22

243 13 0
                                    


الفصل الثاني والعشرون
...................
دعيني أنادي عليك، بكل حروف النداء
لعلي إذا ما تغرغرت باسمك، من شفتي تولدين
دعيني أؤسس دولة عشقٍ
تكونين أنت المليكة فيها
وأصبح فيها أنا أعظم العاشقين
....................
صوت الزغاريد كانت تصدح في ارجاء المنزل ومنذ الصباح الباكر ... تذكرت سعاد ماجرى ليلة امس عندما دلف الى غرفتها بلهفة ليخبرها بشأن موافقة غسق .... لأول مرة ترى ولدها سعيد بهذا الشكل ..كانت عيناه تلتمع ببريق يخطف الانفاس ... ارادت في حينها ان تزغرد وتوقض كل من في المنزل ليشاركوها سعادتها المنتظرة ...الا ان وليد هدئها وطلب منها الانتظار صباحاً ... لم تصدق فعلا ... لم تكن لتصدق انها اخيراً سترى زفاف ابنها البكري قبل موتها ... لولا علامات الحرج الرجولية المرتسمة على وجهه الاسمر لقالت انه يمزح معها .....
تلك السعادة التي التفت حول المنزل لم تزرهم منذ زمن طويل جداً ....حتى عندما تزوج زهير لم تشعر بهذا القدر الكبير من السعادة والحماس .....
اما سعدية فقد كانت تحتضن وليد تارة وغسق تارة اخرى تبكي بتأثر ...
كان يقف في وسط الصالة يتلقى التهاني الحارة من تبارك والدته حبيبة وزهير بينما عيناه تبحث عن عينيها ...كانت تبتسم بخجل ...تجلس بأقصى الصالة ....تتحاشى النظر ناحيته ...رباه كانت تبدو وكأنها زهرة ندية منعشة ونظرة ....
موافقتها التي سمعها بأذنه البارحة قبل ان تتبخر بثانية واحدة وتدلف الى الداخل جعلت الربيع يزحف لخريف حياته ... والروح تدب بجسده الميت ...اجل كان جسداً بلا روح الى ان نطقتها ... أمن الممكن ان حلمه البعيد سيتحقق بعد عناء طووووويل ! وقف بمالايقل عن الربع ساعة يحدق بأثرها شارداً ...متجمداً ....بينما نبضاته كانت تخفق ببطء شديد لتتحول الى دوي صاخب داخل صدره !
لا لن يصبر اكثر ليحضى بها ....يجب ان يعقد القران عليها وفي القريب العاجل ..هو لن يستطيع الصمود دون ان يحتضنها بذراعيه ويتذوق شفتيها الشهيتين !!
اجلى حنجرته ثم قال بصوت هادئ وعميق وهو لايزال ينظر لوجهها المحمر خجلا
- عمتي ....افكر في ان نعقد القرآن في الخميس المقبل اي بعد اربعة ايام ... مارأيك ؟!
التفت سعدية تنظر لأبنتها التي اطرقت رأسها وهبت واقفه لتفر من امامهم بسرعة لتجيبه بسعادة
- وانا لا مانع لدي ان كانت غسق موافقة
اومأ مبتسماً براحة
- اسأليها عمتي لأبدأ بأجراء ما يلزم بسرعة!
................................
............................................
لندن
................
خرج من بوابة المشفى بينما تسير جانبه شابه في مقتبل العمر ترتدي ملابس ضيقة جداً ...ابتسامة واسعة وماجنه كانت تشق وجهه الكريه ..يبدو عليه الراحة والسعادة ....وكأنه لم يفعل شيئاً ... في الأيام الماضية بل منذ سفر رضاب وحتى قبلها كان مختفياً ... الحقير يبدو وكأنه كان ينتظر ان تهدء الامور ليعود الى عمله مرة اخرى ...لا والأدهى من ذلك انه انتقل لمشفى اخر لكي يحلو له العبث براحة ...
لقد عرفت مكان عمله الجديد بصعوبة فهي اوهمت حارس البناية بأنها زبونبة وتريد ان تجري عملية جراحية لديه ....وبعد بحث دام لمدة يومين وجدت مكانه ... يعيش حياته سعيداً وهي مشردة ومحطمة والأتعس حااااامل بطفل منه .... طفل بائس يذكرها بخطيئتها الدنيئة المخجلة بكل ثانية تمر عليها !
لقد نسيت حتى ذكر ابنتيها ...نسيت رضاب وما فعلته بها ...فمهما يكن رضاب ذهبت لمكان ستعيش فيه معززة مكرمة ... متأكدة من ان سعاد ستغدق حنانها عليها ... ووليد ايضاً سيعاملها كشقيقته ...لطالما ورثو ابناء شقيقتها الحنان والطيبة من والدتهم .... هي مطمئنة على ابنتاها .. انهما بمكان آمن ... ليس مثلها ... تائهة ...ضائعة تجوب الشوارع وتنام في الانفاق المظلمة بعد ان نفذ مالها ... لقد فقدت كل ذرة لها للتعقل ..لا هم لها ولايشغل بالها الا شيئ واحد ...الا وهو الانتقام منه !!

فتحت حقيبتها تتأكد من وجود ذلك السكين الذي سرقته اثناء اكلها بأحد الأكشاك المنتشرة في الشارع ... كان سكيناً كبيراً وحاداً استخدمة البائع لتقطيع اللحم ...سيكون منظره رائعاً وهي تغرسه في صدره .... ان لم تستطع العودة الى الوطن والبدأ من جديد اذن فلتتخلص منه وتشفي غليلها ..
في الايام الماضية كانت تخطط وتفكر بكيفيه قتله ...ارادت الذهاب لشقته الا انه انتقل منها ايضاً ... الوغد اخذ جميع احتياطاته .... لكنها لن تتركه ..فلتحل عليها اللعنة ...اضعاف مضاعفة ان تركته يهنئ بحياته دون ان يدفع ثمن ما فعله بها !
ما ان ابتعد عن بوابه المشفى عدة امتار قليلة حتى اندفعت بقوة لا تعرف كيف ومن اين جائت بها ولا كيف نزلت عليها فجأة ... لتغرس السكين بكتفه لكنه استطاع ان يلتوي ويمسك معصمها بقوة رغم غزارة الدماء الا انه كان قوي ...الوغد الحقير كان قوي جداً ..وتلك الفتاة الغانية ملأت الشارع بصوت صرخاتها الهستيريه وهي تطلب النجدة ... ليسارع رجال الامن الخاص بالمشفى بأمساكها من ذراعيها وهم يهتفون بلغة انكليزية باردة بأن تهدء وترمي السكين من يدها الا انها كانت مشغولة بالنظر اليه وهي تقول بتشفي
- تستحق ..تستحق تلك الطعنه ياليتك تموت ..تموت ...
ليصرخ همام بالمقابل وهو يضغط على جرحة الذي مما يبدو انه سطحي ولم يؤثر به
- مجنونة ...مجنونة ..هذه المرأة مجنونة ...خذوها الى مشفى المجانين ...وجودها في الشارع خطر ...خذوها بسرعة
بالفعل قيدو معصميها ثم اقتادوها الى غرفة الحرس .... جلست بهدوء غير انها كانت تبتسم بسعادة ... ربما ما تشعر به الان هو خليط بين السعادة وخيبة الأمل .... السعادة لانها اصابته فعلا ... وخيبة الأمل لأنه لم يمت .... ذلك الوغد لم يمت ...متشبث بالحياة ... لكن لابأس ستحاول مرة اخرى ... واخرى واخرى ... الى ان تنجح . ...
...................
..............................
البصرة مساءاً
............
كانت تجلس تنتظر ولدها بترقب وتصميم ... صحيح هي سعيدة بل تكاد تطير سعادة برجوع حفيدتها الغالية الا انها لم تعد كما كانت ...لقد تغيرت كثيراً ... دائمة البكاء والتذمر على اقل كلمة تقولها ... لاتأكل الطعام الا بعد ان تتوسلها وتتعبها بالجري ورائها ... والادهى من ذلك هو صراخها المستمر الذي يرج اركان المنزل وهي تصرخ بقوة اريد امي ... اريد امي .. لقد اخبرها ولدها بأمر تلك المرأة المدعوة رضاب وهي بالفعل شاكره لها اهتمامها بحفيدتها ...الا ان مايحصل الان اصبح لايطاق فعلا ....ويحتاج الى حل سريع و فوري

دلف معاذ مساءاً الى المنزل لتستقبله والدته قائلة بتعب وهي تجلس في الصالة ترتدي اسدال الصلاة .. مسبحتها الطويلة تستريح بين اناملها
- جد حلا لهذه المشكلة التي نحن فيها يا معاذ !!
اقترب منها وجلس جانبها قائلا بتعجب
- اولاً السلام عليكم .... ثانيا ماهي هذه المشكله امي ؟!
تنهدت بضيق وقالت
- وعليكم السلام يا معاذ ..اعذرني يا ولدي لقد افقدتني تلك الصغيرة صوابي !
قطب يجيبها بهدوء
- ومابها ملك ؟!
لوت شفتها بأستياء وهي تقول
- طوال النهار ... تبكي وتنادي رضاب ... بكل دقيقة تمر وكأنها منبه ساعة ! لقد اتعبتني يا معاذ ولا اجد السبيل لتهدئتها ...
تنهد قائلا بهدوء وهو يرجع ظهره على الاريكة الأسفنجية
- غداً ان شاءلله سأسجلها في رياض الاطفال ..يومين وستنسى انا متأكد !
اجابت بأصرار وصرامة
- افعل ذلك بسرعة يا ولدي ... انا صحتي لا تسمح لي بالجري والركض ورائها من غرفة لأخرى ...
اومأ وهو يهم بالرد عليها لكن صوتها الطفولي قاطعه حين هتفت بعفوية وبنبرة طفولية
- عمو موعاااااااااذ
ابتسم لها بسرعة وقد لانت ملامحه في حين فتح ذراعيه يحثها على التقدم فما كان منها سوى الأندفاع الى احضانه وهي تحمل دبها بيد واليد الاخرى تحتضن رقبته ليقبل خدها قائلا بحنان
- اهلا صغيرتي ...لماذا لازلت مستيقضة للأن !
بينما هتفت والدته قائلة بعتاب
- لقد تركت نائمة ياملك !!! أكنت تضحكين علي !!!
هزت رأسها نفياً وهي تنظر لها بأبتسامة طفولية اخفتها تحت يدها الصغيرة بمكر ذوبت قلب معاذ معها ...هبت واقفه وهي تقول
- هيا تعالي معي لكي تنامي الوقت اصبح متأخراً
هتفت بأستياء وهي تنكمش بأحضان معاذ
- لاااااااااااااا اريد البقاء مع عميييييييي
ليجيب معاذ وهو ينظر لوالدته قائلا
- لابأس امي ..اتركيها اليوم ... ملك ستنام بغرفتي !
همست والدته مقطبة
- لكن يا ولدي اخشى ان تتعود على النوم معك كل يوم !
ابتسم هامساً
- لا ان شاءلله لن تتعود اذهبِ وارتاحي وانا سأهتم بها
همت بالمغادرة الا انها توقفت وقالت بحنان
- هل احضر لك العشاء يا ولدي ؟!
اجابها وهو مشغول بالنظر لتلك الطفلة الشهية وهي تبتسم له بدلال
- اكلت في المكتب امي ..تصبحين على خير
اومأت وهي تلوي شفتها ثم تركتهم هامسة بكلمات مستاءة ...كانت ملك تضحك بخفوت لينظر لها معاذ قائلا بمرح
- انت سعيدة ومستمتعة بما تفعليه اليس كذلك ؟!
اومأت بسرعة ونشاط ليهب معاذ واقفاً وهو يحتضنها
- والان تعالي لأفكر و أؤلف لك قصة خرافية لم تسمعي مثلها من قبل ابداً
لكنها قالت بنبرة طفولية جادة ادهشته وجعلته يرفع حاجبيه بسرعة
- عمو مواذ متى نذهب لرؤية امي !
ابتسم ثم اطلق تنهيدة طويلة وهو يفكر ويعترف بأن الفضول بدأ يتأكله ليرى تلك الرضاب التي سحرت ابنة شقيقه لهذه الدرجة ...ترى كيف تكون ...ربما هي أمرأة عجوزة كبيرة في السن !!! او ربما هي عانس في الاربعينيات من عمرها وجدت بملك ما يعوض امومتها المفقودة .... هتفت ملك بتذمر مرة اخرى
- عموووووو معاااااااااذ ...
ارتقى الدرجات بخفة وهو يقول
- سنذهب ..سنذهب ..لكن ليس الان !
اجابت بتذمر وهي تتسلل من ذراعيه لتتجه ناحية سرير عمها لتجلس عليه وقد بدت ملامحها عابسة ... وكأنها على وشك البكاء
- متتتتتتتتتتى اذن انت وعدتني
هدئها مسرعاً وهو يبدأ بحل ازرار قميصة القطني
- اجل ..اجل ... وانا لازلت على وعدي ... سأخذك ..حبيبتي فقط اصبري قليلا فعمك لديك اعمال كثيرة سأنهيها بسرعة ونذهب ...في نهاية الاسبوع ..مارأيك ؟!
اومأت صامته وهي تنظر له بعينان تلتمعان بالدموع
.........................
...............................
المشفى ... بغداد
.............
رفع يده الواهنة ليلمس جانب وجهه تحديداً ذلك الجزء المغطى ابتداءاً من عينه الذي يبدو انها فقعت انتهاءاً لأسفل وجنته المغطاة بالشاش الخاص للحروق ...ليدرك بأنه اصبح مشوهاً ...مشوهاً بصورة بشعة ..ليس مشوهاً فحسب بل ومعاق ايضاً !!!!
ابتلع ريقه وهو يتذكر بتشوش ما حدث في شارع المتنبي عندما ذهب لزيارة صديقه الذي يفتح هناك كشك صغير لبيع الكتب .... فهو بعد ان اتم شراء الأجهزة الطبية التي يحتاجها لعيادته ...فكر بأن يمر على صديقه القديم الذي عرفه منذ ايام الاعدادية .... قبل ان يعاود السفر الى اربيل ....
كان الجو دافئاً ...الشمس ساطعة في تلك الساعة من النهار ...حيث توسطت كبد السماء ... المثقفين والمهتمين بالكتب والروايات كانو يتجولون في اروقة الشارع الطويل .... ذلك الشارع الذي يعبق براحة الماضي المختلط بنسمات الحاضر ....
لم يكد يدلف الى الشارع الا وسمع صوت دوي قوي ...كانت كأنها ريح سوداء حارة هبت لتقتلع تلك الارواح البشرية .... في بادئ الأمر لم يعرف انه انفجار سيارة مفخخة استهدفت هذا الوقت بالذات حيث الأزدحام وصل لذروته .... اتكأ على الحائط ليستطيع السيطرة على ذلك الدوار القوي الذي داهمة بسبب ذلك الدوي القوي المرعب الذي زلزل جسده وجعل حاسة السمع تختفي من حوله لثوانٍ .... وما ان استعاد وعيه قليلا حتى هاله المنظر الممتد امامه .... تذكر فجأة تلك المقولة التي طالما سمعها عن احتلال هولاكو للعراق حينما اصبح لون النهر ازرقاً من الحبر الذي كتبت به الكتب والمخطوطات التي رماها الغزاة في نهر دجلة بوحشية وهمجية ...الان حصل نفس الشيء ..الشارع اصبح عبارة عن نهر من الدماء اختلطت مع اوراق الكتب المتناثرة هنا وهناك بينما اجساد العراقيين المحترقة والنازفة ... كانت متكومة بشكل يدعو الى البكاء والنحيب دون شعور وارادة !
فاجعة ...فاجعة بكل ماتحمله الكلمة من معنى .... مالذنب الذي ارتكبوه ؟! ماذا يوجد في شارع المتنبي ليجعله مستهدفاً بسيارة مفخخة !!!!! مالذي اقترفه هولاء الرجال والشباب البسطاء ليلقو هذا المصير المؤلم ... المتوحش !!!!
كلهم من اصحاب الاكشاك الصغيرة وبعضهم ممن افترش الارض بقطعٍ من القماش ليرص عليها كتبه .. راسمين بمخيلتهم مستقبلا زاهراً ... يحملون على ظهورهم مسوؤلية عوائلهم واطفالهم !!! رائحة الدماء المختلطة برائحة الموت كانت تلف المكان لدرجة خانقة .... كريهة ... ومرعبة ...

انتبه الى ان المسعفين وبعض الرجال الذين تجمهرو حول المكان بدأو بحمل جثث الضحايا والمصابين الى سيارات النقل الكبيرة فسيارت الاسعاف لم تكن كافيه لنقل هذا الكم الهائل من الجرحى والمصابين .... وبينما هو يمد يد العون لهم لم يشعر بل لم يتوقع اي احد منهم ان تنفجر سيارة اخرى كانت اقوى واعنف من سابقتها .....عندها لم يدرك مالذي حصل ولم يستيقظ من كابوسه البشع الا الان ... في هذه اللحظة !!!!
همس بصوت واهن وتعب قبل ان يغمض عينه من جديد
- ر..ونق ...تبا ...رك
........................
.....................................
اربيل
..............
كانت تجلس بجانب تبارك وهي تمسك ذراعها بخوف وارتباك ... تغرس اظافرها بباطن كفها بقوة ... تنظر لتلك السكرتيرة الصارمة بملامحها وتسريحة شعرها .. همست بخفوت
- لماذا نحن هنا ؟!
اليومين السابقين كان المنزل بحالة فوضى ..لكن فوضى مشوبه بالسعادة والحماس ... فالكل كان سعيداً من اجل وليد وغسق ... يعملون على قدم وساق لكي ينهو الاجراءات اللازمة لعقد القران المستعجل الذي حدده وليد والذي استقبلته غسق بطاعة واستسلام اثار استغراب الجميع .. انتهزت اليوم الفرصة وحجزت لرضاب عند طبيبة نفسية كانت قد نصحتها صديقتها التي تعمل معها في المصرف بزيارتها ... عندما ذهبت لزيارتها في بادئ الامر قصت عليها كل ماجرى لرضاب ... أمرت الطبيبة بأحضارها للعيادة .... فهي لاتستطيع ان تحدد حالتها وتصف لها العلاج دون ان تراها وتتكلم معها ....استطاعت بصعوبة اقناع رضاب بالمجيء معها وقد وافقت بعد ان أكدت لها بأنها ستأخذها لمكان يساعدها لتصبح افضل حالا ... وكلما اصبحت افضل زادت فرصة عودة ملك اليها ....
اجابت تبارك مطمئنة وهي تنظر لرضاب
- لا تخافي رضاب ..انها طبيبة نفسية ...و...
قاطعتها رضاب بنبرة بكاء مرتجفة
- طبيبة نفسية !!! لماذا ! هل ..هل ...انا مجنونة ؟!
هزت تبارك رأسها مؤكدة
- كلا طبعاً مالذي تقوليه يا رضاب !
لتهمس بضياع وتشتت وهي لاتزال تنظر للسكرتيرة المشغولة بقراءة عدة اوراق امامها
- اذن لماذا نحن هنا!!!!
تنهدت تبارك بصبر وقالت
- حبيبتي ... اولا يجب ان تعرفي ان الاطباء النفسين لا يعالجون المجانين فقط !! بل يقدمون العلاج للمرضى ..وانت ياحبيبتي تعانين من ...اممممم ...فلنقل ..انك تعانين من وعكة نفسية طفيفة وهي ستجد العلاج الملائم لك ! هيا رضاب من اجل خاطر ملك تحملي !!
اومأت رضاب بطاعة مثيرة للشفقة بينما اخذت تبارك تربت على يدها مطمئنة ....بعد مرور عدة دقائق قالت السكرتيرة بهدوء
- تفضلا الطبيبة بأنتظاركم
دلفا الى الداخل بينما رضاب ملتصقه بتبارك كالطفلة تماما ... لتستقبلهم الطبيبة الأربعينية .. كانت تمتلك بشرة بيضاء وجمال ممزوج بالوقار .... شعرها الاسود تخلله شعيرات فضية قليلة زادتها احتراماً ... وبأبتسامة بشوشة قالت وهي تنقل نظراتها الدافئة لرضاب وتبارك
- اهلا وسهلا ...تفضلا بالجلوس
جلسا على الكرسيين المجاوريين للمكتب بينما تبارك تبتسم لرضاب بتشجيع
- الحقيقة دكتورة ... لقد اتينا في الموعد الذي حددتيه لنا
اجابت الطبيبة بتفهم
- حسناً انسة تبارك ... يمكنك الانتظار في الخارج ..يجب ان اتحدث مع السيدة رضاب على انفراد
ما ان نطقت الطبيبة بهذا الكلام حتى نظرت رضاب لتبارك برعب حقيقي لتسارع تبارك بالقول
- لا تقلقي رضاب سأنتظرك خارجاً عند السكرتيرة ...ولو احتجتني فقط نادي علي وانا سأدخل فوراً !!!
كانت الطبيبة متفهمة جداً لردات فعل رضاب بل كانت تتوقعها ايضاً لتقول بهدوء
- لاتقلقي سيدة رضاب نحن سنتكلم بضع كلمات فقط صدقيني !
اومأت رضاب وهي تتلاعب بحزام حقيبتها بتوتر وحدة بينما تراقب وقوف تبارك وخروجها من الغرفة .... قالت الطبيبة بهدوء
- والان سيدة رضاب مارأيك ان تشربي شيئاً قبل ان نتحدث !
هزت رضاب رأسها وقالت بارتباك
- شكراً لا اريد شيئا
تنهدت الطبيبة وهبت واقفه وهي تقول
- اذن تعالي واجلسي هنا لكي ترتاحي وتهدئي قليلا
حدقت رضاب لعدة دقائق بتلك الاريكة البيضاء التي شابهت السرير لتضع حقيبتها على سطح المكتب ثم تتوجه بخطوات مهتزة ومترددة لتجلس عليه ثم ما لبثت ان تمددت بتشجنج وارتباك .. جلست الطبيبة على كرسي مقابل لها وقالت
- كيف حالك رضاب ! سأناديك رضاب اشعر ان كلمة سيدة تجعلك كبيرة السن وانت ماشاءلله لازلت شابه في مقتبل العمر
التفتت تهز رأسها ايجاباً ثم قالت بتعلثم
- أأ..نا ..بخير ..
اومأت الطبية واخذت تحدثها عن امور اعتيادية ... كانت رضاب مشغولة بالنظر والتحديق بسقف الغرفة المزين بمرايا انكسارية ...كانت مستغرقة بالتفكير لدرجة ان اجفانها لم ترمش ابداً ... من بين الكلام الذي كانت تقوله الطبيبة لفتت انتباهها عندما قالت
- لكل انسان ماضٍ يحاول ان ينساه او يتحاشى التطرق له لكن الحقيقة التي لايدركها هو انه يجب عليه ان يشارك احداً ما بذلك الماضي ....كأن يحكي لأخت ....صديقة ...او .. الزوج او الوالدة
قطبت رضاب وقالت بهياج وهي تعاود التشنج من جديد
- لالالا ... الوالدة والزوج لا ...لا ... افهمت الزوج والوالدة لا ..لا !
هدئتها الطبية بسرعة وقالت
- حسناً الزوج والوالدة لا ...اهدئي عزيزتي واكملي لمن تريدين التكلم اذن !
اجابت رضاب وهي لاتزال تحدق بالسقف الغريب الذي ترى مثله لاول مرة في حياتها
- لا احد ... لا..احد ... هناك ... امور ..لايجب ذكرها ...مكانها سيظل مدفوناً في قلوبنا ..مغروساً به ...مغروس بشكل عميق ومؤلم .... وكأنها طعنه سكين حاد يصعب اقتلاعه
قالت الطبيبة بهدوء
- لكننا كما قلت لك نحتاج في بعض الاحيان لأن نتكلم لكي نرتاح !
همست وعيناها تدمعان
- ليس كل ما يصادفنا في حياتنا ينفع بأن نقوله ونعلنه على الملأ ... صدقيني ..هناك امور صعب جداً ان نفضي بها !!!
تكلمت معها الطبيبة متجاهلة ذكر زوجها ووالدتها ... سألتها عن طفولتها عن والدها وعن حبيبة ....عندما ذكرت اسم حبيبة ..التفتت لها رضاب قائلة بحزن
- انا ..انا ...احب شقيقتي جداً ..لكني ..كنت ...كنت ..احسدها
ابتلعت ريقها واكملت
- ا..جل ..لاتستغربي ذلك
اجابت الطبيبة بأبتسامة صغيرة وهي تحثها قائلة
- لست مستغربه يا رضاب ...اكملي لماذا كنت تحسديها
تنهدت رضاب وهي تشبك اصابعها على بطنها هامسة
- كنت ..احسدها ...لانها ..حرة ...اجل ..حبيبة كانت حرة ...حرة ...امي لم تكن تحاسبها كما تحاسبني انا ... لم تكن تجبرها على ارتداء ملابس لاتحبها ...ولا تطلب منها الذهاب الى ..الى ... تلك الحفلات ال... ال ... القبيحة ... المملة .. ولا لقاء صديقاتها اللاتي كن يرمقنني بفضول ... ..و...و...و.. لم ..لم ..تجبرها على ... الزواج من .. شخص لا تحبه ....وايضاً لم ... لم ..
ادارت وجها للطبيبة مرة اخرى وقالت بتشوش
- لذلك السبب .. قمت ..قمت ...بتحريره دون علم حبيبة !
قطبت الطبيبة وقالت
- من الذي قمت بتحريره ؟!
لتجيبها وهي تتبتلع ريقها
- العصفور الصغير ...انا ..انا ...فتحت له باب القفص الحديدي لكي يطير ... اقسم بأني لم اقصد ان احزنها لكني ..لكني ..ش..شعرت ..ان هذا العصفور يشبهني ....محبوس في قفص حديدي ..مكبل ..و..و...حزين ...لقد نظر لي ... اجل ...اجل ..نظر لي ... وطلب المساعدة مني بعينان دامعتان ...صدقيني ... صدقيني انا ...لا اكذب عليك
اجابتها الطبيبة بهدوء
- وهل اخبرتي حبيبة بذلك !
همست بنبرة خجلة
- لا ...لم استطيع ...
- لماذ ؟!
- لانها ..كانت تبكي بقوة ...تنادي عليه وتبحث في ارجاء المنزل ...ك..كالمجنونة ...وانا ...انا ...خفت ان اخبرها فتكرهني .... تماما كما كرهتني هي ...
- من هي التي كرهتك يا رضاب ؟!
نظرت لها رضاب بعينان غارقتان بالدموع
- هي ... هي ... الشيطانة
رددت الطبيبة بتسائل
- الشيطانة !!!!!!!
اومأت رضاب وعيناها متسعة بينما دموعها تهبط على وجنتيها الساخنة بغزارة
- اجل ..اجل ..لا تذكري اسمها ...هي سارقة ..سارقة وخائنة .... سرقت ..سرقت ..
حثتها الطبيبة بصبر وتروي
- ماذا سرقت منك !!!!
همست بشفتين بيضاويتين ووجه شاحب للغاية
- سرقت ..كل شيء...كل شيء ....
ثم دفنت وجهها بيديها واخذت تشهق بعنف وقوة لتنهض الطبيبة ثم تقدمت ناحيتها وهي تمسك منديلا ورقياً لتهدئها بحنان ... بينما داخلها ايقنت ان هذه الشابة تعرضت لصدمة قوية سببه لها على الاغلب زوجها ووالدتها ...وان هذا اللقاء لن يكون الاخير بينهما حتماً
- اهدئي يا ابنتي ...اهدئي ... انتهت جلسة اليوم !
..........................
...........................
- زهير ... والدتي مريضة .... سأضطر لأن اذهب اليها وابقى معها ... وهذا يعني بأني لن استطيع ان اتي إلى الحفلة !
كان يجلس على الأريكة بأريحيه يقلب القنوات الفضائية بيد واليد الاخرى يأكل بها المكسرات لتكمل بتسائل مستفز بينما داخلها شعرت بالضيق والانزعاج لعدم اظهاره اي ردة فعل حول ما قالته .... اعتقدت بأنه سيثور او ربما سيطلب منها عدم الذهاب ...
- ماذا !!! الن تعارض وتنزعج من عدم حضوري غداً !!!
هز كتفه بلامبالاة واجابها وهو لايزال يحدق بشاشة التلفاز
- والدتك اهم طبعاً هذا ان كانت فعلا مريضة !
بالفعل لم تكن مريضة هي حجة اخترعتها والدتها لكي لا تضطران الحضور الى حفلتهم البغيضة تلك ... والتي اشعلت نار الغيرة داخلها ... كم كانت تتمنى ان تتزوجه هي ... تتزوج وليد ذلك الرجل القوي .. ذو الشخصية والهيبة الطاغية ... لكن تأتي الرياح لما لا تشتهي السفن ..
قالت وهي تدعي الغضب
- ماذا تقصد زهير ؟! هل اكذب عليك انا !!
اجابها وهو ينظر لها بتهكم
- لا اقصد شيئاً سيدة سلمى ... اذهبِ اليها ... كل شيء يعوض الا رضاء الوالدين !
قالت ببرود وهي تتجهه لغرفة النوم
- اجل كما قلت رضاء الوالدين اهم من التفاهات الاخرى !
تنفس بعمق لعدة مرات وهو يستغفر الله بصوت خافت ...الان ان نهض وصفعها صفعتين لكي يؤدبها ويعلمها معنى الاحترام هل سيلومه احد !!!! بالتأكيد لا ... لكنه لن يفعلها ... لن يعكر مزاجه ولن يفتعل مشكلة الان خاصة وان الكل مستعد لأستقبال يوم غد بفارغ الصبر ....
لأول مرة بحياته يصادف هذا النوع الحقود من البشر ...لقد عاشر ومر عليه الكثير لكن كعينة سلمى يقر ويعترف بأنه لم يصادف ابداً ...على كل حال وجودها بينهم لن يؤثر عليهم بشيء بالعكس ربما هكذا افضل ....فلتذهب وتأخذ معها غلها وحقدها ...ليتها تذهب وتبقى هناك الى الابد ..بل ليتها تثور وتطلب الطلاق بكرامتها .... المشكلة الحقيقية هو انه للأن لم يجد سبباً قوياً ومقنعاً لكي يتخذ قرار الانفصال عنها ... وكأنها تتعمد التصرف بهدوء بارد .... كالمد والجز تماماً .... تعرف كيف ترمي الكلام ثم تدعي البرائة بنجاح !!!!
....................
.............................
كانت تنظر للطقم الذهبي القابع بين يديها وهي تبتسم برقه ...مررت اصابعها على العقد البسيط وتلك الأساور الستة المصوغة بطريقة رائعة مع الحلقه الذهبية والاقراط ...كان الطقم بسيطاً وراقياً .... رغم ثمنه المعتدل وتواضعه مقارنتاً بما احضره لها رزكار من مجوهرات والتي ارجعها لهم وليد بالكامل بعد ان تخلصت من قيده الذي كان يكبلها به ... الا انه بعينيها يساوي كنوز الدنيا ...كانت سعيدة به جداً ... كل دقيقة تذهب لأخراجه والنظر اليه ... اااه وليد كم كان متفهماً لخجلها وارتباكها اذ ترك مهمة اختيار الشبكة على والدتها وخالتها سعاد اللتان لم تقصرا في حثها لشراء كل ماهو ثمين بالنسبة لمقدورهم المالي
عندما اخبرتها والدتها بأن وليد يريد ان يعرف ردها عن موعد الخطبة الذي حدده بسرعة قياسية ... شعرت بالخجل الشديد ...كانت تريد ان تقول فليتزوجني غداً ..الا انها همست بخفوت
- كما ترغبين انت يا امي
ووالدتها الحبيبة لم تتحمل اذ خرجت اليه لتخبره بموفقتها وهي تزغرد بصوت مرتجف من شدة التأثر !!
كم كانت غبية وبلهاء ..كيف اضاعت فرصة السعادة هذه عليها وعليهم !!! لكن لابأس بأذن الله ستعوض كل مافاتها ولن تلتفت لما يقولوه وما يتهامسون به عنها !!!
..............................
........................................
الخميس مساءاً
....................
المنزل يضج بالوافدين من الضيوف ...لقد دعى وليد كل من بالحي وايضاً العمال في المزرعة ...حتى انه دعى ام خالد التي اعتذرت عن عدم قدرتها على المجيئ بسبب اعتنائها بزوجها الذي يقضي اغلب وقته ساهماً في ملكوت خاص به ....
منذ الصباح الباكر توجه وليد مع والدته وعمته وغسق الى المحكمة الشرعية لأتمام عقد القران قانونياً ثم سيحضر الشيخ مساءاً لعقد القران شرعاً .. فهذه هي التقاليد المتبعة في العراق يتم العقد في المحكمة مرة وعند شيخ الجامع مرة اخرى ....لقد انهى الأجراءت اللازمة بفترة قياسية فقط لتكون اخيراااا غسق زوجته شرعاً وقانوناً ....
النساء اللاتي دعتهن سعاد اغلبهن من الجيران والمعارف ...المحبة التي ربطت بينهم كانت قوية ومتينة ...لم يفرقو بين عرب واكراد .. بل تصرفو بطيبة ومحبة صادقة .... حبيبة تنتقل بين الضيوف وكأنها نسمة هواء عذبه ...توزع العصير والحلويات عليهم ... وابتسامتها الجميلة لا تغادر شفتيها .... فستانها الذهبي وزينتها الناعمة بالأضافة لشعرها الطويل المموج ... جعلت الكثير من النساء تعجبن بها ولأكثر من مرة سألو سعاد ان كانت مرتبطة ام لا وهي تجيبهم نفياً بكل برائة وطيبة ... اما رضاب فقد اتخذت زاوية بعيدة تنظر لهم بشرود وكأنها معزولة عنهم بعالم خاص بها ....
عادت حبيبة الى المطبخ لتحضر المزيد من كوؤس العصير التي اخذت ترصها في الصينية وهي شاردة الذهن تفكر بذلك الحبيب الذي لاتستطيع ان تحدد نوع مشاعره نحوها ...أهو يحبها ام يشفق عليها ...ام تصرفاته هذه نابعة من مشاعر الاخوة التي يكنه لها ...
لكن ..اي اخوة ؟! وهل الأخ يضع لأخته تلك النغمة في الهاتف ؟! كانت اغنية لمطرب عراقي ...لم تتفاجأ من الأغنية بل تفاجأت من معانيها الواضحة التي لاتحتاج لتفكير ولا تمحيص لتعرف ماهيته ...

من يوم الحبيتك
واني متغير صاير مو اني
كلشي البيه مايشبهني
برده اعصابي ونيراني نيراني
وتلوعني وانا اسكت عنك
تعذبني واتقرب منك
يمك صاير واحد ثاني بس مو اني

اف ...ياربي سيجننها هذا الرجل بأفعاله الأخيرة التي حقاً لا تعرف الى اين يريد الوصول بها ...والأدهى من هذا كله هو حين كلمها بوقت متأخر قبل ليلتين ليهمس لها بخدر وكأنه مخمور
- امممممم لم اكن اعرف ان صوتك اجمل بكثير في الهاتف ..
في حينها الجم لسانها ....لم ترد عليه بحرف ...كل مافعلته هي انها همست بلهاث خشية ان تسمعها تبارك ورضاب اللتان تنامان معها في الغرفة
- ز..زهير...انا ..انا ...اشعر بالنعاس ....تصبح على خير !!!

ارجعها من بحر افكارها المتلاطمة صوته الرجولي ...الذي يأتيها بأوقات حرجة ... وكأنه يشعر بأنها تفكر فيه !!! استدارت ناحيته ثم تقدمت قليلا وهي ترفع طرف فستانها الحريري الذي انزلق بنعومة على جسدها الشاب لتجيبه بهدوء
- نعم يا زهير ماذا هناك ؟!

كان يريد ان يتكلم مع والدته بخصوصها فهو منذ ان رآها في الصالة قبل بدأ الحفلة وعقله يكاد يطير من رأسه ...كانت جميلة جداً ..وناعمة جداً ...شعرها الطويل يتراقص حول وجهها .. ممتداً الى نهاية خصرها ...بينما وجهها الرقيق مزين بطبقة خفيفة من مستحضرات التجميل برزت انوثتها وجمالها اكثر .... يعلم ..هو يعلم جيداً بأنهم سيخطبوها الليلة ..لكن تبا ..تباً له ان جعلها تصبح من نصيب احد غيره ..سيرتكب جريمة ويدخل السجن ان حاول احدهم التقدم لها ..هو لم يصدق بأنه اخيراً تخلص من ذلك المدعو كمال بأعجوبه !!
همس من بين اسنانه المطبقة
- تعالي هنا يا فتاة !
- نعم يا زهير ماذا هناك ؟!
قطب قائلا ببرود
- اولا حاولي ان تخففي من احمر الشفاه هذا الذي تضعينه بفمك كالمهرج وثانياً لماذا باب المطبخ مفتوح هكذا !!! ماذا اهي وكالة دون بواب ؟!
تأفأفت بملل متعمد وهي تنظر له بأستياء
- اين هو احمر الشفاه الذي اضعه ؟! انا لا اضع الا ملمع فقط ... ثم باب المطبخ مفتوح لان...
وقبل ان تكمل جملتها كان اصابعه ممتده لتمسك ذراعها كالقيد الحديدي ليسحبها ناحية المخزن الملحق للمطبخ ...هامساً من بين اسنانه المطبقة
- حسنا ..اذن انت لاتضعين احمر شفاه ؟! تعالي لأتأكد بنفسي !
التفت خلفها بذعر وهي تهمس برجاء
- ز...زهير ..أ.رجوك ..قد..قد..يرانا ..احد ..و..و...و..يفهم الموضوع خطئاً !
دفعها الى داخل المخزن الصغير الشبه مظلم ... والذي شهد سابقاً مشهداً مماثلا لهذا المشهد الا ان الفرق بينهما هو انها انذاك كانت ضعيفة ومستسلمة وسلبية ...اما الان فهي قد تغيرت للنقيض تماماً .... اجابها بأبتسامة جانبية ماكرة وهو يغلق الباب بهدوء
- انا اريدهم ان يفهمو الموضوع خطئاً
المكان كان ضيقاً جداً ... بالكاد يتسع لشخصين او ثلاث اشخاص ... رفعت يديها لتضعهما على صدره الصلب الذي اصبح قريبا منها لدرجة خطيرة ... لتشعر خلال ثانية واحدة بضربات قلبه العنيفة ... ودفئ جسده الذي اخترق قميصه القطني الأزرق ليصل الى يديها بكل حميمية .. همست بخفوت وحدة وهي تتصنع الغضب والقوة
- ابتعد عني زهير مالذي تنوي فعله ؟!
هز رأسه قائلا بغرور وترفع
- لن ابتعد الا اذا تأكدت فعلا من انك تخلصت من احمر الشفاه !
دفعت صدره بقوة اكبر وهي تهمس بنبرة متوسلة هذه المرة
- أأرجوك .. زهير ..دعني اذهب
امسك قبضتيها هامساً بخفوت ابح وهو مقطب الحاجبين ليتقدم منها اكثر وكأن قبضتها التي تدفعان صدره هي مجرد دغدغة بسيطة يشعر بها ...
- اششششششش ...ماهذه التصرفات الطفولية يا فتاة احترمي من هم اكبر منك سناً
ابتلعت ريقها وقالت بحيرة
- ح..حسناً ... ابتعد قليلا وانا سأمسح فمي امامك ..ارجوك !
ليهز رأسه مرة اخرى وهو يقول بمكر
- تؤتؤ حبي اخبرتك انا سأتأكد بنفسي والأن حالاً
لم تستوعب مايريد فعله بالضبط ..ظنت بأنه سيخرج منديلا من سترته وسيمسح فمها به ... الا ان ماحصل كانت بمثابة صدمة ..لا بل هي اقوى صدمة مدوية تعرضت لها في حياتها كلها على الاطلاق ...اذ هبط برأسه الفخور ليمتلك شفتيها بقوة ..نعومة ...لهفة ورعونة ... كانت احدى يديه مثبته على خصرها بينما الاخرى تحتضن رأسها بقوة ..اصابعه كانت تتخلل شعرها الناعم ...وشفتيه تعزف على شفتيها معزوفة ناعمة ...رومانسية ..ورقيقة ...قلبها عصف بقوة ...ويديها تجمدت لوهله على صدره ... هل ما يحصل حقيقي !!!! زهير يقبلها ...يلمسها !!! انفاسه اختلطت بأنفاسها ؟! هذا الجسد الرجولي الذي طالما نظرت له بحب وعشق وحسرة ... قريب منها لهذه الدرجة !!!
قبل ان تشعر بفداحة ما يفعله معها وكيف هي بلحظة ضعف مذلة استسلمت له بهذه الثواني التي كانت تزور احلامها منذ ان كانت مراهقة في الرابعة عشر ... دفعته .. حركت رأسها يميناً ويساراً وهي تتلوى بين ذراعيه بعنف ووحشية .... لكنها لم تؤثر عليه ابداً ... فهو اقوى واطول منها بكثير .... كانت مقاومتها الصغيرة ... اشبه بمقاومة فريسة التفت حولها افعى كوبرا طوقتها بقوة ... بعد مرور عدة ثوان كانت وكأنها ساعات لانهاية لها ... تراجع ليتركها مرغماً وهو يشهق بقوة ووتيرة انفاسه تتصاعد دون ارادة منه ... يا الله ... ماهذا الطعم المسكر !!!
لقد ترنح وكأنه شرب للتو خمراً معتقاً يذهب العقل قبل الجسد !! تباً ... هو يريد اعادة الكرة مرة اخرى ! رفع رأسه بغطرسة ... قائلا بأنتصار بينما كل عضلة بجسده كانت تصرخ طلباً لقربها من جديد
- الان تأكدت ... يمكنك الذهاب !
لم يشعر الا بحرارة لسعت جانب وجهه بقوة ...لتتسع عيناه بعدم تصديق وهو يلمح عيناها التي التمعت بغضب وشراسة ..والتي استطاع ان يرى بوضوح شرارات الغضب المنبعثة منهما رغم المكان الشبه مظلم
لقد صفعته !!!!! تلك القطة الأليفة صفعته !!!! حبيبة ...حبيبته الصغيرة الناعمة الخجولة باغتته و صفعته !
همست بقوة وحدة وهي تدعي الصلابة التي لم تكن تملكها ابداً بينما جسدها ينتفض بشدة
- غبي واحمق ... ماذا تظنني سيد زهير لعبه تلهو بها ...ام ربما لأني يتيمة ولا املك اهلا ليدافعو عني ... ظننتني سهله ورخيصة ومتاحة امامك .. منذ اليوم لا شأن لك بي مطلقاً ..اسمعت ؟! مطلقاً ... وإلا اقسم بأن اذهب لخالتي واخبرها بكل افعالك معي !
تركته وهي تحرك قدميها المهتزتان بأعجوبه تستحق عليها جائزة .... بينما قلبها يطرق بشدة كالمطارق الحديدية بالضبط .... لاتعرف بما تصف احساسها الان بالضبط ... اهي تشعر بالسعادة ام بالذل والرخص !! لكن بكلا الحالتين تصرفه هذا فادح ووقح جدا !
اما هو كان لايزال يلهث وعيناه على حالتها متسعة من الذهول انفاسه تخرج حارة ...قوية ....و ملتهبة .... منذ متى والقطة الناعمة اصبحت تمتلك مخالب تخربش بها ؟! منذ متى وحبيبة الخجولة التي ما ان تراه حتى تحمر خجلاً يعشقه و يكاد يذوب عظامة اصبحت قوية وترد عليه بهذا الشكل ؟!
غامت عيناه العسلية المثبته على الباب الذي اغلقته بعنف لتصبح أكثر دكنة .... وتلألؤ .... رفع يده ليضعه على خده هامساً بعشق
-لا بأس ... ضرب الحبيب مثل اكل الزبيب
ثم قبل باطن كفه وهو يقول
- مجنون انا لأتركك وشأنك !! منذ هذه اللحظة وانت بت زوجتي برضاك ام رغماً عنك قطتي الصغيرة
................................
........................................
اصرت سعاد على ان يكون حفل عقد القران كما هي العادات والتقاليد المتبعة في بغداد والتي تم على اثرها عقد قرانها هي وكل اقربائها ايضاً ..... سعدية لم تعارض بل كانت سعادتها تعادل سعادة وحماس سعاد وربما تفوقها ايضاً ...ففي خطبته غسق السابقة اصرت والدة رزكار على اعداد العقد والحفلة كما تريد هي ...اساساً هي لم تدعو الكثيرين وكأنها كانت تستعر من نسبهم !
خصصت الصالة لجلوس الرجال ... فيما خصصت للنساء غرفة اخرى تقع ملاصقة للصالة .... وضعت في الممر المؤدي للصالة خلف الباب المغلق تحديداً طاولة صغيرة بيضاء اللون رصت عليها عدة اطباق منها القشطة ...السكر ... السكاكر المتنوعة ...الخبز مع الخضرة كالنعناع وانواع اخرى ... مرآة صغيرة بيضوية الشكل ... المصحف الشريف تحديداً على سورة
( انا فتحنا لك فتحاً مبيناً )
تقدمت غسق التي كانت ترتدي فستاناً ابيض من الحرير لتجلس على الكرسي المخصص لها جانب تلك الطاولة .... ثم وضعت سعاد حجاب ابيض فوق رأسها كتب عليه بماء الذهب
( وَمِنْ آَيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً )
فيما طمست قدميها داخل الوعاء الذي احتوى على الماء و اوراق الآس والورود الصغيرة العطرة ...
عندما سألتها تبارك بفضول عن سبب وضع كل تلك المواد على الطاولة اجابتها سعاد بحنان وعيناها تلتمعان بالدموع
- وضع البياض سواءاً كان ( لبن أو قيمر أو حليب ) لأن البغداديون يتفائلون باللون الأبيض ومن أقوالهم عند الدعاء للشخص ... " أن شاء الله بيض الله وجهك "
اما سبب وضع الخضرة مع الخبز ... و ذلك لأن الخضرة هي من نبات الأرض دليل الخير والبركه .
السكريات وتكون حلوة المذاق حتى تظل العروس ( حلوة وجميلة بعيون زوجها ) ... والمرآة للخير والبركة ولكي تكون حياتهم صافية كالمرآة تماماً ...
نقلت نظراتها لتبارك وحبيبة ورضاب وهي تهمس بصوت مرتجف ومتأثر
- بأذن الله سأفعل كل ذلك مرة اخرى عند عقد قرانك انت وحبيبة ورضاب ايضاً

كانت غسق تعيش بعالم اخر ...سعادتها هذه المرة كانت حقيقية جدا ...وواقعية جدا جداً ...كانت تشعر وكأنها في عالم يشبه ذلك العالم الوردي الخاص بأميرات الخيال الخرافية !!! اجل هي كانت اميرة ...ووليد هو اميرها الوسيم الذي انتظرته طويلا !
سألها الشيخ من خلف الباب الموارب لعدة مرات فهذه هي من الأمور الواجب تباعها ...العروس لاتعطي موافقتها منذ المرة الاولى بل عند سؤالها للمرة الثالثة ... تم اخذ موافقتها ثم شرعت سعاد بوضع المبخرة فوق رأسها لتبخيرها من الحسد ...فيما اصوات الزغاريد اخذت تتعالى مع تعالي ضربات قلبها التي كانت تدوي بصخب
...............................
رغم انها كانت سعيدة وتشاركم فرحتهم وحماسهم بصدق حقيقي إلا انها كانت تشعر داخلها بالحزن والضياع ... اين هو ! مالذي اصابه ... كل تلك الايام التي مرت كانت بمثابة صفعات توجه لها لتخبرها بمدى تفاهة تفكيرها ومدى انانيتها ...اجل كانت انانية ... هي احبته ...لكنها انكرت ...حرمته وحرمت نفسها من السعادة .... بسبب اوهام لا وجود لها الا بعقلها البائس الذي يأبى نسيان دنائة وجشع خطيبها السابق ... تذكرت ماجرى ظهر امس عندما ذهبت لتدعو رونق للحفلة ...
- اسفة عزيزتي ...انا لن استطيع الحضور ....عقلي وفكري مشغولين على اخي ...سامحيني واعتذري بالنيابة عني لغسق .. سأزورها لأبارك لها في وقت لاحق !
في حينها لم تستطع تبارك ان تتمالك نفسها اذ غرقت عيناها لا ارادياً بالدموع التي لمحتها رونق لتهمس بتعاطف وحنان وهي تشاركها البكاء بينما امتدت يدها لتمسك تبارك من كتفها
- اوووه تبارك ..انت تبكين من اجله !!!
مسحت تبارك دموعها وحاولت التماسك الا انها لم تستطع النطق بحرف ..دموعها كانت نادمة ومتألمة ...لتكمل رونق بغصة مريرة
- انت تحبيه ...اعترفي بذلك صديقتي !
رفعت تبارك نظراتها الحمراء بصمت لكن ما قرأته رونق بعينيها كان اكثر من كافي لتعرف الأجابة ... سارعت رونق لأحتضانها هامسة بحب وأمل
- ان شاءلله سيعود من اجلي واجلكِ ..فقط ادعي له يا تبارك !
ابعدتها تبارك بلطف وأكدت بأبتسامة خجلة
- ادعو له ليلاً ونهاراً ...حتى في صلاة الليل اذكره صدقيني!
همست رونق بتضرع وهي تمسح دموعها
- ان شاءلله سيستجيب
ثم اكملت متسائلة ببراءة
- امممم تبارك ..اذن انت موافقة على الزواج منه اليس كذلك !!
هتفت تبارك بحرج شديد
- يا الهي رونق ...انا بماذا وانت بماذا تفكرين هل هذا وقته ؟!
لكنها اصرت بقوة
- موافقة اليس كذلك ..اجيبِ تبارك !
تنهدت تبارك وقد احست بأنها محاصرة بالفعل لتهمس بخفوت وخجل
- موافقة يا رونق فقط فليعود سالماً
عادت من دوامة افكارها وهي تعاود التركيز على الضيوف تبتسم لهم وترد على تحيتهم بذهن شارد .....
.........................................
....................................
خرج الى الحديقة بعد ان هدأت ثورته الهوجاء ... التي فارت وثارت كما الحمم البركانية منذ ان قبل وتذوق طعم تلك الشفتين العذراويتين ... ليستقبل الضيوف الذين وصلو متأخرين الى المنزل ليصادف صديقه الذي يعرفه ويعرف عائلته منذ فترة الدراسة وحتى والدته تزورهم بأستمرار وقد دعوها اليوم ايضاً في حفلة الخطبة
- زهير كيف حالك ؟!
اجابه زهير وهو يبادله العناق قائلا
- الحمدلله كيف حالك انت لم ارك منذ فترة اذا لم نسأل عنك لاتسأل عنا انت ابداً
قهقه ضاحكاً وهو يبتعد عنه قليلا
- صدقني مشغول بالعمل ....حتى ان والدتي سبقتني بالحضور منذ العصر
تبادلا بعض الكلمات قبل ان يكمل بحرج
- احم ..زهير من الجيد اني قابلتك اولا ... كنت اريد ان اتكلم معك بأمر مهم جداً ...
قطب زهير متسائلا وهو يحثه على التقدم والدخول للمنزل
- خيراً أهو امر ضروري لايحتمل التأجيل لما بعد انتهاء الحفلة
اومأ صديقه وهو يمسك زهير من ذراعه ليرغمه على التوقف ليجبه بجديه
- اجل صدقني مهم جداً وهو في الحقيقة يخص ...زوجتك ! هلا ذهبنا لمكان اخر لكي اتكلم فيه براحتي ..فأنا ..لا اريد لأاحد ان يسمع ما سأقوله لك
...............................
...................................
اخيراً وبعد مرور عدة ساعات ثقيلة عليه ... غادر جميع المدعوين .... لم يتبقى في الصالة الا سعاد وسعدية وتبارك ....استأذنت تبارك قائلة
- حسناً سأذهب لأساعد حبيبة في التنظيف .....فالصحون تملئ كل ركن في المطبخ ...عن اذنكم
تبادلت المسنتان النظرات الماكرة السعيدة وهما متفهمتان لذلك التوق الذي يعتري وليد لكي يختلي بغسق التي اصبحت زوجته قبل بضع ساعات ... نظراته كانت تفضح ما يريده ...عيناه لم تنحرفا عن النظر لذلك الجمال الخلاب الذي سرق نبضاته وجعلته يحدق بها كالتائه ... كانت غسق قد تخلصت من الحجاب مظهرة شعرها العسلي المصفف بطريقة بسيطة وناعمة ... همست سعاد بحنان وهي تنظر لهما
- هيا فلنخرج من هنا ..ولدي المسكين يكاد يجن لكي يختلي بزوجته
اومأت الأخيره ونهضت لتخرجا معاً ثم اغلقت سعاد الباب بهدوء ... الأن هي له ... زوجته ... موافقتها الخافته التي سمعها من خلف الباب جعلت شعور الانتشاء والاكتفاء يسيطر على كل خلية بجسده ... ود لو يذهب اليها بالتو واللحظة ليحتضنها ويشبع منها ...
تذكر عندما ذهب ليلبسها شبكتها وقف مبهوتاً مما رأه كانت تجلس كالأميرة ..بل كانت تتوهج كالشمس الساطعة ... اقترب منها وطبع قبلة عميقة على جبينها ... ليصدمه ويصيبه الترنح والخمول عندما استولت رائحتها العبقة المنعشة على رئتيه وتغلغلت عميقاً ..عميقاً بهما .... انقذته تبارك من ذلك الحرج الذي شعر به حينها عندما لم يعرف كيف يلبسها العقد غير انه استطاع ان يطبع قبلة على رقبتها المرمرية بخفة لم ينتبه لها احد الا تبارك التي ابتسمت بسعادة وغسقه التي توهجت بحمرة قانية ....
كان يتلقى التهاني بشرود ..يصلي ويتضرع داخله هامساً بأن تنتهي تلك الساعات على خير ... كم بدت الدقائق والثواني طووووويلة ولا نهاية لها !!
كل ذلك يدور بفكره وهو يقترب منها بخطوات هادئة ...ورزينة بينما ما يجري داخله من مشاعر هوجاء ومختلطة لايمكن ان تصفها كلمات الكون كلها ... وقف امامها بالضبط ...
كانت تجلس وهي مطرقة الرأس تتلاعب بأصابعها بتوتر .... بينما ضربات قلبها تكاد تخرج من مكمنها .... تذكرت همسات النساء المعجبة عندما دلف للغرفة ليلبسها شبكتها ..كان رجولياً ... وسيماً ... ذو هيبة طاغية ... كان يرتدي بدلة سوداء اظهرت عرض كتفيه وضخامة جسده الطويل ... يا الهي هل فعلا هذا الرجل اصبح زوجها !!! عندما قبل رقبتها شعرت بقشعريرة مرت على طول عمودها الفقري ...بينما ارتعاشة هزت جسدها بالكامل ... الحمدلله لم ينتبه احد لفعلته الجريئة تلك الا تبارك ... استطاعت ان تتماسك وتتحكم بارتعاشها لكنها لم تستطع ان تتحكم بلون الخجل الذي زحف لوجنتيها ... ولا ضربات قلبها المبعثرة من قربه ومن غيرتها الهوجاء من النظرات المسلطة عليه !
وقع نظراتها على حذائه الجلدي الاسود ... ليعاود خافقها على الطيران من جديد ... انحنى ليمسك يدها الباردة المرتجفة ثم ساعدها على الوقوف ...الصمت كان مطبقاً بينهما ...رفع رأسها بأصابعه السمراء ثم اخذ يحدق بزرقه عينيها التي اصبح داكنة على غير العادة ... ربما بسبب هذا الخجل الواضح على معالم وجهها الابيض .... رفع كلتا يديه ليمررها بطيات شعرها العسلي ... الذي لايعرف أسرقت من الشمس توهجها ام من القمر جمالها .... ثم لوجنتيها الورديتان ثم لأسفل شفتها الممتلئة ليهمس منشداً بصوت أبح وهو يلتهمها التهاماً بنظراته الداكنة
اريد اوصف جمالك حاير منين
من شعر السرح لو من الايدين
يالعطرك ورد ومكحل العينين
يالكلك ترافه وناعم الخدين
يا أبيض كطن يا لحاجبك سيفين
ربك من عسل سواك مو من طين
سحرت الناس كلهه معدل الزين
ما ظنك بشر جاوبني انت منين
شمس بالكون وحده وانت شمسين

ضحكت بخفوت ثم همست بأضطراب وهي تسبل اهدابها
- لم اكن اعرف انك تجيد الشعر الشعبي !!
ليجيبها بهمس خافت
- من اجلك تعلمت كل شيء يا غسقي !
لم ترد ..مايحصل معها مربك ...ومخجل جداً ...لأول مرة تقترب منه لهذه الدرجة الحميمية ... بل لأول مرة يتكلم معها بهذا الشكل الجريء ...لكن حتى جرائته لذيذة وذات طابع رجولي بحت !
اخذ يدور ابهامه على وجنتيها ... وهو يركز على تلك البتلتين المثيرتين اللتان سلبتا العقل والتفكير منه .... يريدها .. ويعشقها ... وهي حلاله الأن ..له بالكامل ...امام الله والناس جميعاً ....حلاله ويفعل بها مايشاء ودون ان يستغفرالله لجرائة تفكيره بها ... قال لها بحنان ودون مواربة ... لقد ازاح الحرج عنهما ... منذ ان اعترف لها بحبه السري لها
- اتعلمين يا غسق بأنني اردتك وتمنيتك لي منذ اليوم الاول الذي رأيتك فيه تجلسين على مائدة الطعام في منزلنا !!!
نظرت له بعينان براقتان وابتسامة خجولة ليكمل
- اجل ... منذ ذلك الوقت ... للأن اتذكر كيف كنت مذعورة مني .. تنظرين لي وكأني وحش على وشك التهامك ... لم يكن عليك ان تخافي مني يا غسق ..انا الوحيد الذي لم يكن عليك الخوف منه ...لأني كنت ولازلت سأحميك بروحي قبل جسدي !!
تخاف منه !!! همستها بسرها بحزن وألم ...يا الهي كم كانت انانية وحمقاء ...كيف اوجعته وجعلته يفكر بهذا الشكل ... اجابت بابتسامة تفتقد للمرح
- انا لم اكن اخاف منك يا وليد ..انا فقط ..فقط ..كنت
قاطعها مازحاً وهو لايزال يحرك ابهامه على وجنتها الناعمة
- أكنت تخافين من الندبة الموجودة على جانب وجهي ؟!
هتفت بعفوية واستنكار تنفي سريعاً
- كلااااااا بالعكس انا اراها جذابه جداً ...وهي تزيدك هيبة ووسامة !
رفع حاجبيه بتسلية واجاب بمكر محبب بينما قلبه يتضخم سعادةً
- وسامة ؟! اذن انت تريني وسيم ...
صمتت واطرقت رأسها بخجل وابتسامة حب تظهر على شفتيها ليهمس بحشرجة
- اااااه يا امي ... لابد وانك دعوت لي في ليلة القدر والله استجاب لدعواتك .. غسقي تراني وسيم وجذاب ... يا لحظك السعيد يا وليد !!!
رفع رأسها واخذ يحدق بهذا الوجه البهي الماثل امامه ... والذي اصبح ملكه هو وحده ليثبت نظراته على فمها ... لم يعد يطيق الصبر ...هذا الصبر المشابه لصبر ايوب .... هبط برأسه ليلتقط شفتيها بحركة فاجأتها وجعلتها تتجمد في مكانها ...تصاعدة ضربات قلبها ...لم تعرف ماذا تفعل ....فقط رفعت يديها ثم امسكت سترته لتوازن جسدها الذي يكاد ينهار من شدة الخجل ....ذراعه ملتفه حول خصرها بقوة ... يقربها منه بيائس وجوع محموم .. ليشعر بدفئ جسدها اللين مقارنتاً بصلابة جسده الساخن المتعطش لقربها هذا
كان يستمتع بطعم شفتيها يالله كم كان مذاقها حلواً ومنعشاً .... وكم حلم بهذه القبلة وتخيلها لمئات بل الآف المرات ... حلم بها منذ ان رأها
ابتعد عنها لاهثاً ليهمس بوله
- طعمهما كالشهد ....كالشهد تماما
ثم مرر ابهامة مرة اخرى على اسفل شفتها الحمراء بينما غسق تكاد تبكي من شدة خجلها
- ابتداءاً من الأسبوع القادم ستواصلين الدراسة وانا بنفسي سأوصلك الى الجامعة ...هل هذا واضح ؟!
جاهدت لكي تحرك رأسها ايجاباً وهي لاتزال مسبلة الأهداب ... الا انه لم يعتقها ...الظاهر بأنه مستمتع بخجلها وارتباكها هذا ..اذ امرها بلطف وهو يهمس بخشونه
- ارفعي عينيك و اجيبيني غسق !
لا ارادياً نفذت ما اراده منها ...لتصطدم فيروزيتها بحجريه المشتعلان اتقاداً من شدة وفرط اثارته وعشقه لها لترطب شفتها السفليه قبل تجيبه هامسه
- ا..ن ..شاء..لله ..وليد ...سأعاود الدراسة من جديد
اومأ وهو يبتلع ريقه بصوت مسموع قبل ان يقطف من تلك الشفتين قبلة اخرى ..اكثر عمقاً ... واقل استعجالاً ....
....................
.............................
يقود سيارته وهو يغلي من الغضب ...لا يعرف كيف تحمل قضاء تلك الساعات في المنزل ..ود لو يذهب اليها حالا ليطفئ لهيب النار المشتعله في جوفه ...لكنه تماسك من اجل وليد ..اليوم يجب ان يكون معه .... خاصة وانه لم يكن يريد ان يثير الريب من اختفائه المفاجئ من الحفل كما انه لم يكن يريد ان ينغص فرحتهم بسبب تلك المستهترة عديمة التربية .... تذكر رغماً عنه كل ما قاله صديقه ياسر عن تلك الترهات والكلام القبيح الذي تشيعه سلمى ووالدتها عن غسق وعن عائلتهم .... للأن نظرات ياسر الحرجة مرسومة امام عينيه حين قال
- صدقني زهير لو لم اكن مهتماً بسمعتكم ولو لم اكن اعرف معدنكم الاصيل لم اكن لأخبرك بنفسي ...لقد ارادت والدتي اخباركم في المنزل اليوم الا اني منعتها ...فاليوم عقد قران وليد ولم اكن ارغب بأن اعكر صفو الأجواء هناك ...لذلك اضطررت ان اخبرك بنفسي !
في حينها لم يكن يعرف بماذا يرد عليه ..الصدمة والمفاجأة الجمت لسانه وجعلت العرق النابض برقبته يتضخم نتيجة غضبه المتصاعد ..ليجيبه بوجه مظلم وخطر
- اشكر اهتمامك يا ياسر ...ومن الجيد انك اخبرتني ..انا سأتصرف
اوقف السيارة امام منزلهم بالضبط ... تنفس عدة مرات ويده تقبض على مقود السيارة بقوة .... كانت الساعة تجاوزت الحادي عشر بقليل ...التفت ينظر للأضواء المضيئة في حديقتهم وهو يهمس بتوعد
- حان موعد الخلاص منك والى الأبد
...........................
.......................
ما ان دلف الى الداخل ورأها تقف لأستقبالة بأبتسامتها الباردة بينما والدتها تجلس بأريحية حتى هاج الغضب داخله اكثر واكثر ...بدت امامه كمسخ بشع المنظر .... حقاً كانت بشعه رغم ما تملكه من جمال خارجي اجوف .... كالتحفيات الخزفية الرخيصة ... جميلة من الخارج وفارغة من الداخل ....
تقدم ناحيتها بصمت ليباغتها بصفعة قوية جعلتها تشهق وهي ترتمي على الأريكة خلفها هتفت والدتها بأستنكار وحدة
- أجننت مالذي فعلته يا همجي يا متخلف !!
اجابها بسوقية متعمدة وهو ينحني ليمسك شعر سلمى يجبرها على الوقوف
- لم تري شيئاً بعد من الهمجية والتخلف يا خالتي ام سلمى
قالت سلمى بصرخ وهي تحاول تحرير شعرها من قسوة يده
- اتركني يا مجنون ... اتركنيييييييي
صفعها مرة اخرى واخرى وبقوة وعيناه المشتعلة تلتهم وجهها بقسوة وشراسة
- تطعنين بشرف ابنة عمتي !!!! تجعليها مضغة بفم الناس لماذا !!!! مالذي فعلته لك !!! هي حتى لم تسئ اليك بمجرد نظرة فلماذا هذه القذارة والدنائة ..لماذااااااااااااااااا
كانت والدتها تحاول دفع زهير عنها وهي تسب وتشتم بأبشع الكلمات .. بينما سلمى تتلوى وهي تصرخ بألم ..
- اتركنيييييييييييييييي ...اتركنييييييييييييي
دفها بأشمئزاز وقرف ليجيبها بقوة ولهاثه يعلو وكأنه عداء يجري في سباق مرثوني
- منذ اليوم لا اريد رؤية وجهك الكريه ...لا اعرف كيف جننت وضربت على رأسي وتزوجتك ! قرار زوجي منك هو أسوء قرار ندمت على اتخاذه بحياتي كلها !!

ابتعدت عنه ووقفت خلف والدتها وهي تمسد شعرها لتهتف مقاطعة اياه بتحدي ووقاحة جعلت زهير يشحب للغاية ويتسمر مكانه متسع العينين
- هكذا اذن ؟! مادام اللعب اصبح على المكشوف ..اذن فلتعرف يا زوجي العزيز ... اني ايضاً لم ارغب بك يوماً ...لقد وافقت على اساس ان وليد هو من سيكون زوجي ...وليس انت ...اسمعتني ليس انت !!
التفتت لها والدتها وعضت على شفتها السفلى بمعنى مالذي تهذين به الا انها اكملت وهي تنظر لوالدتها
- اجل يا امي فليعرف الحقيقة ...حقيقة اني تزوجته بسبب ذلك الاتفاق السخيف الساذج بين والدي ووالده !!!!
كان زهير يقف قبالتها متجمداً ووجهه شاحب للغاية ...زوجته كانت ترغب بشقيقه زوجاً لها !!! الى اي درجة كان مخدوعاً ومغفلا ...فجأة اخذ لا ارادياً يحلل تصرفاتها معه في بداية زواجهما ... كيف كانت تتكلم معه ببرود ولا مبالاة ...تهمله ..تهمل متطلباته كزوج .... كل ذلك لأنها كانت تضع عينها على شقيقه !!! هو يثق بوليد ثقة عمياء وايضاً يعرف بأنه لو ارادها فعلا لأتخذها زوجة له منذ البداية ولما رفضها ابداً ... صحيح هو لايحب سلمى ولم يحبها يوماً ابداً خاصة بعد ان اكتشف مشاعره المدفونة تجاه حبيبة ..لكن اعترافها هذا .... لا يعرف حقاً مالمسمى الذي يجب ان يطلقه على ما يصيبه الان ... وجع ... ألم .... صدمة ... او طعنة حارة في رجولته بأنه لم يكن يملئ حياة زوجته حتى وان لم يكن لها المشاعر .. الفكرة بحد ذاتها اصابته بمقتل !!!!!!!
- مالذي يحصل هنا ؟!!
صوت والدها افاقه من شروده وقطع حبل الصمت المتوجس المترقب بينهم ليلتفت له زهير قائلا ببرود وصوت أجوف بينما يديه تكورتا بقوة على جانبيه
- اهلا سيد مراد من الجيد انك حضرت ... لانني اريد ان اخبرك ان
قاطعته رحاب قائلة بضحكة متوترة بينما تنظر لزهير برجاء خفي التقطه جيداً
- مجرد شجار صغير بسبب شيء تافهة عزيزي وسيتصالحان حالا
ابتسم زهير ساخراً واجاب
- شيء تافهه !!! اتسمين تشويهك انت وابنتك العزيزة سمعه ابنه عمتي شيء تافهه ...ام تسمين رغبه زوجتي بالزواج من شقيقي شيئاً تافها وسيحل بسهولة !!!!
تقدم مراد ثم وضع حقيبته الصغيرة على الأريكة قائلا بجمود وغضبه بدأ يتصاعد واضحاً من خلال عينيه الحادتين التي اخذ ينقلها بيهم بجمود
- مالذي يجري بالضبط !!!
هتف زهير قائلا
- انا سأخبرك عمي وبكل بساطة .... ابنتك وزوجتك تطعن بشرف ابنة عمتي ..كما انها كانت ترغب بأخي زوجاً لها ..وهي لاتراني رجل بما فيه الكفاية لأكون زوجاً يليق لمكانتها !
التفت مراد لأبنته وقال بصوت هادئ وخطير بينما ملامحه مبهمة وغامضة
- أصحيح ما يقوله !!!
نظرت له سلمى بصمت ولم يبدو الندم عليها ابداً .. ليهتف مرة اخرى وبصوت جعل سلمى ووالدتها تجفلان
- انطقي هل ما يقوله صحيح !!!
ايضاً لم يسمع ردهما الواضح جداً ... ليقترب من ابنته ينظر لها بعينان مدينتان متألمتان ثم رفع يده وصفعها بقوة قائلا
- الظاهر اني لم اربيك جيداً !!
همست سلمى بذهول وهي تضع يدها على وجهها الذي غطاه شعرها بسبب قوة الصفعة
- أأ..بي !!!!!!!!!!!!
اجابها بغضب
- اخرسي ...لا اريد سماع صوتك ابداً
حاولت زوجته الكلام الا انه رفع يده و أوقفها هامساً بخيبة أمل
- اما انت سيكون حسابك عسيراً معي ..أأكد لك ذلك !
تنهد بعمق ثم استدار لناحية زهير وقال بلهجة حرجة
- لا اعرف ماذا اقول لك يا زهير ...انا ..
قاطعه زهير بتعاطف وشفقة فعمه مراد فعلا إنسان طيب وشهم من المؤسف ان يكون له مثل هذه الزوجة الأفعى والابنة المستهترة ... اللؤم يقع على والده هو من اقترح فكرة هذا الزواج البائس الفاشل منذ البداية
- لاتقل شيئاً عمي ...انت لا ذنب لك ابداً ....ام ربما تتحمل القليل من الذنب لأنك وافقت والدي على اتمام هذا الزواج بتلك الطريقة التقليدية ....
كان الصمت الكئيب المظلم يلتف حولهم ... لم يجد مراد ما يقوله ... الكل كان ينظر للأخر بترقب ... سحب نفساً عميقاً ثم زفره بحرارة قائلاً وهو يجبر نفسه على الوقوف امامها
- كل ما أريده الأن هو ان تكف ابنتك لسانها الحاد الذي لا يخاف الله عنا هي وزوجتك ! وانا اثق بك يا عمي واثق بأنك لن تسمح لهما بالتمادي اكثر !
نقل نظراته بينهم بصمت ثم توجه الى الباب بهدوء لكنه قبل ان يخرج التفت قائلا بجمود
- نسيت ان اخبرك شيئاً مهما ... ابنتك لم تعد تلزمني ... مثلما تزوجنا بالمعروف ننفصل بالمعروف
ثم نظر لسلمى ليكمل ببرود
- انتِ ... طالق
...............................
نهاية الفصل الثاني والعشرون

رماد الغسقحيث تعيش القصص. اكتشف الآن