39

180 9 0
                                    


الفصل التاسع والثلاثين
.....................


ممددة على فرشها تبكي بقهر وأنين خافت مكتوم يصدر عنها .... تشعر وكأن الكون كله قد انهار فوق رأسها ...بل وكأن نجوم أحلامها قد تهاوت واحدة تل والأخرى وتناثرت حولها منطفئة بعد أن كانت تبرق ببريق الأمل والترقب ..... للان تتذكر وجه خالتها سعاد التي ما ان أخبرتها والدتها بكل ما قالته الطبيبة حتى شحبت بقوة وبهتت ملامحها المتفائلة ...هي تريد حفيدا لها ..تريد ان ترى ذرية ولدها البكري وهذا من حقها .... رغم إحباطها الظاهر إلا أنها صبرتها ببعض الكلمات التي لا تجدي نفعاً ولا تشفي جرحا واحدا من جراحها التي تكالبت فوق روحها الهائمة ببحر التعاسة والحزن ..... حتى تبارك وقفت مصدومة في بادئ الأمر ثم احتضنتها وهدأتها بطيبة وحنان ... لا احد يستطيع ان يشعر بما تمر به الان .. لا احد يستطيع مواساتها .... الطبيبة قالت ان الحمل ليس مستحيلا بالمعنى الحرفي لكنه يحتاج الى مشوار طويل جدا .... وقد يحصل او لا يحصل
لماذا هي ...لماذا هي يا رب .... كانت تحاول ان تفكر بأستماته عن حالة تشبه حالتها في عشيرتهم سوءا من طرف والدتها او والدها ..لكن لا يوجد ..لا يوجد احد ابدا الا هي ...

همست والدتها بلطف وهي تمسد على شعرها المتناثر حول ظهرها وكتفيها بعشوائية ... بينما كانت تدفن وجهها في الوسادة لا يسمع منها غير صوت أنينها الجارح .....
- غسق ...حبيبتي ..يكفي ما تفعليه بنفسك ..قدر الله وما شاء فعل ...
لم تنطق غسق بحرف ولم تؤتي بحركة واحدة .... لتردف والدتها بنبرة بائسة
- الله قادر على كل شيء ..ورحمته وسعت السموات والأرض ..ما عليك ....
قاطعتها غسق وهي تهب جالسه وعينيها باتت حمراء ومنتفخة من شدة البكاء

- امييييييي هل تذكرين العم بكر !!!!!
ازدردت سعدية ريقها الجاف وهي تنظر لأبنتها بنظرات زائغة ...كيف تنسى جارهم السيد بكر وقصة حبه الخرافية ...وكيف حارب الجميع من اجل الفوز بحبيبته رغم كل العوائق والصعوبات
ردت هامسة بحزن
- وما الذي ذكرك به الان ؟!!!
مسحت غسق دموعها واجابت بصوت مبحوح
- هل تذكرين كم كان يحب زوجته ؟!!
هزت سعدية رأسها بعيون دامعة وقد احست بما تريد ابنتها قوله ...لتكمل غسق قائلة
- كانت لا تنجب الأطفال ... الكل نصح العم بكر بالزواج عليها وان يستخدام حقه الشرعي الذي احله الله له .... الا انه رفض قائلا بأنه من المستحيل ان يفكر بهذا الامر مطلقا ....
اجابت سعدية بحزن
- يا ابنتي ....
الا ان غسق قاطعتها وهي تكمل حديثها بقوة
- عاشا سنوات عدة وهما سعيدين مع بعضهما البعض ... كان حبهم وتمسكهم ببعض مصدر حسد وغيرة الجميع ....الى ان توفي العم بكر بحادث مروري ... وانت بكل تأكيد تتذكرين الباقي ... كيف دخلت فتاة صغيرة السن ....تحمل طفل على صدرها وآخر يمسك أطراف عباءتها ..ليفاجأ الجميع بخبر زواجه السري ..... كان متزوجاً يا امي ..متزوج ..لم يستطع التحمل ... لقد كذب عليها ... كذب على الجميع .... رغم كل الحب الذي كان يكنه لها ... الا انه فعلها وتزوج ..... انها غريزة ...غريزة فطرية لا احد يستطيع التحكم بها ....

قالت جملتها الأخيرة بصرخة مختنقة وعادت لدفن وجهها في الوسادة تبكي بقوة اكبر .... كانت والدتها تستمع لكل كلمة تنطقها غسق وقلبها يتقطع ألما .... كيف تريح قلب ابنتها يارب .. كيف تطفئ لهيبها المشتعل ... كيف السبيل يا الله .... صعب ان تشعر المرأة بالعجز .. والاصعب هو ان تحرم من الأمومة .... أرادت أن تجيبها إلا أن دخول وليد قاطعها وهو يقول بهدوء وملامح وجهه مبهمة وغامضة
- عمتي هل يمكنك تركنا قليلا من فضلك ....
رفعت سعدية نظراتها الدامعة وهي تهز رأسها ....من الواضح ان سعاد قامت بمهمة اخباره عما حصل ....فقد كان يمسك بيده ملفات التقارير والتحاليل الطبية ... خرجت من الغرفة وأغلقت الباب خلفها بهدوء .....
ظل وليد اقفاً لعدة دقائق ينظر لزوجته الغارقة بين طيات الفراش جسدها يهتز بقوة من شدة البكاء ....كان يشعر بأن هناك خطب ما ...فهو قد اتصل بها لاكثر من عشرة مرات عدا الرسائل التي بعثها لكي يطمئن عليها .... لكنها لم ترد على اي منها ... نغزة حادة استقرت بقلبه عندما دلف الى المنزل لتفاجئه والدته وهي واقفه امام المدخل ....سحبته من ذراعه متوجه الى الصالة ثم بدأت بسرد كل ما قالته سعدية لها ... لن يكون كاذبا ويدعي ان الامر لم يصيبه بخيبة الأمل والحزن الشديد .... لكن خوفه وقلقه على مشاعر غسق التي كانت تتلهف للحصول على طفل كان اكثر بكثير من اي مشاعر اخرى يمكن ان يفكر هو بها ..... لكنها مشيئة الله ولا اعتراض على حكمه ومشيئته .... تقدم ناحيتها وجلس قربها بهدوء ....همس بصوت خافت وحنون
- غسق !!
لترد عليه بأنات مبحوحة وجريحة جعلت قلبه يتلوى ألما عليها ....مسد ذراعها قائلا بصوت خافت
- لما كل هذا البكاء حبيبتي !!! الأمر لا يستحق ذلك !!!
اعتدلت بجلستها واصبح وجهها المنتفخ المحمر مقابلا لوجهه المتألم لتجيبه قائلة
- كيففف !! كيففف لا يستحق ؟!!! هل عرفت يا وليد !! هل عرفت بأني ..أني .... لن ارزق بطفل !! لن استطيع ان أكون اما لأطفالك يا وليييييد ....

ازدرد ريقه ..وابتلع تلك الغصة المؤلمة بصعوبة ...... بحكم سنوات عمره وبحكم كل ما مره به في حياته من مآسي ومواقف مؤلمة لا تحصى ولا تعد استطاع ان يتحكم بنفسه ويخنق مشاعره المتألمة ... ليجيبها قائلا بهدوء وقوة ...عكس ما كان يشعر به تماماً ...
- لاتقولي مثل هذا الكلام ...انت مؤمنة بقضاء الله ...وربما هو امتحان لمدى صبرنا وتحملنا حبيبتي
هتفت قائلة ببكاء ودموعها تهطل على وجنتيها بغزارة ودون توقف
- انا ..انا ..لست حزينة من اجلي يا وليد ..انا حزينة وتعيسة من أجلك انت .... لقد قدمت لي كل شيء .... وانا لم أقدم لك بالمقابل إلا الوجع والألم .... ومنذ اليوم الاول الذي وصلت به الى اربيل وأنت تتحملني وتتحمل مزاجي المتقلب وطباعي المجنونة ... وها انا أحرمك من حق الأبوة ايضا ....

سارع لاحتضن وجهها بكفيه وقال بحب وعشق صادق وعميق
- كيف تفكرين انت ؟!!! عن اي وجع والم تتكلمين !!! منذ دخولك بحياتي وانا اشعر وكأني عدت للحياة من جديد ... اعشق كل مافيكِ ...جنونك ..مزاجك ... طباعك ... عشقك هو الهواء الذي اتنفسه يا غسقي ... هو الهواء صدقيني ...
لتهتف ببكاء وهي ترمي نفسها بين ذراعيه
- وانت الحياة كلها بالنسبة لي وليد ..انت تسري بشرايني كالدماء تماما ... لا استطيع ان اتصور او اتخيل ابتعادك عني لدقيقة او لثانية واحدة قد اموت بعدها ....
احتضنها بقوة وهو يدفن وجهه بخصلات شعرها العسلي يستنشق رائحتها ويقبلها قبلات متناثره وصغيرة .... يهدئها ويطمئنها ويبث داخلها الأمل الذي تحتاجه .... ظلا بأحضان بعضهم البعض ... عدة دقائق لتبعد غسق قائلة بصوت مبحوح ومتوسل

- وليد ....ان لم نرزق بأطفال ...هل ..هل ..ستفكر بالزواج ؟!!! اجبني بصدق يا وليد هااا هل ستتزوج !!!

عقد حاجبيه واجابها بصدق وهو يسحب رأسها على كتفه مرة اخرى
- ماهذا الكلام الفارغ الذي تقوليه !!! كيف تفكرين حتى بذلك !!!
تمتمت بأختناق وهي تمسح دموعها بقميصه القطني المشبع برائحته الرجولية التي تدمنها
- فقط اجبني ارجوك ودون كذب او مراوغة

ليرد عليها بسرعة وبلهجة مطمئنة وهو يمسد شعرها وكأنها طفلة صغيرة
- رباه ..بالتأكيد لا يا غسق ..لا تفكري بذلك مطلقا ..مطلقاً ... طفلتي ....
تنهدت براحة وهي تحتضن خصره بقوة لتهمس وهي لا تزال تدفن وجهها بصدره
- احبك كثير يا وليد ..كثيرا جدا ..اكثر مما تتخيل .....احببتك قبل الزواج وعشقتك اضعافا مضاعفة بعدها صدقني قد اموت قهرا ان اخذتك امراة اخرى مني .... يا الهي كم احبك ....
ابتسم بلطف وأصابعه متغلغلة بطيات شعرها الطويل يقبل جبينها بعمق ثم يرد عليها هامسا وهو يريح ذقنه على قمة رأسها
- وانا اعشقك حبيبتي ..انت لست زوجتي فحسب ..انت ابنتي وطفلتي ..هل سمعت ؟! انت طفلتي الصغيرة يا غسقي

استكانت وهدأت ثورتها وهي تستمع لكلماته الحنونه .... لم تدعه يغير ملابسه حتى ..بل نامت على ذراعه كالطفلة الصغيرة ...رموشها مبتله بالدموع ... وشهقاتها الخافته كانت تتلاشي شيئا فشيئا تحت وطئت لمساته الحانية .... همست داخلها بيأس وقهر ..ترى هل حقا ستستطيع التحمل يا وليدي !!!! وحتى ان تحملت وضحيت ..الى متى ستستمر بهذه التضحية !!!!

..............................
.....................................

الكل كان يعمل على قدم وساق من اجل حفل عقد قران تبارك التي كانت متوهجة من السعادة رغم حزنها على غسق الا انها لم تتدخل ولم تشعرها بتعاطفها وشفقتها ابدا ...فهي تعرف غسق
جيداً كم هي حساسة وكم يبدو التأثر والحزن عليها رغم ما تدعيه من القوة واللامبالاة .... فهي كانت تشاركها سعادتها بكل طيبة خاطر ....اما رونق فقد كانت تقضي اغلب الوقت معها تساعدها باختيار الملابس والمستلزمات الاخرى ....
كانت تبارك تشعر بمشاعر متناقضة ..فهي سعيدة وفرحة يملئها الحماس لتكوين حياة جديدة مع الشخص الذي احبته بقلبها قبل عينيها لكنها بنفس الوقت حزينة وقلقة ...كيف ستفارق البيت الذي عاشت فيه سنوات حياتها !! كيف ستفارق والدتها وأشقائها ؟!!
صحيح ان منزل عبد العزيز لا يبعد عنهم كثيراً الا ان هذه المشاعر التي كانت تعصف بها ليست بيدها ..فما ان كانت تختلي مع نفسها حتى تترقرق الدموع بعينيها ... ربما والدتها احست بها فهي كانت تشجعها دائما وتقص عليها ماضيها في بداية زواجها وهذا ما كان يخفف عنها قليلا .... لم تحاول ان تلتقي بعبد العزيز ... ربما خجلها كان يمنعها ...لكنه كان يتصل بها ويرسل لها الرسائل باستمرار ... باتت لا تستطيع النوم دون قراءة رسائله التي كانت اغلبها تحتوي على مقاطع شعرية وغزلية لنزار قباني وغيره من الشعراء ...
لقد اكتشفت شيئا جديدا بشخصيته ..فهو رغم هدوئه ورزانته الا انه عاشق حتى الصميم ..يمتلك حس ادبي راقي جدا ..عدا عن كونه شخصية رومانسية بامتياز ...وهذا ما جعلها تحبه وتطمئن له اكثر واكثر ....

أخيرا جاء اليوم الذي كانت تنتظره بلهفة وترقب ... فلم يعد يفصل بينها وبين شريك حياتها الا سويعات قليلة لتصبح زوجته شرعا ....

ارتدت فستانا زهري اللون رقيق وناعم اظهر تضاريس جسدها المائل للاكتناز قليلا ...شعرها الاسود اللامع صففته لها خبيرة التجميل بطريقة أنيقة وعصرية .... بينما اكتفت بوضع القليل من مستحضرات التجميل التي أبرزت جمال عينيها الداكنتين واكتناز فمها الصغير

الحفلة كانت تضم اغلب الأقارب والجيران بالإضافة الى صديقاتها وزميلاتها في العمل ..حتى انها دعت زميلاتها اللاتي كن يسخرن منها باستمرار ويسمعنها الكلمات الجارحة عن عمد ...
وكم كانت دهشتها كبيرة عندما لاحظت كيف تغيرت معاملتهن لها .... رغم كل ذلك هي لم تهتم ولم تركز الا بسعادتها التي تعيشها الان .... وهي محاطة بكل هذا الاهتمام وكأنها اميرة خيالية ...

عندما انتهى الشيخ من أكمال مراسيم عقد القران وحان الوقت لدخول عبد العزيز ليلبسها شبكتها شعرت بقلبها يضخ الدماء بقوة ... كانت مرتبكة ومتوترة فهذه هي المرة الاولى التي يراها احدهم دون حجاب .... تمنت فجأة ورغم حماسها الذي شعرت به قبل وهلة ... ان تهرب من كل هذا الضجيج والهمس الذي يحيط بها ..تهرب الى غرفتها ملاذها الذي تشعر به دائما بالراحة والامان ...الا انها صبرت نفسها هامسة داخلها بخفوت ..مابك تبارك ..اهدئي ..وكوني طبيعية ... لا داعي للتوتر والخجل .... هذا زوجك وشريك حياتك ..والرجل الذي تمنيته منذ وقت طويل .....

رونق كانت تشجعها بابتسامة ناعمة وهي تكاد تطير فرحا من شدة سعادتها ... فقد شاركت الفتيات بالرقص والزغاريد .... اقترب منها عبد العزيز ثم قبل جبينها وجلس قربها هامسا بصوت اجش ..
- مبارك حبيبتي
همهت لترد عليه بصوت خجول ومتلعثم ووجهها الأسمر الجذاب يتحول للون قرمزي قاني .... ليبدأ بإلباسها شبكتها بيدين ثابتتين وهو يحاول قدر استطاعته السيطرة على نفسه لكي لا ينقض على شفتها أللتي كانت تعضها بخجل .... كادت حركتها هذه ان تطيح بصوابه .... رؤيته لتبارك وهي بهذا الشكل وهذه الملابس المثيرة .... حركت داخله مشاعر الرغبة ... خاصة وهو يرى شعرها الحريري الاسود لاول مرة .... تمنى ان يلمسه بأصابعه ... بل تمنى ان يلمس تلك المنحنيات التي زعزعت كيانه وجعلت نبضاته تخفق بعنف ... لكن لابأس ... هي له اولا واخيرا .... فهاهي قد اصبحت زوجته ... ولا احد يستطيع منعه عن رؤيتها او تقبيلها او لمسها ابداً ....

رونق كانت تقف قربه منحنيه تساعده على اتمام المهمة .... وما ان انتهى ..حتى صدح صوت الزغاريد والاغاني من جديد .....
حمد الله مرارا وتكرارا على عطاياه التي لا تنتهي ابدا فمن كان يتصور بان حلم حياته قد تحقق فعلا وبات واقعا ملموسا ... وقريبا جدا ستكون تبارك له .... قولا وفعلا
..............
.....................

أشهدُ أن لا امرأة ً
تجتاحني في لحظات العشق كالزلزال
تحرقني .. تغرقني
تشعلني .. تطفئني
تكسرني نصفين كالهلال
أشهدُ أن لا امرأة ً
تحتل نفسي أطول احتلال
وأسعد احتلال
إلا أنت
....................



كان زهير يقف في المطبخ متكأ على طرف المنضدة وهو يعقد يديه على صدره .... لقد بعث احد الأطفال الذي لا يعرف ابن من هو ... لينادي له حبيبة ... مشددا عليه
- اخبرها ان زهير يريدك لأمر ضروري جدا وخطير

ليجيبه الطفل بذكاء
- وإذا سألتني من هو زهير ؟!!!
زفر زهير الهواء بضجر وهو يجيبه بصبر

- لن تسألك ....أنت فقط قل لها ما أخبرتك به وهي ستأتي حالا
ليرد الطفل بعناد

- وان لم تصدقني ماذا افعل ؟!

مسح زهير وجهه وهو يستغفر الله بخفوت فهو كان على وشك خنق هذا الطفل المتحذلق
ليقول وهو يغتصب ابتسامة باردة

- ستصدقك ..اذهب يا ولدي ..اذهب يا شاطر هيا ....

بعد مرور بعض الوقت دلفت حبيبة وهي تمسك بيد الطفل ... كانت رائعة الجمال بفستانها الذهبي الضيق الذي اظهر جسدها الفتي الذي اكتسب القليل من الوزن مؤخرا ....والذي زادها بعيني زوجها إثارة وإغراءا .... اقتربت منه وهي تقول ببراءة

- نعم يا زهيرررر ماهو الأمر المهم الذي أردتني من اجله ؟!!!

اجابها بابتسامة ماكرة وهو يعتدل بوقفته و يسحبها من ذراعها
- كنت اريد ان أخبرك ...
بتر جملته وقد انتبه للطفل الذي كان يقف بينهما يركز نظراته الفضولية عليهما ليقول له بلطف وهو يمسح على رأسه

- شكرا لك ايها البطل ..تستطيع الذهاب الان انتهت مهمتك ...

ليجيبه الطفل قائلا بعناد وهو يتشبث بيد حبيبة بقوة
- لا اريد الذهاب ...اريد ان ابقى مع الخالة حبيبة

انحنى زهير وركز نظراته على وجه الطفل اللامبالي هامسا بنبرة متوعدة وابتسامة باردة ترتسم على شفتيه
- لقد سمعت والدتك تناديك قبل قليل وقد كانت غاضبه جدا

نظر له الطفل وقد اتسعت عينيه برعب قائلا بخوف
- حقاً !!!!
ليرد عليه زهير بتأكيد وهو يعتدل ويرفع حاجبيه بانتصار .
- حقا
ترك الطفل يد حبيبة وركض مسرعا الى الداخل بينما حبيبة كانت تقف وهي تراقب ما يجري بذهول وعدم فهم ... لتنهره قائلة

- لقد اخفت الطفل يا زهير مابك ؟!!

اجابها وهو يسحبها من ذراعها متجها الى ذات المخزن الذي شهد اول قبلة لهما ... لتتبعه وهي ترفع طرف فستانها بخطوات متعثرة ...
- يستحق ... طفل فضولي ووقح ...
تأففت وهي تدلف الى المخزن قائلة
- رباه زهير هل ستضع عقلك بعقل طفل صغير وبريء

هتف بأستنكار وهو يغلق الباب
- هذا بريء !! بل انت البريئة يا حبيبة ..والان اتركينا من هذا الكلام ودعيني اخبرك امرا مهما
عقدت يديها على صدرها وقالت بأنتباه
- ماذا هناك زهير لقد اقلقتني حقاً !!!
اقترب منها هامسا بليونة
- لا ادري ..لقد انتابني شعور غريب هكذا فجأة ودون سابق انذار !!

اعتدلت حبيبة بوقفتها واخذت تلمس ذراعيه قائلة بقلق واهتمام

- مابك زهير ؟! هل يؤلمك شيء ما ؟!!!
احست بأنفاسه الحارة تلفح وجهها وقد اقترب منها اكثر ليرد وهو يلتقط معصميها ويضعهما على قلبه ...قائلا بهدوء وهمس

- لا الحقيقة لست بخير ..انا اشعر بالغيرة ...
رفعت حاجبيها وأجابت وهي تحاول كبح ابتسامتها وقد فهمت ما يرمي اليه
- ممن تشعر بالغيرة سيد زهير ؟!!!!

نظر لها بمسكنه واجابها قائلا بنبرة حزينة
- من عبد العزيز ...
هتفت بتعجب ويديها لازالتا تستريحان على صدره وقد احست بدفء جسده و نبضاته العنيفة
- رباااه زهير ..اتغار من زوج شقيقتك ؟!!!
اومأ هامسا بأصرار

- اجل ...اشعر بالغيرة ...و أريد ان أجدد ليلة زفافنا مرة اخرى
دفعت صدره بمحاولة منها لتحرر هيمنته وحضوره الطاغي الذي للان يبعثر دقات قلبها ويشعرها بالخجل الطفيف ... رغم انها خجولة في اغلب الاحيان الا انها في لحظاتهم الحميمية تنقلب مئة وثمانين درجة ..تبادله لمساته وهمساته الجريئة ..تتحول كتله من النار التي تحرقهما معا ..وتصيبه بالجنون والذهول ليصبح كالجائع النهم الذي لايشبع ابدا ....
- انت تجدده يوميا يا زهير ... يا إلهي وانا التي ظننت ان هناك امر خطير ومهما حقا ...ابتعد عني زهير يجب ان اعود للصالة هذا لا يجوز

حاصرها وهو يكبل خصرها بذراعيه قائلا
- ليس قبل ان ااخذ بعض المقبلات
وقبل ان تفهم ما يريده هذا المجنون ... انقض على شفتيها ليتناولهما بقوة ... حاولت دفعه الا انها لم تستطع ... فما كان منها الا الاستسلام له .... زهير المتهور بتصرفاته جعلها تصبح مثله متهورة وجريئة ..متعطشة له هي الاخرى ايضا ... تنتظر ما سيقدمه لها من مفاجات بلهفة وسعادة وكأنها طفلة شرهة تنتظر كعكه العيد بترقب وحماس ...رفعت ذراعيها وطوقت رقبته بينما اصابعها تغلغلت في خصلات شعره الكثيف .... نسيت الحفلة ... ونسيت انهما يقفان في المخزن كلصين ..او حبيبن لا يزالان في طور الخطوبة .... لا يدركان ما يفعلانه .... فقط مشاعرهما الجياشة هي من تحركهما رغما عن إرادتهما ..... تركها بعد مرور عدة دقائق بانفاس متقطعة ليهمس قائلا وملامح الرغبة منعكسة على وجهه

- تستطيعين الذهاب الان ...
ابتعدت عنه وهي تهمس بخجل بينما اصابعها تلمس شفتيها التي احست بانتفاخهما واحمرارهما
- رباه زهير لقد افسدت احمر الشفاه !!!

اجابها بغرور وهو يعدل خصلات شعره التي تبعثرت من اثر اصابع حبيبته التي بادلته قبلته بجنون اشد من جنونه
- لقد وضعت لك عوضا عنه احمر شفاه طبيعي ...

اقترب منها مرة اخرى ليردف قائلا وهو يدعي البرائة

- هل تريدين ان اجعله اكثر احمرارا !!!

دفعته بسرعة وهي تهم بفتح الباب قائلة
- شكرا لك زهير لا اريد منك شيئا ...ااها ... تذكرت ... ولا تناديني مرة اخرى لاني لن أأتي !!!

فتحت الباب وخرجت بخطوات هادئة تتمايل بقدها الرشيق باغراء ودلال ليهمس الاخير قائلا بتوعد
- وان يكن ..اين ستهربين مني ..مهما ابتعدت فمصيرك الاخير دوما والى الابد بين ذراعي بطتي المثيرة


..................................
.........................................

ذات العينين السوداوين
ذات العينين الصاحيتين الممطرتين
لا أطلب أبدا من ربي
إلا شيئين
أن يحفظ هاتين العينين
ويزيد بأيامي يومين
كي أكتب شعرا
في هاتين اللؤلؤتين
.................


بعد ان فرغ المنزل من المدعوين كانت تبارك لا تزال جالسة في الصالة لكن هذه المرة لم تكن لوحدها ...بل كانت تجلس مع زوجها ...على انفراد وللمرة الأولى في غرفة مغلقة الباب ...
لم تكن قادرة على رفع رأسها لتنظر إلى وجهه الحبيب بالنسبة لها .... فقط ضربات قلبها كانت تخفق بقوة تنافس قوة طبول الحرب المدوية ....
ارتباكها وخجلها كان واضحا جدا ... كانت مطرقة الرأس ... متشنجة الجسد ... تفرك يديها بتوتر .... ابتسم بحنان وارتباكه لا يقل عن ارتباكها كثيرا ..
أخيرا هاهو يجلس مع زوجته ...حبيبته نصفه الثاني الذي وجده بعد طول انتظار... وعناء شديد ومتعب .... امتدت يده لتحتضنها كفيها المتشابكان على حجرها ...هامسا بصوت رجولي ووقور
- تبارك ...
لم ترد عليه بحرف ... ظلت مطرقة الرأس بخجل .... سحب نفسا طويلا ليردف قائلا بهدوء
- اتعبتني كثيرا يا تبارك ... اكثر مما تتصوري لكي احضا بك ....

رفعت رأسها وقالت بعتاب وعينيها الداكنتين الخجولتين تلمعان ببريق آسر

- انا !!! انا اتعبتك يا عزيز ؟!!! من اتعب من ؟!!!
صدرت عنه ضحكة صغيرة وخشنه ليجبها بصدق واصابعه الدافئة تتحرك برقه على باطن كفيها الناعمان
- ربما معك حق .. آه يا تبارك انا حقا لا اعرف كيف ابرر لك تصرفاتي السابقة ...


صمت لثوان ثم أردف قائلا بصدق

- كنت أظن أنني بابتعادي عنك سأعفيك عن الحرج .... لم اكن اريد ان افرض وجودي بحياتك بعد ان اعطيتي موافقتك لرونق ..كنت .. اظن ... حسنا ... بأنك حتما ستندمين وتغيرين رأيك ما ان تقع نظراتك على وجهي المشوه ...و...
وضعت يدها بسرعة على شفتيه لتقاطعه قائلة بصوت رخيم وناعم
- وجهك ليس مشوها ..بل هو اجمل وجه رأيته بحياتي ...ثم انا عندما احببتك ..لم احب شكلك الخارجي ..بل احببت قلبك الحنون يا عزيز ....
قالت جملتها الأخيرة وهي تضع يدها على قلبه الذي أحست بخفقاته المجنونة والتي وصلت اليها بوضوح من تحت قميصه القطني الأزرق ...غامت عينه ببرق اخاذ وهو يرفع يدها لفمه ليلثمها برقة قبل ان يحتضن وجهها بين كفيه وينحني لتلتقي شفتيهما بقلبة عميقة ومتلهفة ....فلم تعد الكلمات تجدي نفعا معه ... يريد ان يلمسها ... يريد ان يشعر بها ... يشعر بحقيقتها المطلقة .... حقيقة انها اصبحت له فعلا ...
استجاب جسدها لقبلته ...ليس جسدها فقط ...بل كل اختلاجة من اختلاجاتها الخجولة وحتى ضربات قلبها وانفاسها التي كان يسلبه منها بتملك احبته وتمنت ان يدوم طويلا والى الابد ....
احتضن خصرها بقوة ..يحاول ان يقربها منه اكثر ليصله حراره جسدها الدافئ ...

اراح جبينه على جبينها هامسا بعشق متدفق
- اعشقك تبارك ...وسأظل اعشقك حتى اخر نفس اتنفسه

..........................
................................

البصرة

............

الأيام تجري بوتيرة واحدة وها قد مضى على ذهاب معاذ أسبوعين كاملين ولا خبر عنه لحد الان .... كانت جاسمية تزورهم كل يوم .... فهي الاخرى قلقة على حيدر الذي رافق معاذ برحلته الخطيرة هذه ....
أما عم معاذ ايضا كان يسأل عنهم باستمرار ويرى متطلباتهم وما يحتاجون اليه ... حتى نساء العشيرة كن يزرنهم باستمرار للان تتذكر ما حصل قبل يومين عندما زارتهم ابنه عم معاذ حين كانا يقفان في المطبخ برفقة جاسمية يعدون وجبة الغداء ...اذ سألتها قائلة
- كيف هي العمة هدى معك ؟!

استغربت سؤالها لكنها اجابت بعفوية وهي مستمرة بتقطيع الخضراوات

- الحمد لله خالتي هدى طيبة القلب وتعاملني كأبنه لها !!!
لترد عليها بدهاء ومكر وهي تستند بجذعها على طرف المنضدة الخشبية تنظف الأرز بملل

- حسنا هذا جيد مع اني لا اصدق ما تقولين ..فالمعروف عن العمة هدى بأنها قاسية وصارمة بكلامها ومعاملتها ... ياليتك تعلمين كيف كانت تعامل زوجه ابنها طه رحمهما الله ... كا....
وقبل ان تكمل حديثها ... قاطعتها جاسمية بقوة وهي مقطبة الحاجبين

- لا داعي لهذا الكلام يا إسراء ..اكملي ما بيدك بسرعة هيا ...

لم تعر الأمر انتباها او اهتماما في حينها ...فهي بالفعل ترى الخالة هدى طيبة القلب رغم طلباتها المتعبة ..لكنها دائما تقول لها بأنها تفعل هذا لمصلحتها ..لكي تكون زوجة يفخر بها معاذ .... وهي بالفعل اصبحت تجيد أعداد بعض الأطعمة المتنوعة البسيطة ..كما انها اصبحت شاطرة وسريعة بالإعمال المنزلية ..وهذا الامر يسعدها جدا رغم التعب والإرهاق الذي تشعر به في نهاية اليوم .....

عادت من شرودها وهي تطفئ الموقد لتصب شراب البابونج ( وهي من الإعشاب التي تستخدم في علاج التوتر والقلق إضافة لاستخدامات طبية اخرى )
حملت الصينية ثم توجهت الى غرفة الخالة هدى .. طرقت الباب أولا ثم دلفت الى الداخل بابتسامة صغيرة .... وضعت الصينية على المنضدة المجاورة للسرير ثم جلست قربها و حملت القدح وهي تقول بلطف
- لقد اعد تلك شراب البابونج يا خالتي ..اشربيه وان شاء لله ستشعرين بالتحسن

...كانت هدى تجلس على الفراش .... تشد حول رأسها عصبه سوداء اللون ... تهمس وتنوح .... تنعي بكلمات متشائمة يقشعر لها الأبدان ..... منذ اليوم الخامس على مغادرته المنزل وهي لا تستقر ولا تجلس بمكان واحد .... تعيد وتكرر بهذيان ان ولدها أصيب بمكروه !!!
عجزت وتعبت وهي تفهمها وتطمئنها انه بخير وسيعود سالماً .... فهو قد اكد واقسم لها بأنه لن يدخل الى المناطق الساخنة ...فقط سيوصل المؤنة والمساعدات الى الجيش ويعود ....لكنها لا تريد التصديق ... قلبها بات يساوره الشك ..والانقباض اصبحت تلازمها ما ان تسمع صوت نعيها المخيف ... فهو بالفعل قد اطال الغياب ... لقد قال بانه سيغيب ليومين او ثلاث فقط ... لكنها كانت تصبر نفسها هامسه بأنه سيعود وكل شيء سيكون على مايرام

تنهدت بعمق و وضعت القدح على المنضدة .... ثم أمسكت كفها المجعد وهي تقول هامسة بلطف
- يكفي خالتي .... اذكري الله واطمئني ...سيعود سالماً ان شاء الله

هزت الأخيرة رأسها وهي ترفع عينان متعبتان حمراويتان من كثرة الدموع واسهر ..لتجيبها بإصرار مثير للغيض والذعر بأن واحد
- لا ...انت لا تفهمين ...لا تفهمين ...لقد ..لقد حلمت بها ...جاءت لتسرق مني ولدي !!
ابتلعت ريقها ثم سألتها باهتمام والقلق بدأ يزحف لداخلها أكثر وأكثر
- من تقصدين خالتي ؟! من هي التي زارتك في الحلم !!!!
أخذت تميل رأسها يميناً ويساراً وهي تقول بنحيب موجع ومخيف
- من غيرها وجه البومة حماتي !!!
لتكمل بجدية وثقة ودموعها لم تهدا عن الهطول بغزارة
- لم تكن تحبني ابداً عندما كانت على قيد الحياة .... وعندما توفيت ظننت بأني قد تخلصت منها أخيرا ..الا أنها لم تتركني أيضا ...أول مرة زارتني بذلك الحلم المشئوم سحبت زوجي الحبيب وفي المرة الثانية سُرق من المنزل مبلغا ضخما جداً جداً ...وفي المرة الثالثة ....اه ..لا أريد ان أتذكر ...لا اريدددددددد

قضمت رضاب شفتها بخوف وترقرقت الدموع بعينها هي الاخرى ... وظلت صامته تنظر لخالتها بعجر وقلة حيلة ... رباه الى من تلتجئ ...ومن تسأل عليه !!
حتى عم معاذ ارسل بعض الرجال للتقصي عن اخبارهم .... يارب ارجعه لي ولها سالما يارب العالمين ....
همست هدى وهي تمسح وجنتيها

- رضاب يا ابنتي ... انا اريد ان اطلب منك معروفاً

اجابت رضاب بصوت مرتجف

- اطلبي ما تشائين خالتي ..

قالت هدى بصدق وهي تنظر لرضاب من بين دموعها المترقرقة ... فهي بالفعل نادمة على كل ما اقترفته بحق هذه الفتاة المكسورة ..اجل كانت رضاب مكسورة الجناح وكأنها طفلة يتيمة ... تناشد الدفئ والحنان منها تماما كملك التي وجدت دفئها وحنانها الذي حرمت منه متجسداً بهيئة رضاب التي بعثها الله لها ... كما انها اكتشفت مدى طيبة ومعدن رضاب النقي الذي يشبه بنقائه النبع الصافي الخالي من الشوائب ... لقد اكتشفت هذا الامر ليس البارحة او اليوم ...بل منذ وقت طويل ..لكنها هي من كانت تغالط نفسها ...وتخنق مشاعرها المتعاطفة التي اخذت تتولد داخلها ...كانت تكذب وتوهم نفسها بأن رضاب ماهي الا سارقة وخاطفة ... لكن الحقيقة التي كانت تتجاهلها هي حقيقة مخالفة تماما ..وصار لابد لها من الاعتراف بذلك ...

- اريدك ان تسامحيني ...
نظرت لها رضاب بصدمة وعدم فهم لتردف هدى قائلة
- اجل يا ابنتي سامحيني على معاملتي الجافة لك .... لكن اتعرفين يا رضاب ...رغم كرهي لوجودك في منزلي ومعارضتي لمعاذ الزواج منك ...الا اني لم أكرهك ابدا ... اقسم بالله لم أكرهك قط ....خاصة بعد ان اقتربت منك ولمست مدى طيبتك وصدقك .... لقد صدق ولدي حين قال بأنك طيبة ونقية القلب .... انا فقط كنت اغار ..اغار من حب ولدي وحفيدتي ليس هذا وحسب بل بت اغار حتى من حب الأقارب والجيران لك .... كنت اشعر بأنك ستسرقينهم مني ..وهذا الأمر كان يسبب لي الذعر و البغض ..والغيرة ...... لكنني اكتشفت خطئي .... ارجوك يا رضاب ابرئي لي الذمة اشعر بان نهايتي باتت قريبة ....

اجابت رضاب بتأثر وصدق ... وقد التمعت عيناها بدموع السعادة .... رغم انها ترى بأن الخالة هدى لم تفعل لها امراً جللاً يتطلب السماح منها بهذه الطريقة ... فهي بالفعل كانت ومنذ وصولها الى البصرة تحب والدة معاذ وتعتبرها كخالتها سعاد بالضبط

- انت لم تفعلي شيئا سيئا معي خالتي لكي اسامحك ..بالعكس انا التي يجب ان اشكرك على موافقتك وسماحك لي لأكون جزءا من عائلتك التي لم احلم يوما بامتلاك عائلة مثلها ابدا بحياتي ....


ابتسمت هدى بالم ثم قالت

- لقد سمعت ما قالته لك اسراء .... كنت انتظر ردك عليها ..كنت انتظر ان تنعتيني بالظالمة القاسية ...لكنك عوضا عن هذا لم تتحدثي عني ولم تذكريني بالسوء ابدا ..انت طيبة جدا ..وسيكافئك الله على طيبتك وبياض نيتك هذه ....ان عاد معاذ بالسلامة اخبريه باني راضيه عنكما ..وادعي لكما بالحياة السعيدة والذرية الصالحة ....

اجابتها رضاب بأبتسامة صغيرة

- ان شاءلله سياتي وتخبريه كل ما تريده بنفسك خالتي

اراحت ظهرها على الوسائد وهي تهمس بتعب

- ان شاءلله تعالى ....

مسحت هدى دموعها التي انهمرت من جديد ثم سحبت نفسا طويلا وثقيلا لتردف قائلة

- هناك صندوق خشبي في الدولاب الأخير اذهب واحضريه لي من فضلك

أومأت رضاب ثم هبت واقفه لتفعل ما طلبته هدى منها ...اخرجت صندوقا خشبيا مزخرفا بشكل جميل كان يبدو اثريا وقديماً ...عادت لخالتها ووضعته امامها قائلة
- تفضلي خالتي

فتحت هدى الصندوق وأخرجت منه قماش قطني ابيض ...ثم اغلقته ووضعته جانبا ..لتبدأ بعدها بفتح القماش على مهل ...اخرجت منه ثلاث اساور من الذهب منقوشة بطريقة رائعة وجميلة جدا ...مع خاتم فضي قمته تشبه ورقة العنب.... حفرت في وسطه بعض الرموز ... همست قائلة وهي تمسد على الاساور والخاتم برقة وصوت عصفت به الذكريات

- هذه المصوغات هي لأمي رحمها الله ..كانت تمتلك ستة أساور من الذهب مع خاتم وحلق فضيان ... وزعتها علي وعلى شقيقتي بالتساوي قبل وفاتها بعدة اشهر ....
لتكمل وهي تمسك الخاتم بين اناملها المرتجفة .. رافعه نظراتها الدامعة لوجه رضاب الذي ظهر عليه التأثر

- هذا الخاتم كان عزيزاً وقيما جدا على قلبها ..كانت تقول دائما بأنه كالتميمة بالضبط تحمي من الحسد والنفوس الحاقدة .... كما انها تجلب الحظ السعيد لحاملها ..اعرف ان ما قالته امي هي مجرد خرافات تناقلتها الأجيال وهي لاصحة لها ابدا ..لكنني لم ارد كسر قلبها وإحزانها وهي في لحظاتها الاخيرة لذلك أقسمت لها على ان احتفظ به وأعطيتها وعدي الذي طلبته مني بأن اعطية لزوجة ابني البكري ان شاءلله ...
امتدت يدها لتمسك يد رضاب قائلة بصوت غلبت عليه العاطفة

- خذيه يا رضاب ..الان اصبحت هذه المصوغات من حقك انت ...احتفظي بها وأعطيها لحفيدي ان شاءلله ....

اخذت رضاب المصوغات بحذر ..وقد امتلأت عيناها بالدموع لتهمس قائلة بتأثر ومشاعر شتى اخذت تتولد داخلها ...سعادة وحزن بنفس الوقت ...سعادة بسبب التغير الكلي الذي طرأ على معاملة خالتها هدى ..وحزن بسبب تلك النبرة المريرة والتي كانت تفتقد الامل وروح الحياة ..بدت وكأنها تودعها لا محالة


- سأحتفظ بها بقلبي يا خالتي ... وستكون اغلى هدية لدي ..ثقي بذلك

هزت هدى رأسها وتنهدت براحة وهي تسحب الملاءة الى صدرها قائلة بتعب

- كلي ثقه بانك ستفعلين ذلك يا رضاب ....

لتردف وهي تستعد للنوم


- والان اتركيني لانام قليلا ..اشعر بالتعب الشديد ...


وقفت رضاب وهي تقول بحنان

- حاولي ان تشربي القليل من الشراب خالتي ... وان احتجت لشيء نادي علي انا سأكون في الصالة مع ملك

انحنت وقبلت يدها قبل ان تخرج من الغرفة بهدوء .... توجهت الى الصالة حيث ملك تجلس بين العابها تلعب بها تارة ...وتارة تشارك اناشيد الاطفال التي كانت تعرض في التلفاز على محطة خاصة بالاطفال

اقتربت منها قائلة وهي تلتقط جهاز التحكم لتخفض الصوت قليلا
- لا ترفعي الصوت صغيرتي جدتك نائمة
هزت ملك رأسها وعادت لتلعب بالعابها مرة اخرى ... انسدلت رضاب على الاريكة بتعب
الساعة كانت تشير الى التاسعة مساءا .... لايزال الوقت مبكرا للنوم ... ارحت رأسها على طرف الاريكة الاسفنجيه وهي تركز نظراتها على ملك ... بينما عقلها وتفكيرها مشتتان مابين خالتها هدى التي اصبحت صحتها في تراجع خاصة في اليوميين الاخيرين ...وبين معاذ .. زوجها وحبيبها ...اين هو الان !! وكيف حالة ... رغم خوفها وقلقها عليه الا ان هناك صوت خافت يخبرها ويطمئنها بأنه بخير وبصحة جيدة ...وانه سيعود حتما بأذن الله ....
ربااه كم اشتاقت له ولحنانه ولدفئ ذراعيه ... لقد غابت السعادة من المنزل بغيابه ... المكان بات موحشا ومظلما وهو ليس به .... حتى غرفتها اصبحت باردة وباهته ...هي حتى اصبحت تنام في الصالة منذ اليوم الثاني لرحيلة ... كل ما تفعله هو الدعاء له ليلا ونهارا ..كما انها اصبحت لاتنام الا على رائحة قميصه المشبع بعطره .....حيث كانت تضعه جانب رأسها باستمرار ...

بعد مرور بعض الوقت لا تعرف كيف غلبها النوم لعدة دقائق لتغلق جفنيها بتثاقل .... شعرت فجأة بلمسات ملك وهي تقول لها بذعر وخوف

- ماما ..انهضي ..جدتي نائمة امام باب الحمام ولا تريد الاستيقاظ !!!!

.......................


نهاية الفصل

رماد الغسقحيث تعيش القصص. اكتشف الآن