يا وليد ... انا أريد ان ارتاح وأريحك معي ايضاً ...انت ستتزوج ... مهما قلت ومهما أقسمت على عدم فعلها ....بنهاية المطاف ستتزوج وتفعلها .... أتعرف لما ؟!


ودون ان تنتظر رده اكملت بقوة وثقة وكأنه سيفعل ما قالته فعلا

- لأنك ستحن وتريد الأطفال ما ان تنظر لأطفال اشقائك ...او اي طفل اخر يصادفك !
وانا فقط .....
قاطعها بحدة وبلهجة صلبة وصارمة لا تقبل الشك ... فهي بالفعل قد اثارت غضبه وغيضة من يقينها وثقتها الوهمية هذه

- لاااا انت فعلا مجنونة يا غسق .... وانا متعب ولا طاقة لي للشجار...

ارجع رأسه الى الوسادة لينام لكنها أوقفته قائلة

- ارجوك وليد ..لا تعامليني بهذا الشكل ..انا اتكلم بجدية ...
ليجيبها بلامبالاة وبرود

- نامي يا غسق ..... و إياك ان تفتحي هذا الموضوع مرة أخرى

- وليد النقاش لم ينتهي بعد

اجابها بضجر وهو يستدير الى الناحية الأخرى .... لقد اكتفى من جنون وإلحاح زوجته لهذه الليلة البائسة والتي من الظاهر انها لا تريد ان تنتهي بسلام
- حسنا دعيني انام الان وغدا أكملي مناقشة موشحك هذا و الذي لا طائل منه ابدا !

وبالفعل لم يمض على نومه الا عدة دقائق لتسمع صوت تنفسه الهادئ المنتظم !!!
حسنا حتى وان هرب من المناقشة في هذا الموضوع الان فهو لن يستطيع الهروب الى الابد وهي لن تسكت ابدا فهي غسق ...غسق التي ما ان وضعت شيئا او هدفا محددا في بالها لم ولن ترتاح ويغمض لها جفن ان لم تحققه !!!!

...............................

الأيام التي تلت كانت بالنسبة لوليد عبارة عن جحيم لا يطاق ..... إلحاح غسق بدأ يصيبه بالنفور من المنزل والتواجد معها في مكان واحد ...فهي ما ان تنفرد به في المساء حتى تعيد فتح الموضوع مرة بعد مرة بعد مرة دون ان تمل او تتعب !!!
لولا انه ربما الوحيد الذي يشعر بها ...يشعر بخوفها ويأسها ...يشعر بمدى تخبطها ورعونة تصرفاتها خاصة بالفترة الاخيرة ...لكان له تصرف اخر معها !
تصرف يجعلها تدرك مدى تفاهة واستحالة ما تفكر به !

الشيء الذي يشفع لها الان هو انها لا تتشاجر معه امام احد من العائلة ...فهي امامهم تمثل دور الزوجة الهادئة الوديعة بمهارة تامة .... وكأنها قطة أليفة ..بينما الامر مخالف لما يحدث بينهما في الخفاء !!!

تباً متى ستدرك انه لم ولن يفعلها ابدا بحياته ... صحيح هو يتمنى ان يكون له اطفال من صلبه ولن ينكر هذا الامر ابدا ... لكنه مقر ومؤمن بمشيئة الله سبحانه وتعالى .... ربما هو امتحان لمدى تحملهم وصبرهم !!! وهو متأكد وموقن ان الله سيبشرهم ويقر عينهم بالذرية ... فقط كل ما يحتاجانه هو الصبر ومساندة بعضهم بعضا ...

ثم هو قد قالها كلمة واحدة ولن يتراجع عنها ابدا ...ان لم تكن غسق اما لا طفاله فلن تكون سواها ! هو مكتفٍ بها ...هي ابنته وطفلته وزوجته وحبيبته ..متى ستدرك ذلك وتكف عن هذا الإلحاح المزعج ! والذي بدأ فعلا يصيبه بالصداع والإرهاق !!!

..............................

....................................


كانت تبارك تجلس في الصالة تتجاذب أطراف الحديث مع عائلتها ...اليوم طلبت من عبد العزيز ان يحضرها لزيارة اهلها .... لم تكن زيارة عادية بالنسبة لها ... فما قالته لها رونق جعلها تشعر بالتوتر والإحراج طوال الوقت !

عادت بذاكرتها لمساء امس حين كانت في المطبخ تحضر العشاء برفقة رونق ...
في حينها لاحظت وانتبهت على شرودها المستمر .... خاصة بعد زيارتهم الاخيرة لمنزل عائلتها .... عقدت حاجبيها وقالت بتساؤل وفضول
- بما انت شاردة يا رونق ؟!
رفعت رونق رأسها وابتسمت بأحراج وهي تقول
- لا شيء مهم يا تبارك ....
رمقتها تبارك بنظرة متفحصة وقالت بشك
- متأكدة !!!!
هزت رونق رأسها بصمت وهدوء بينما الحيرة المرسومة في عينيها كانت تؤكد بأن هناك امرا تخفيه عنها ... رونق فتاة شفافة .... لا تستطيع أخفاء انزعاجها او توترها ...هي تماما كعبد العزيز .... مر على زوجها عدة أسابيع .... عدة أسابيع وهي تشعر وكأنها تعيش في الجنة ..... عبد العزيز يدللها ولا يرفض لها طلباً ... يحاول بشتى الوسائل ان يبين حبه لها ...ذلك الحب الواضح والذي لا يحتاج منها لان تدقق او تبحث عنه في وجه زوجها الحبيب الطيب لتجده او تكتشفه .... اما رونق فكانت نعم الصديقة والأخت لها .... تقضيان معظم الوقت معا .... متفاهمتان بشكل عجيب يثير غيرة الجميع ...وكأن رونق ليست اخت زوجها بل أختها هي !!!
بعد مرور عدة دقائق وفعلا كما توقعت قالت رونق بتلعثم وخجل
- تبارك ... اريد ..ان ..ان ..اخبرك امراً مهما ....
اجابت تبارك قائلة بانتباه
- تفضلي يا رونق خيرا ان شاء لله ! ماذا هناك ؟!
بدون مقدمات او مراوغة قالت بسرعة
- انها غسق !
عقدت حاجبيها ورددت خلفها بعدم فهم
- غسق !!!! وما بها غسق !!
اجابت بحرج شديد وهي تفرك أصابعها بتوتر
- لقد ..طلبت مني في زيارتنا السابقة امرا مستحيلا ..وانا في الحقيقة ..اخجل ان ..ان ...من ان ..اقصد ... ان اوافقها على ما تريد ....انا اعتبر وليد كأخي عبد العزيز تماما ..و...
قاطعتها تبارك بسرعة وهي ترفع يدها قائلة
- مهلا مهلا ...تكلمي ببطء لأفهم ...ماذا طلبت منك غسق ؟! وما دخل وليد بهذا كله !!
لتجيبها بتجهم وعبوس
- لقد طلبت يدي لزوجها !!!
في حينها لم تعرف بما ترد على رونق ...ظلت تنظر لها مشدوهة لعدة لحظات .... الصدمة الجمت لسانها ..... لكنها في النهاية استطاعت ان تتفوه ببعض الكلمات المعتذرة والتي تقبلتها رونق بابتسامة صغيرة وملامح الراحة ارتسمت على وجهها .... واليوم عندما طلبت منها ان تحضر معهم لزيارة عائلتها امتنعت بأدب واختلقت حجة واهية .... وهي قد عذرتها وعرفت ما يجول بخاطرها ....ومعها كل الحق
رباه هل جنت ابنة عمتها ؟!! كيف تطلب من رونق مثل هذا الطلب الغبي !!! ومن الواضح جدا ان لا احد في المنزل يعرف بفعلتها هذه بدليل انهم سألوا عن رونق بطيب خاطر وبرائة .... فوالدتها او العمة سعدية لو كانتا تعرفان بالأمر لكانت الان هي بجلسة تحقيق طويلة الامد !!

عادت من شرودها وهي تنظر لغسق التي دلفت تحمل صينية الضيافة وأخذت توزعها عليهم بكل مرح وبابتسامة واسعة ومرحبة !!! وما ان جلست قربها حتى همست قائلة بصوت خافت

- انهضي معي يا غسق اريد ان اتكلم معك بأمر ضروري
نظرت لها غسق بدهشة وقالت
- الان ؟!!! الا يمكن تأجيل هذا الامر لوقت اخر ليس من اللائق ان نتركهم وننهض ...
قاطعتها تبارك وهي تنظر لها بغيض
- كلا يا غسق لا يمكن تأجيله هيا معي بسرعة ...
ثم اردفت بصوت عالٍ
- هيا غسق اريد ان ارى الملابس التي اشتريتها مؤخرا فذوقك يعجبني جدا

هزت غسق رأسها ونهضت وهي تدعي عدم الفهم غير انها احست بما تريده تبارك منها بكل تاكيد هي تريد ان تتكلم معها بشأن رونق ...في الحقيقة هي فعلا فاتحتها في المرة السابقة عندما أتت لزيارتهم برقة تبارك وزوجها .... وقد فكرت بأنها ان أخذت وضمنت موافقة رونق ستستطيع ان تحرج وليد وتحاصره وهو بكل تأكيد لن يرفض ابدا !! وسيصبح امام الامر الواقع للان تتذكر ملامح رونق التي شحبت للغاية ما ان سمعت بعرضها الغريب هذا !!! شرحت لها باختصار واقتضاب عن السبب الذي دفعها لأن تطلب منها هذا الطلب .... لترفض العرض رفضا قاطعا ... لكنها توسلت بها ان تعطي لنفسها الفرصة لتفكر جيدا قبل التسرع باتخاذ القرار ...وها قد مضى اكثر من عدة ايام وهي لم تتصل بها نهائيا !!!

تمتمت باستسلام
- حسنا كما تشائين
سحبتها تبارك من ذراعها بخفه متوجه الى غرفة غسق ..وما ان دلفتا الى الداخل حتى سارعت تبارك بإغلاق الباب وهي تقول بحدة وصوت منخفض
- تعالي هنا يا غسق واشرحي لي لماذا فعلت ذلك ؟!!
جلست غسق على طرف السرير وقالت بهدوء تام
- لا افهم ما تقصدين ؟!! ما هو الامر الذي يحتاج لأن اشرحه لكِ ؟!!
تقدمت تبارك بغيض ثم جلست قبالتها على الفراش وقالت من بين أسنانها المطبقة
- لا تدعي البراءة يا فتاة ..لقد أخبرتني رونق بكل شيء !!!
لتردف بلهجة معاتبة
- كيف !!! كيف تطلبين منها ان تتزوج وليد !!! أجننتِ !
اكتسى وجه غسق غيمة من الحزن بينما تحولت ملامحها المسترخية لاخرى متألمة وبائسة وهي تسبل اهدابها قائلة ببهوت

- اذن هي مازلت مصرة على الرفض ؟!!!
هزت تبارك رأسها بيأس وهي تقول بعدم تصديق
- رباه غسق ..لقد تركتي رأس الموضوع و مسكتي ذيله .... ثم اجل ..لقد رفضت رفضا قاطعا .... ونصيحة مني ..اتركي رونق وشأنها ..بل انسي هذا الموضوع برمته ولا تكوني مجنونة !!!
- كلا يا تبارك ..انا لست مجنونة انا ..فقط ..فقط ...
رفعت لها عينين دامعتين لتكمل بهمس خافت
- انا فقط امرأة تحب وتعشق زوجها ..تريد ان تراه سعيدا حتى لو كان هذا على حساب سعادتها .. و ..و ..كبريائها ...
هزت تبارك رأسها بيأس وهي تنظر لها بشفقة
- لماذا انت متشائمة لهذه الدرجة ..اين إيمانك بالله !!! اين صبرك !! الم يقل سبحانه وتعالى ... ( لا تقنطوا من رحمة الله ) !!!
هتفت غسق بوجع بينما دموعها أخذت تتدحرج على وجنتيها بهدوء
- والنعم بالله يا تبارك .... انا لست متشائمة ابدا ..انا فقط أتصرف بعقلي لا بقلبي
جميعنا نعرف ان احتمالية حملي تكاد تكون شبه معدومة والله سبحانه وتعالى حلل واباح الزواج لأجل ان تحل مثل هكذا امور ... وانا اشعر بوليد ..اشعر بأنه يريد طفل لكنه لا يريد ان يخلف وعده لي .... لقد كتب علي ان أعيش محرومة من الأمومة .... وانا بت راضية بقدري ... لماذا اظلمه معي .... لماذا امنعه من حقه ...لماذا لا امنحه السعادة التي حرمت منها انا .... لماذا أتصرف بأنانية وطفولية ؟! انا وانت وكل من في المنزل يعرف بأن حل هذه المشكلة البسيطة بيدي !!!!!

كانت تبارك تستمع لها وقلبها يتقطع آلما وقهرا عليها ..غسق المسكينة كم هي عطوفة وشفافة وكم يبلغ مقدار عشقها الكبير والعظيم هذا لشقيقها وليد !!! بحيث هي على استعداد لان تضحي بكبريائها وحبها في سبيل سعادته وراحته !!
اجابت تبارك وهي تحتضن كفي غسق بقوة
- رباه يا غسق .... كيف تفكرين بهذا الشكل !!! كيف تدفعين بزوجك الى احضان امرأة اخرى !!!
همست غسق باختناق
- ان ادفعه للزواج بنفسي وامام ناظري وبموافقتي افضل مليون مرة من ان يفعلها سرا ...اقسم لك يا تبارك ..... ان فعلها فأنا سأموت بالفعل !!


زفرت تبارك الهواء بعمق وحرارة وهي متجهمة الوجه تنظر لرأس غسق المنحني بقلة حيلة وعجز حقيقي .... لتقول لها بثقة وإصرار
- حتى وان قررت انت هذا الأمر هل تعتقدين ان وليد سيوافق ...
وقبل ان ترد اكملت تبارك بسرعة
- أأكد لك بأنه من المستحيل ان يفعلها ...أسمعتني !! مستحيل ..... لذلك انسي هذا الأمر و.....
قاطعتها غسق بقوة
- بل سيفعلها ان ساعدتني !!!
قطبت متسائلة بعدم فهم
- كيف أساعدك !
لترد عليها غسق ببراءة
- أقنعيه بموضوع الزواج ...ان حاصرناه انا وانتِ ... من جميع الاتجاهات حتما سيضعف ويوافق !! ما رأيك ؟!!

هبت تبارك واقفة وهي تقول بيأس
- رأي هو ان تنهضي الان وتنسي هذا الهراء كله لأنه لن يجدي نفعا هيا ..هيا ... هيا بنا...
لتردف ساخرة وهي تهز رأسها و تخرج من الغرفة

- وتطلب مني ان أقنعه ايضا ...لقد جنت هذا الفتاة ولا مجال للشك !!!!
خرجت غسق خلفها بخيبة امل .... وهي تهمس بسرها ..لا لن ايئس ..ان لم يقتنع الان سيقتنع بعد شهر او شهرين او حتى سنة !!
......................
...............................

البصرة مساءاً

...................

يجلسان في احد المقاهي الشعبية .... يشربان الشاي بصمت ....حيدر كان شاحب الوجه وشارد الذهن طوال الوقت حتى انه بدأ بإهمال عمله يقضي اغلب الوقت بالركض هنا وهناك ..يسابق الزمن من اجل اتمام كل المستمسكات والإجراءات المطلوبة منه ليباشر بالسفر
قال معاذ بهدوء
- اذن متى نويت السفر الى الأردن ان شاء لله ؟!!
اجابه حيدر متنهدا بتعب
- لم يتبقى الكثير .... سأسافر في الأسابيع القليلة المقبلة بأذن الله
اومأ معاذ قائلا بصدق وأخوة
- حيدر ..كن صريحا معي وأصدقني القول ! كم تحتاج من مال لإكمال تكاليف العلاج ؟!
اجابه حيدر بهدوء بينما ينظر له ممتنا
- صدقني يا معاذ لدي ما يكفي ويفيض والحمد لله ...شكرا لك !
اجابه معاذ بصرامة وصدق
- لا تشكرني يا حيدر انت لست ابن عمي فقط بل انت اخي وساعدي الأيمن !

اردف قائلا
- عدني يا حيدر بأنك لو احتجت للمال او اي شيء اخر فأنك ستطلبه مني دون حرج او تردد !
اجابه حيدر بابتسامة شاحبة
- بكل تأكيد يا معاذ ...ثق بأنك ستكون اول شخص الجأ اليه يا صديقي !

قال جملته وعاد ليحتسي الشاي بحزن وهم وهو يفكر بطفلته الصغيرة ذات الابتسامة الناعمة ..ابنته التي كانت تنبض بالنشاط والحيوية .... السعادة لا تفارق ملامحها وهي تتقافز حوله تستقبله بحماس دوناً عن بقية أشقائها الذكور ما ان يعود من العمل ... كيف تغير حالها فجأة ودون مقدمات .... اصبحت تتعب بسرعة طاقتها بدأت بالنفاذ يوما بعد يوم ... ابتسامتها اختفت وذبلت امامه كالزهرة التي انقطع عنها الماء .... عندما اخبره الطبيب بأنها مصابة بالسرطان احس وكأن الكون كله تهاوى فوق رأسه ...سرطان !!! اميرته الصغيرة مصابة بالسرطان !!!!
كاد ان يفقد عقله من شدة الصدمة ....لم يصدق كلام الطبيب في بادئ الامر ...عاود التحليل مرة اخرى ليؤكدوا له اصابتها فعلا بهذا المرض اللعين !!!!
اخبره الطبيب بصبر عن كل مرحلة من مراحل علاجها التي ستتطلب اكثر من سنتين ...علاجات وجرعات كيميائية لا يتحملها رجل بالغ فكيف سيكون الحال مع طفلة صغيرة وضعيفة !!!! تلك الجرعات التي ستسبب بتساقط شعرها الحريري الطويل !! شعرها الذي تعتز وتفخر به ..... ملاكه الصغير ..... كم تحب شعرها وتعتني به رغم صغر سنها !! تطلب منه يوميا ان يسرحه ويجدله لها !!!!
رباه الطف بحالها يا ارحم الراحمين ...همسها حيدر داخله باختناق وقهر وهو عاجز ومكبل اليدين لا يمتلك حلا ولا مخرجا أمامه الا بالدعاء لها ولجميع الأطفال المصابين بهذا المرض


........................
..............................

بعد مرور عدة أشهر لاحقة
..................

بعد استلامها لنتيجة الامتحانات التمهيدية والتي انتهت بنجاحها المميز والذي جعل السعادة والحماس يدب بأوصال كل من في المنزل حتى رضاب اتصلت بها وباركت لها بفرحة عارمة
ورغم انها كانت سعيدة بل لم تكن تصدق عيناها عندما وقعت نظراتها على دراجاتها العالية الا ان الخوف والقلق تضاعف داخلها وزاد أضعافا مضاعفة !!! كيف لا والكل اصبح يعقد الآمال عليها !!!
لم يتبقى الا شهر واحد على الامتحانات النهائية ... وكأنها باقتراب الأيام يزداد اقترابها نحو تحديد مصيرها !!
أغلقت كتاب اللغة العربية ... ووضعته على المنضدة ..... الساعة الان التاسعة والنصف مساءا وزهير لم يعد بعد ! جلست على طرف الفراش ببطء ...وهي تمسح بطنها المتصلب برفق ..منذ الصباح وتلك الانقباضات لا تفارقها ...تختفي عدة ثوان وتعاود مرة اخرى .... ربما بسبب تعبها في التنظيف الذي بالغت به كثيرا !!
فليوم قررت ان تنظف المنزل وتغسل الستائر كما انها غسلت المطبخ ومسحت الجدران بسائل التنظيف ...لا تعرف لما فعلت ذلك على الرغم من ان منزلها لا يحتاج لهكذا تنظيف مكثف ! لكنها احتاجت لأن تشغل تفكيرها بشيء اخر ...خاصة وان اليوم هو اليوم الأول لدخول حملها في شهره التاسع !!

بعد مرور بعض الوقت عاد زهير محملا بالمشتريات المتنوعة من شكولاة ومثلجات وفواكه ... بالإضافة لكيس احتوى على الشطائر الجاهزة ....
خرجت من غرفة النوم تستقبله بابتسامتها المرحبة المعهودة وما ان رآها حتى قال هاتفا هو يتوجه الى المطبخ
- تعالي حبي احضر تلك كل ما تحبين
تبعته وهي تقول بمرح
- أحضرت المثلجات ؟!!
اومأ ضاحكا
- المثلجات والشاورما والليمون أيضا .... هيا تعالي اجلسي ريثما اذهب للأخذ حماما سريعا ....

بعد مرور بعض الوقت جلسا يتناولان الطعام وزهير لا يكف عن الكلام بتفكه ومرح لكنه صمت فجأة وهو ينظر لها بقلق عندما لاحظ وانتبه على شحوبها ليردف متسائلا بقلق
- ما بك حبيبة ؟!!! وجهك شاحب للغاية هل تشعرين بألم ؟!!!
طمأنته بسرعة وهي تحاول ان تتصنع الهدوء
- لا تقلق زهير انا بخير فقط اشعر بالقليل من الألم سيزول حالا ان شاءلله !
احتضن كفها المستريح على الطاولة وقال باهتمام
- هل أنادي امي لتأتي ؟!!!
هزت رأسها بلا وهي تجيبه بابتسامة صغيرة
- لا حاجة لذلك صدقني الان عندما أتمدد سأكون بخير ...

اومأ بصمت وهو ينظر لها بعدم تصديق .... ليكملا العشاء بينما زهير يحاول قدر استطاعته ان يخفف عنها ويلهيها عن التفكير الذي بدأ يصيب زوجته بالتوتر والذعر .....فهي ومنذ نجاحها في الامتحانات التمهيدية اصبحت تحمل هما مضاعفا ....لا تنفك عن الترديد بأنها ستفشل للمرة الثالثة وتخذل الجميع
لو كان الامر بيده لأجل مسألة امتحاناتها للسنة المقبلة لكنه لم يكن يريدها ان تعتقد او تفكر بأنه يحبطها او يقلل من مجهودها لذلك حرص على تدريسها ومساندتها قدر استطاعته !!

الساعة شارفت على الواحدة والنصف بعد منتصف الليل وهي تذهب كل دقيقة الى الحمام كان منتبه ومتيقظ يراقبها بعدم راحة .... يشعر بألمها الذي بدأ يزيد أكثر وأكثر .... نهض من الفراش وتوجه الى الحمام لما أطالت هذه المرة المكوث فيه ...طرق الباب قائلا بقلق
- حبيبة .. هل انت بخير !!!
سمع صوت أنينها الخافت ليدب في قلبه الرعب والذعر ...طرق الباب مرة اخرى قائلا بصوت جاد
- حبيبة أجيبيني ....هل انت بخير ... حبيبة سأدخل للحمام !!!
سمع صوت مقبض الباب وهو يفتح لتخرج حبيبة والعرق الغزير يتصبب من جبينها لتهمس قائلة
- ز...زهير ...اذهب ونادي خالتي اشعر ..اشعر بألم لا يطاق
لم تكد تكمل جملتها حتى انفجر سائل شفاف من بين قدميها لترفع رأسها وتلتقي نظراتهما المرتعبه بخوف وذعر !!! قال بارتباك ودهشة
- ما ......ما هذا يا حبيبة !!
اجابت حبيبة بنبرة باكية متألمة
- لا ادري زهير ...أرجوك اريد خالتي ألان حالا

أسندها بسرعة ثم توجه بها الى الغرفة ليساعدها على الجلوس قائلا بذعر وارتباك
- حالا ..سأذهب ..انت ..فقط ارتاحي ريثما اعود لا تتحركي من مكانك فهمتي ..و ..

قاطعته بصرخة مكتومة

- زهير اذهب ارجووووك
اجابها مجفلا بفزع
- حاضر .. حاضر ... ها انا ذا سأذهب ....
بعد مرور عدة دقائق دلفت سعاد بقلق وما ان رأتها حبيبة حتى هتفت بألم
- خالتييي ....أرجوك ...لا اعرف ما الذي يجري لي !
جلست سعاد قربها ثم مسحت العرق المتجمع على جبينها .... انحنت وبدأت تتهامس مع حبيبة بصوت خافت ليقول زهير بنفاذ صبر
- بماذا تتهامسان امي ؟!!
نظرت له سعاد بصرامة وهي تقول
- اسكت انت ..وهيا ساعد زوجتك على تغير ملابسها
- لكن لماذا ؟!!!
ضرب سعاد جبينها وقالت بيأس
- رباااه ولا يزال يقف ويسأل .... حبيبة ستلد طفلك اليوم هيا تحرك بسرعة ...

ثم التفتت تنظر لحبيبة بحنان وامومة وهي تقول باهتمام وهدوء فهي بحكم خبرتها عرفت ان حبيبة على وشك الولادة
- لا تخافي طفلتي .... سيكون كل شيء على ما يرام ....
هبت واقفة وهي تردف قائلة
- سأذهب لألبس عباءتي واحضر الحقيبة الخاصة التي أعددته لها وللطفل ...
.....................
.............................
وليد هو من قاد السيارة عندما لاحظ ارتباك شقيقه وارتجاف يديه .... كان يصبره ويهون على حبيبة التي كانت تأن بألم تحاول قدر استطاعتها ان تكتم صرخاتها لكي لا تخيف زوجها الذي كان ينظر لها بصدمة بينما شحوب وجهه يوازي شحوبها واكثر ....
سأل والدته بذعر حقيقي وغباء منقطع النظير
- امي لماذا تتألم بهذا الشكل ؟!!!
أجابت سعاد وهي تحتضن كتف حبيبة لتريح الأخيرة رأسها على صدر خالتها ... بينما مسحت جبينها بطرف عباءتها
- امرأة على وشك الولادة يا زهير ماذا تريدها ان تفعل مثلا ترقص وتغني !!! بكل تأكيد ستتألم .... ...

عاد زهير يسألها وهو ينظر لزوجته بقلة حيلة لا يعرف كيف يساعدها ويخفف من ألمها
- أليس مبكرا لتلد ألان ؟!!!
- امر الله يا ولدي ..والظاهر ان ولدك يريد الخروج الى الدنيا باكرا ...

عند وصولهم الى المشفى وبعد ان تم فحصها أعلنت الطبيبة عن ولادة مستعجلة خاصة وان حبيبة كانت تتألم ومنذ الصباح لذلك كانت ولادتها وشيكة ...كان زهير يذرع الردهة ذهابا وايابا .... منذ ان دخلت الى غرفة الولادة وهو لا يكف عن الدعاء لها تارة والتذمر من ردائه الخدمات في المشفى بوجهة نظره وكأنه رجل عجوز متزمت تارة اخرى ... ساعات الترقب والخوف هذه هي ساعات عصيبة ومرعبة فعلا .... ما يفصل بينه وبين زوجته هو هذا الباب الجامد .... يقف هنا عاجزا لا يستطيع الدخول اليها ليكون الى جانبها .... يشعرها بأنها ليست وحدها التي تتألم ...فهو يتألم من اجلها ايضا ... لكن للاسف ليس باليد حيله .... كل ما يستطيع فعله هو الانتظار و الدعاء لها .....
اوقفه وليد قائلا بهدوء
- اجلس يا زهير واسترخي وان شاءلله كل شيء سيكون على مايرام
وما كاد ان يجلس على المقعد حتى تعالى صوت ولده يصدح بقوة في إرجاء المشفى يعلن عن وصوله .... ليقف مرة اخرى بحماس وأمل منتظرا خروج الممرضة التي خرجت بعد عدة دقائق تزف لهم البشرى قائلة
- مبارك لقد رزقت بولد موفور الصحة

ليسألها بقلق واهتمام
- وزوجتي كيف حالها ؟!
- هي بخير ستخرج الى غرفة الاستراحة بعد قليل
تنفس الصعداء وشعر بالراحة والاسترخاء أخيرا ولسان حاله يتمتم بالحمد والشكر مرة بعد مرة وهو يفكر بزوجته وطفله وسط تهنئة ومباركة والدته ووليد الذي هم ليحتضنه بسعادة وحماس صادقين .....
..........................
بعد مرور عدة ساعات قليلة كان زهير يقف جانب وليد وهو يحمل ولده بين ذراعيه برهبة كبيرة ينظر لهذا الوجه الصغير الاحمر .... وهو لا يصدق بأنه اصبح ابا !!!! اصبح ابا وهذا الصغير الذي جعلهم يعيشون برعب حقيقي في الساعات الماضية هو ولده !!!
قال وليد بابتسامة واسعة وهو ينظر للطفل بحنان
- اذن ماذا ستسميه ؟!
قال زهير ونظراته مركزة على وجه ابنه بينما حبيبة تجلس وهي تريح ظهرها على الوسائد تنظر لهما بحب وسعادة تجلس جوارها خالتها سعاد التي كانت تراقب المشهد وهي تدعو بسرها لوليد بالذرية الصالحة ايضا ... خاصة عندما لاحظت لهفته وسعادته عندما حمل ابن زهير اول مرة في أحضانه قلبها يكاد يتمزق آلما وقهرا على حاله ...ابنها المسكين الذي أفنى حياته من اجل راحتهم ...أليس من الظلم ان يحرم من عاطفة الأبوة !!!! أليس من المفترض الان ان يحمل طفله هو الاخر !!!! لكن ماذا تقول وماذا بيدها ان تفعل !!! قدر الله وماشاء فعل

- اسميه عمر ...لقد اخترت له هذا الاسم منذ وقت طويل !!!
اومأ وليد باستحسان ثم حثه قائلا باهتمام
- حسنا يا ابا عمر هيا اذن بأذن ولدك !
ابتسم زهير بحماس ثم رفعه بحذر واخذ يؤذن في اذنه اليمنى وأقام في اليسرى .... وعندما انتهى سلم الطفل لجدته بينما نظراته تركزت على وجه حبيبة الشاحب بشوق ... الاخيرة التي بادلته النظرات بخجل ثم اسبلت اهدابها برقة ..... لقد قبلها قبلة صغيرة وبريئة على جبينها احتراما لوجود شقيقه ... كم تمنى ان يكون الان معها بمفرده يبارك لها على طريقته الخاصة .... لكن لا بأس هو حتما وبكل تاكيد سيبارك لها مرة اخرى عند عودتهم الى المنزل وكما خطط له بالضبط

............................
....................................
في الصباح وبعد ان أطمئنت الطبيبة على صحة الام وطفلها ... خرجت حبيبة من المشفى فولادتها كانت طبيعية ...تمت بسهولة ودون مضاعفات رغم تعسرها في البداية .... ليستقبلها الجميع بسعادة وفرحة عارمة ...اخذتها سعاد الى منزلها لتبقى هناك طوال فترة النفاس .... حملت غسق الطفل بين يديها برهبة حقيقة وقلبها يخفق بقوة .... لتهمس بتأثر وعينين دامعتين
- ماشاءلله ... كم هو صغير ولطيف !!!
اجابت حبيبة بطيبة وابتسامة ناعمة تزين وجهها المتعب
- العقبى لك يا غسق !
همست غسق وهي تسبل اهدابها لكي لا تلحظ حبيبة الحزن الذي لاح خلف مقلتيها
- كل شيء بأمر الله يا حبيبة
أعادت الطفل لمهده على مهل لتردف حبيبة قائلة بصدق وهي تراقب وجه غسق الذي لاحت عليه إمارات الحزن والهم
- لقد دعوت الله ان يرزقك الذرية عندما كنت أعاني من الآلام الولادة يا غسق وقد سمعت ان الدعوة في مثل تلك الحالة مستجابة بأذن الله ...
وهي بالفعل قد تذكرتها فجأة ودعت لها بصدق رغم ما كل الألم الذي كانت تشعر به !
أومأت غسق بصمت ... ثم ابتسمت لها وهي تحاول ان تتحكم بدموعها التي هددت بالسقوط لتنهض مستأذنة باختناق .... كل ما تريده هو ان تلوذ هاربة بالفرار ربما هي تهرب من نفسها قبل ان تهرب من نظراتهم المشفقة عليها ! فكل من كان يأتي للمباركة كان ينظر لها بشفقة !! ليتهم يعلمون ما تفعله بها نظراتهم الفاضحة هذه .... ألم نظراتهم هي اشد وطئه من ألم عجزها وقلة حيلتها !!!
......................
..............................

مع حلول مساء اليوم التالي كان الكل مجتمع في منزل سعاد حتى رضاب جاءت من البصرة فور سماعها بخبر ولادة شقيقتها ..... كانت تجلس قرب حبيبة وهي تحمل الطفل الذي ومنذ ولادته كان يدور بين أفراد العائلة بالتناوب ....بينما جلس معاذ في الصالة برفقة وليد وزهير .... قالت رضاب بمرح ومزاح
- من يصدق ان حبيبة الصغيرة أصبحت أجمل ام في الدنيا ؟! أكاد لا اصدق !


ابتسمت حبيبة وهي ترد عليها بصوت منخفض

- وانا ايضا لا اصدق يا رضاب .... الأمومة شيء عظيم ... ولقب الام ليس هيناً ...أتمنى ان أكون جديرة لحمله !!

نظرت لها رضاب بجدية وقالت بلهجة ناعمة
- متأكدة من انك ستكونين افضل واحن ام في الدنيا ...


عادت رضاب تركز اهتمامها بالطفل بينما اطلقت حبيبة تنهيدة عميقة وطويلة ثم قالت بخفوت وحزن

- - كنت اتمنى ان تكون امي معنا ألان لتشاركنا سعادتنا هذه !
تجمدت الابتسامة وماتت على وجه رضاب لتجيبها وهي تنظر لها ببرود
- لا تذكريها يا أختاه ..... ثم ألم أنصحك بأن تنسيها وتمضي بحياتك دون أن تفكري بها ؟


ردت حبيبة بحيرة وهي تزيغ حدقتيها بوجه اختها
- كيف انساها يا رضاب ! مهما يكن فهي لا تزال والدتنا وربما بعد ....


قاطعتها رضاب بتأفف وهي تستدير لتضع الطفل في مهده
- ربما ماذا يا اختاه ؟!!!! ربما ماذا بالله عليك ؟!


التفت ناحيتها واعتدلت بجلستها وهي تردف قائلة بسخرية مريرة
- اخبرتك .... والدتك الان مشغولة بانجازاتها ومستقبلها ليس فارغة لكي تأتي وتشاركنا حياتنا المملة التافهة بالنسبة لها !! أأكد لك وخذيها مني كلمة هي لم ولن تأتي لزيارتنا مدى الحياة ! لذلك لا تعقدي الآمال عليها ابداً

احست حبيبة بأن هناك أمرا ما يخص والدتها تخفيه عنها شقيقتها فلهجتها كانت مبطنة وساخرة
قالت بقلق
- وما الذي يجعلك متأكدة بهذا الشكل ؟!
رفعت رضاب كتفها وهي تحاول ان تجيب بطبيعيه ودون ان تظهر توترها وارتباكها ...بينما لسان حالها يقول في سرها اه فقط لو تعلمين ما فعلته بي هي وذاك النذل الذي كان في يوما ما زوجي !

- اشعر بذلك يا حبيبة ...ولا تسأليني اكثر بالله عليك ....اغلقي هذا الموضوع نهائيا !!

قضمت حبيبة شفتها السفلى وصمتت لعدة دقائق ثم قالت بعفوية
- رضاب انت للان لم تخبرني عن سبب طلاقك من همام ؟!!
لااااا هذا كثير جدا يا الله ... كثير جدا ليوم واحد .. هتفتها داخلها بصرخة جريحة ... يوم واحد يذكر به اسم هذين القذرين ..رباه هذا اختبار صعب لمدى صبرها وتحملها ....ابتلعت ريقها وأجابت بهدوء يشوبه حدة طفيفة
- ليس هناك شيء مهم لأخبرك به يا حبيبة ...غير اني اكتشفت متأخرة جدا مدى سوء اختياري وخطئي بقبولي الزواج منه ...والحمدلله الذي خلصني من رجل مثله لا يمتلك ذرة من النخوة والشرف والرجولة !!

أومأت حبيبة بصمت وهي تتفحص وجه شقيقتها الذي ينضح اشمئزازا وقرفا .... لم تتدخل بماضيها اكثر لذلك غيرت مجرى الحديث وسألتها بدهاء ومكر

- ومعاذ !!!!
ارتسمت ابتسامة لا إرادية على وجه رضاب وهي تردد خلفها بخفوت
- معاذ ؟!! ومابه معاذ ؟!
- كيف هو معك ؟!

سحبت رضاب نفسا عميقا مثقلا بالمشاعر الحارة بينما بوادر العشق والوله انعكست بعمق عينيها البنيتين وهي ترد هامسة بهيام

- معاذ هو الجائزة التي كافئني الله سبحانه وتعالى بها بعد صبري ومعاناتي .... ماذا أخبرك يا اختي ..... وكيف أصفه لك !! طيب ... حنون ...وغيور ... ورجل بكل ما تحمله الكلمة من معنى !!!! فليحفظة الله لي من كل سوء

أمنت حبيبة خلف شقيقتها وهي سعيدة لسعادتها لتقول بصدق
- أتمنى لك السعادة والفرحة طوال العمر حبيبتي
اجابت رضاب بحنان ورقة
- ولك ايضا اختاه !
قالت حبيبة بحماس وأمل وهي تنظر لها بعينين لامعتين كنجمتين براقتين في السماء

- والان اخبريني ... الا يوجد شيء ما في الطريق يا رضاب ؟!
قطبت تسألها بابتسامة صغيرة
- شيء مثل ماذا
- طفل صغير !!!
ضحكت رضاب بخفوت ثم اجابت وهي تسبل اهدابها بينما استقرت كفها على بطنها المسطح لا اراديا
- لا ادري يا حبيبة ربما اجل !
هتفت حبيبة بسعادة عارمة
- حقا!!!!!
اومأت رضاب قائلة بهدوء
- لم أتأكد بعد ..افكر بأجراء اختبار منزلي ما ان اعود للبصرة ان شاءلله !
ردت حبيبة بحماس
- ان شاءلله سيكون ايجابيا ...سأنتظر البشرى بفارغ الصبر لا تنسي ان تخبريني !!
ابتسمت رضاب وهي ترد بأمل
- بإذن الله تعالى

..............................
.........................................

بعد مرور بعض الوقت جاءت تبارك لزيارة حبيبة مرة اخرى بينما اكتفت رونق بتقديم التهنئة في الهاتف .... كانت رونق لا تزال خجلة جدا من دخول منزل عائلتها ... حاولت اقناعها بالذهاب معهم الا انها اصرت على ان تتصل بها وتهنئها هاتفيا !!! ربما تصرف رونق مبالغ به بعض الشيء...لكنها مع ذلك تعذرها ... فغسق جعلتها بموقف حساس وحرج جدا .... آه منك ياغسق ..سامحك الله على فعلتك المتهورة تلك !!!!
اخرجت من حقيبتها علبة صغيرة احتوت على قطعة ذهبية ثم علقته بملابس الطفل بالدبوس ... لقد شعرت بالحيرة والصعوبة في انتقاء الهدية المناسبة .... لتهتدي اخيرا لأفضل هدية ممكن ان تحضرها له ...وهي مصوغة ذهبية كتبت عليها ماشاءلله ... فلا يوجد اعظم من اسم الجلالة لتحفظه من العيون الحاسد ... كانت تجلس على الكرسي المجاور للسرير وهي تحمل عمر بين ذراعيها لتقول بمرح ولطف
- طفلك يشبه والده بالضبط يا حبيبة !!
رفعت نظراتها لتردف وبنبرة ماكرة
- هذا معناه انك تحبين زهير اكثر من حبه لك !
ليهتف زهير الذي كان يجلس في الجهة الاخرى من السرير وهو يهم باحتضان كتفها ليقربها اليه اكثر
- هراء ما تقولين !! انا احبها اكثر !
قالت تبارك وهي تحاول ان تكتم ابتسامتها
- لم اخترع هذا الهراء من عقلي سيد زهير ... الجميع يعرف هذا الامر من يحب الاخر اكثر الطفل سيكون مشابه له !!
صمت زهير قليلا ثم اجابها بدهاء
- حتى وان كان يشبهني ..فهذا افضل له !
رفعت تبارك حاجبيها وقالت بتساؤل
- وكيف ذلك ايها الذكي ؟!!!
قال ببساطة وهو يرفع حاجبيه الكثيفان بتحدي
- الصبي يجب ان يشبه والده او عمه او جده فلا يحبذ ان تكون تقاطيعه جميلة وناعمة تخيلي شكله وهو يشبه حبيبة !! لالا هذا غير مقبول إطلاقا .... ثم بأذن الله المرة المقبلة ستلد زوجتي فتاة ....وستكون حتما وبكل تأكيد نسخة مصغرة عن حبيبة اعدك بذلك !

تخضبت وجنتي حبيبة بحمرة الخجل وهي تهمس متذمرة من جراءة زوجها الوقح الذي لم يلقي بالا لخجلها .... بينما تنهدت تبارك وقالت وهي تلقي نظرة على وجه ابن اخيها الصغير الذي كان ينام بعمق

- حسنا ..ربما معك حق .... اتمنى من كل قلبي ان تقتصر الوراثة على الشكل الخارجي فقط ولا يتعمق ويرث طباعك أيضا خاصة عندما كنت صغيراً !
اجابها زهير باستنكار
- وما بها طباعي سيدة تبارك ؟!!!!
لترد عليه بتهكم
- لاشيء فقط كنت مشاكس ومشاغب جدا ...للأن اتذكر كيف كنت تسحب جديلتي بقوة لتجبرني على ان أشاركك سكاكري التي كان يحضرها لي ابي رحمه الله !!!
اجابها زهير وهو ينظر لها بابتسامة منتصرة وكأنه عاد صبيا صغيرا
- لكنك كنت تشاركيني اياها في النهاية ... و برضاك ودون ضغط او اجبار لا تنكري ذلك !!

قالت تبارك وهي تصحح له بطفولية وغيض

- بل مضطرة .... أشاركك سكاكري مضطرة .... فأنا ورغم اني اكبر منك سنا كنت أبدو كأختك الصغرى ... فأنت في حينها كنت اطول واضخم مني بكثر ..المعركة بيننا لم تكن متكافئة لكي أخوضها معك ... لذلك كنت استسلم لك دائماً !!!
تدخلت سعاد قائلة وهي تدلف الغرفة
- يكفي انتما الاثنان وهيا اخرجا للصالة ودعوا الفتاة تأخذ قسطا من الراحة .....
سلمت تبارك الطفل لجدته ثم خرجت من الغرفة وهي ترمي زهير بنظرات ماكرة وخبيثة ليظل زهير جالسا في مكانه وكأنه لم يسمع ما قالته والدته للتو
قالت سعاد وهي تضع الطفل في مكانه
- اخرج انت ايضا زهير
أجابها زهير بعناد
- امي انا سأنام مع زوجتي
التفتت سعاد تنظر له بدهشة وهي تقول
- اين ستنام !!!
- هنا جانبها ؟!
قالت سعاد بيأس وتعب
- يا الهي .....الصبر منك يا الله .... زهير يا ولدي زوجتك لا تزال بفترة النفاس .... وتحتاج الى العناية والراحة اذهب الى منزلك هيا
اجابها زهير قائلا ببراءة تامة
- اعرف انها بفترة نفاس ... انا لست غبيا اماه .... لكني لا استطيع النوم في المنزل بمفردي !! فالبارحة لم يغمض لي جفن وانا انام بعيدا عنها !!
ردت عليه سعاد بسخرية وتهكم بينما داخلها كانت تشعر بالفرحة وهي تلحظ هذا الحب الكبير الذي يكنه ولدها لتلك اليتيمة الطيبة ..... التي عاشت لسنوات وسنوات تعاني الظلم والاهمال ... وها هي الان اخيرا نالت الراحة والاستقرار والسعادة معه
- لماذا هل تخاف من الاشباح !!!!
عقد حاجبية واجاب بجدية
- كلا طبعا ! لكني تعودت على النوم جانبها واحتضان خصرها واستنشاق رائحة الياسمين منها ! انا كالمدمن تماما !!
كان زهير يتكلم مع والدته بأريحيه تامة غير عابئ لخجل حبيبة التي كانت تلكزه بالخفاء تحاول ان تسكته عن الكلام المخجل الذي يتفوه به لكنها عبثا تحاول
تنهدت سعاد بقلة حيلة وقالت بلهجة قاطعة لا تقبل المناقشة
- لن تنام هنا زهير .... ان اردت سأفرش لك لتنام في الصالة فاليوم منزلنا مكتض بالضيوف ...وهذا اخر ما عندي ..ماهو قولك ؟!
حك زهير مؤخرة راسه واجابها متنهدا باستسلام
- حسنا انام في الصالة وامري لله المهم ان اكون قريبا من زوجتي وابني !

رماد الغسقحيث تعيش القصص. اكتشف الآن