الفصل الثالث والثلاثون

106 2 0
                                    

الفصل الثالث والثلاثون




بعد صلاة الظهر عاد فراس إلى قاعة الانتظار ليجد الطبيب يتحدث إلى والدي لينا وأخيها ومعهم نهاد، أسرع الخطى ليقف بينهم ويستمع لآخر كلمات الدكتور: لقد استفاقت قبل دقائق... سنسمح لشخص واحد بزيارتها... واحد فقط وألا يطيل المكوث عندها.
دبت السعادة في قلبه وشعر بالأمل يولد بين جوانبه من جديد وهمس بفرح: الحمد لله.
كانت صفية سعيدة وهي تحمد الله أيضا وحسام يضمها إليه فرحا.
الدكتور: من سيدخل؟
نظر الجميع إلى بعضهم البعض... الكل يريدون رؤيتها... ثم التفت الدكتور إلى فراس ممازحا.
الدكتور: أنت زوجها... لقد أزعجتني قبل قليل بما يكفي بكثرة الأسئلة، تعال لتراها حتى ينعم آخر يومي ببعض الهدوء...
فرحت نهاد وحطت يدها على كتف أخيها سعيدة برجوع ابتسامته إلى شفاهه. لكن فراس ألقى بنظرته إلى صفية وهو يقول: أنت الأحق بزيارتها... إذا كان هذا القلق المريع الذي أعاني منه أنا زوجها فكم هو مقدار خوفك ولوعتك...
تهللت أسارير صفية التي لم تتوقع كرما كهذا من صهرها لأنها كانت مقتنعة من أنه لن يفوت فرصة كهذه بعد أن شاهدت ما يعانيه من ألم وحزن وفتور طوال الوقت. شكرته كثيرا وهي تدعو له ولابنتها وأسرعت مع الطبيب لارتداء الثياب المعقمة حتى تدخل غرفة الانعاش. بينما عاد هو وأخته ليجلسا على الكراسي القريبة وهي تمسك بيده وتردد بسعادة.
نهاد: الحمد لله... الحمد لله.. استفاقت أخيرا...
بدت ملامحه سعيدة وهو يستمع لكلماتها دون أن يعلق فقد كان مشغول البال عليها وينتظر خروج صفية من الغرفة حتى يسرع إلى هناك بشوق لرؤيتها من خلف الزجاج.
حركت نهاد عيونها بأرجاء القاعة بحثا عن ريان الذي طال غيابه، وفكرت أن تواجد عمه بالمكان هو ما يزعجه، والحقيقة أنه لم يعد يهتم لأمره مطلقا فوجوده من عدمه سواء، ربما في السابق كان يكرهه لدرجة أنه لا يطيق أن يتنشقا نفس الهواء بالقاعة نفسها لكن الآن لم يعد الأمر عنده يعدو الاشمئزاز والاحتقار... رجل مثل هادي لن يجعله ينال شرف تعكير صفو حياته مجددا، ليس بعد أن دمر حياته السابقة...

أقفلت ميس الغرفة عليها تاركة وجدي يترجاها أن تفتح له حتى يطلب منها مسامحته، بينما هي كانت تقوم بجمع أغراضها وسط تلك الدموع والأشجان. حملت أغراضها وأغراض ابنتيها ثم دفعت الباب بشدة لتجده هناك منتصبا تكسوه الخيانة من رأسه حتى أخمص قدميه وتحاوطه هالة النفاق لتملأ الفضاء من حوله.
ارتمى عليها مستجديا أن لا تتركه، متوسلا أن تستمع إليه وأن تتفهمه... ضميره يؤنبه حد الجنون... أدرك الآن الفضاعة الحقيقية لما فعله... هاقد انتحرت تلك الفتاة الضائعة ورحلت ململمة معها كل الخزي والعار الذي جنته على مر السنين وكان هو آخر من أغرقته معها... لا يريد أن يستوعب فكرة أنه دمر كل تلك السعادة والثقة التي بناها مع زوجته وجاهد ليرصفها حجرا حجر على مر الأيام... زوجته التي لطالما حرصت على أن تكون مخلصة وفية له وكان مجرد التفكير العابر بحبها القديم ريان يُعد بالنسبة لها خيانة تتطلب الغفران...
خرجت إلى الطريق وهي تحمل ابنتها الصغيرة رفيف بيد والأخرى رغد تلحق بها متمسكة بمقبض الحقيبة التي تجرها والدتها بعنف.
أسرع ريان الذي كان متوكئا بظهره على سيارته بانتظارها. أخذ منها الحقيبة وجعلها في الصندوق الخلفي للسيارة وفتح لها الباب فركبت رفقة ابنتيها بينما منعه وجدي من إغلاق الباب وهو يطلب إلى ميس النزول للحديث وإياه ...لكنها شدت على مقبض الباب وأقفلتها بشدة وهي ترمقه بنظرات احتقار دون أن تقول أي كلمة، بينما بقي هو خارجا يعتريه الذل والهوان. ليهمس له ريان من بين شفاهه: بالله مالذي حصل؟
عرف وجدي أن ميس تكتمت على الفضيحة ولم تخبر أحدا بحقيقة ما حدث... ثم مالذي ستقوله؟ هذا زوجها وتلك أختها وإن كان الاثنان أحقر من بعض فهي لن تشاركهم دناءة الأخلاق تلك، يكفيها أن يغرب هو عن وجهها حتى ترجع الطمأنينة لتسكن كيانها تدريجيا من جديد...
هزه ريان ليخرجه من دوامته تلك مرددا: مهما كانت المشكلة أتمنى أن تتدارك أمرك وتصلح الوضع... على الأقل من أجل ابنتيك...
رفع وجدي طرفه ليشاهد ابنتيه داخل السيارة وهما تبكيان بصراخ وأمهما تحاول اسكاتهما... هكذا هي الحياة دائما الأطفال هم من يدفعون ثمن أخطاء الوالدين... فمهما بلغ العذاب بوجدي وميس فهو لني كون بحجم انكسار البنتين لو أن الاثنين افترقا عن بعض...
بدى وجدي يائسا كسير الأمل وهو يهمس لريان: لقد انهار كل شيء... لن أستطيع جبر ما انكسر...
ريان: إن حاولت تستطيع...
ركب السيارة بعد أن ترك وجدي فريسة قهره وندمه وشغل المحرك وهو يتأمل ميس الجالسة بالمقعد الخلفي عبر المرآة بمقدمة السيارة، كانت عيونها متورمة من البكاء ولكنها لم تذرف الآن أي دموع، ربما لأن وجدي لا يستحق دموعها تلك... البنتان حولها وهي تضمهما إليها بشدة تستمد منهما بعض السكينة... آلمه جدا رؤيتها على تلك الحال وهو الذي اعتقد أنها وجدت السعادة أخيرا... يأمل أن تكون مشكلتهما بسيطة، لكنه يعرف أن ميس ليست بتلك التافهة التي قد تهجر بيتها وزوجها من أجل أمر تافه... في الأخير تنهد واستغفر ضاربا المقود بيده وهو يقلع بتلك السيارة تاركا المكان لوجدي يحترق بنار فعلته الشنعاء.

بقايا ركام لكاتبة  بريق الاملحيث تعيش القصص. اكتشف الآن