الفصل الثالث عشر

95 3 0
                                    

الفصل الثالث عشر



كانت العجلة تدور وأصبح كل من ليوباردو ونهاد على علو شاهق. وهما يراقبان المدينة المتلألئة والمزدحمة بالسيارات. فصرخت نهاد فاغرة فاها.
نهاد: ليو... أنظر كم المنظر رائع....
ثم بلعت ريقها وتشبثت بمقعدها.
نهاد: عندي فوبيا من المرتفعات...
غلب ليوباردو الضحك رغم أنه لم يكن ينوي ذلك.
يالها من فتاة متهورة لا تفكر إطلاقا... إذا كانت تخاف المرتفعات فمالذي جعلها قبل قليل تتوسل إليه وتجره جرا إلى هنا !
انتبهت نهاد لضحكاته فرمقته بنظرة مستغربة، هي لم تتعود منه أكثر من الابتسامة الباردة التي لاتتحرك معها مشاعره. إذ أن البسمة التي تكون من القلب تتجلى على العيون، فعلميا هناك عضلات صغيرة حول العيون تتقلص مع الشعور بالسعادة.
تحول الاستغراب الذي يرتسم على ملامحها إلى خجل واحمرار علا وجنتيها. تتملكه رغبة شريرة في استفزازها أكثر كعادته، لكن شيء ما بداخله يرجوه ألا يفعل.
ليوباردو: ما بك؟
حركت نهاد رأسها نفيا وقد سيطرت على خجلها ذاك، ثم أرادت أن ترمي الكرة بملعبه.
نهاد: كيف خطر ببالك زيارتي والتسلل إلى غرفتي؟... ثم كيف عرفت أصلا أنها غرفتي؟
ليوباردو: بالبداية أخطأت بالغرفة وقصدت غرفة والدك...
ارتعبت نهاد وتوسعت عيناها.
نهاد: جننت... ماذا لو انتبه إليك؟ !!!
هز هو كتفيه بلا مبالات.
ليوباردو: لقد كان مشغولا مع زوجته، لا أعتقد أنه كان سينتبه إلي حتى وإن حطمت زجاج باب الشرفة.
بقيت نهاد مشدوهة تفسر ما يقول بعقلها للحظات ثم قذفته بحقيبة يدها فالتقطها بعد أن اصطدمت بصدره لتقع على ركبتيه...
نهاد: أيها الوغد الوقح...
وارتبكت من شدة الخجل بينما هو لا يجد حرجا مما يقول.
ليوباردو: لا تقلقي فأنا لم أرى شيئا... لست من النوع الذي يتجسس على الآخرين.
سينفقع قلبها لا محالة، عضت على أسنانها بغضب وحمرة نارية تجعل من وجهها ملتهبا لو لامسه لاحترقت أصابع يده... وعلى الرغم من ذلك فهو لا يهتم للأمر وكأنه يلقي دعابة ما ! كانت تعلم مسبقا أن لسانه متبرئ منه وإن عاندته فلن تصل إلى أي نتيجة. لكنها لم تستطع ألا تجيبه بالطريقة التي يحب.
نهاد: أقسم أنك مخبول أحمق، هلا أقفلت ذلك الفم...
إنه يستمتع جدا برؤية غضبها وجنونها، يعشق ثورتها ما إن يستفزها، يشعر بمتعة لا مثيل لها وهي تحذره وتنذره وتتوعده...
ارتسمت على وجهه ابتسامة ماكرة وهو يراقب اضطرابها المنقوع في خجلها مع رشة من الغضب... ما ألذ هذا في قلبه وما أحلاه. حتى هو ليس يدري لماذا يفعل بها هذا، لماذا يخرجها عن طوعها بكلماته، بحركاته وحتى بنظراته... ورغم ذلك هي تعشقه وتذوب فيه كقطعة من السكر... ولا تفهم كيف لفتاة مرهفة الأحاسيس مثلها أن تقع في غرام أرعن مثله.
قطعت عليه فرجته بعد أن شدت بأسها ولملمت أفكارها المتناثرة. بسؤال جعله يرجع لجادة صوابه.
نهاد: لماذا جئت إلي لتصطحبني من منزلي إلى هذا المكان...
تنحنح للحظات وهو يبحث عن إجابة واضحة، لكنه هو نفسه تفاجأ بأن الإجابة مفقودة...
ليوباردو: أنا جئت فقط لأطمئن عليك... ثم راودتني فكرة أن أغير من جوك المعتم بعد أن أشفقت على حالك... على كل حال، ستتركين البلدة ولن تضطري لرؤية رجل مثلي...
تحول وجه نهاد إلى علامة تعجب كبيرة وهي تستمع لكلامه... شعرت بلكمة قد سددت باقتناص على قلبها في حين غفلة... هل قال لتوه أنها سترحل ولن تضطر لرؤيته؟ هل قصد أنه لا يهتم لرؤيتها مجددا... لقد قال أنه يشفق عليها... هل فعل كل هذا بداعي الشفقة.
شعرت نهاد بالاختناق وألم شديد يعتصرها لكنها حاولت جاهدا ألا تجهش بالبكاء... كيف لا تبكي وهو قد قصف لتوه عالمها الوردي ودمر كل معالمه... لا يكفي هذا لوصف الدمار الذي ألحقه بها بمجرد نطقه بتلك الكلمات.
رغم محاولتها لإخفاء الألم وتصنع اللامبالاة إلا أنه كان شديد الملاحظة بما يكفي ليدرك ما قد لحق بها. ليس باليد حيلة... عليها أن تدرك الحقيقة وترحل بعيدا عن طريقه... أن تعيش منكسرة خير من أن تتحول في عالمه إلى رماد.
توقفت العجلة وحان دورهما في النزول. قفزت نهاد من مكانها تسرع الخطى ولم تنتظر ليوباردو الذي لحق بها وهو يهتف باسمها... لكانت فرحت كثيرا لسماعه منه لو لم يقذفها إلى هوة المنحدر بكلامه قبل قليل.
تساقطت دموعها الحارقة على خديها فركضت قبل أن يصل إليها ويرى حجم انكسارها. هي حتى وإن كانت تعشقه، فلابد لها من أن تحفظ كرامتها وعزة نفسها.
لحق هو بها للحظات لكنها اختفت وسط الزحام. فثار غاضبا وهو يتمتم ساخطا ثم مسح على شعره بغضب و بدأ يقلب عينيه بالأرجاء مفكرا أين يمكن له أن يجدها.

بقايا ركام لكاتبة  بريق الاملحيث تعيش القصص. اكتشف الآن