الفصل الرابع والثمانون

43.1K 2.4K 1K
                                    


الفصل الرابع والثمانون

في العمر لحظة، يحسم فيها الإنسان اختياراته؛ إما بالسير على طريق الصراط، أو الانحراف نحو غياهب الضلال، وقد كان اختياره! ما زالت قبضة "محرز" تعتصر فك ضحيته الجديدة، أكمل قطع لسانها في لمح البصر، مثلما اعتاد أن يقطع ثمار الفواكه عن أغصانها العالقة في سرعة وحرفية، ووسط الدماء المتفجرة من فمها تابع لومه لها:

-حياتكم مكانتش تسوى شوية دهب يا خالتي؟!

تلوت "بثينة" بألمٍ شديد، وعيناها تبكيان في حرقةٍ أشد، كتم بيده صراخها المبتور، وعلى وجهه تلك النظرة المظلمة، اعتدل في وقفته، ناظرًا في اتجاه "خلود"، وجدها تسير بتعثرٍ، تترنح في خطواتها كلما سارت للأمام، أدرك أنها تحاول الفرار منه قبل أن يطالها، كانت كلتا يديها حول عنقها النازف، همَّ باللحاق بها؛ لكن أوقفته "بثينة" بالتعلق في ذراعه، فما كان منه إلا أن غرز المدية مجددًا في صدرها، ليصدر منها خرير متحشرج.

تحرر منها بسهولةٍ، ولحق بابنتها التي أمسكت بالمقبض، وقبل أن تديره التف ذراعه حول رقبتها، جذبها بقوته الجسدية للخلف، وأعاد وضع النصل الحاد على جرحها الغائر ليكمل نحر عنقها، وهسيس صوته يُخبرها في أذنها:

-أمك حكمت عليكي بالموت!

اجتاحها ألمًا حارقًا ألهب أنسجتها الجريحة، مع زيادة تعميقه للنصل، حينها مر شريط ذكرياتها أمام عينيها، بكل حلوه ومُره: طفولتها المذبذبة، عزاء أبيها المحترق، آمال مراهقتها المُطعمة بالزواج من الرجل الوحيد الذي نذرت له قلبها، خطبتها لـ "تميم"؛ فارس أحلامها، إيداعه السجن، انتظارها الطويل، لقائها معه الخالي من حرارة الاشتياق، ليلة زفافها، افتقارها لنشوة الحب في حياتها، تلهفها على الإنجاب، دسها لحبوب الدواء في طعام زوجها، شكوكها عن حبه لغيرها، خبر حملها، تلاه انفصالها، قتلها لما كان ينمو في أحشائها، انغماسها في أحزانها.

رن في أذنيها كلام "تميم" الأخير لها، فتسابقت عبراتها المقهورة، وامتزجت بالدماء الساخنة، كانت في أعماقها تخشي من مواجهة الحقيقة، لم يكن يُحبها، ومع رحيلها المؤسف لن يذرف العبرات لفراقها، ستغدو سرابًا بمضي الأيام؛ وإن حزن عليها قليلاً، غمرها المزيد من القهر، لتخرج بعدها شهقة أخيرة محملة برائحة الموت .. بأهةٍ مفطورة الفؤاد على حياة سلبت منها عنوة، ولم تنل في نهايتها إلا الشقاء، فارقت "خلود" الحياة للأبد.

................................................

تراخت أطراف "خلود"، وهمد جسدها كليًا خلف ذراع "محرز" القابض عليها، لم يجفل للحظة، ولم تطرف عيناه رهبةً؛ وكأنما اعتاد على ذبح الأبرياء كلما تعارض وجودهم مع مصالحه. سحبها للخلف، وأسند ظهرها على الحائط، ليلقي نظرة أخرى على والدتها الغارقة في دمائها. جثا على ركبته ليتفقدها؛ لكن جذب أنظاره وهج الذهب البارز من حقيبتها، زحف سريعًا إليه؛ وكأنه تذكر سبب مجيئه منذ البداية بعد أن التهى بهما، نظر إلى القطعة المغرية بعينين طامعتين، قبض عليها بيده الملوثة بالدماء، برقت حدقتاه في توترٍ، عاد الآن إلى رشده، وأدرك أن بقائه في هذا المنزل قد طال كثيرًا.

الطاووس الأبيض ©️ - الجزء الثالث - كامل ☑️حيث تعيش القصص. اكتشف الآن