الفصل الثالث والعشرون
بعد أن سمعت بذلك الخبر القاسي الذي زلزل كيانها أطلقت لينا خطاها التائهة بذلك الرواق الطويل وهي تراقب وجه ليوباردو من بعيد وهو يتجهم وتعلوه غمامة حزن عميق بعد أن أخبره الدكتور حسن بالواقع المرير.
أطلقت آهة ألم تحاول التشبث بخيوط الصبر ولو كانت واهنة، فشموسة الخرفة ليست فقط جدتها... انها ابتسامة ذلك القصر وروحه... ومع رحيلها ستنطفئ آخر شمعة تضيئ عتمته...
شدت على رأسها بقوة تحاول أن تتحلى بالشجاعة، وما إن لمحها على تلك الحال حتى أقبل باتجاهها. وعندما أصبح بقربها رمقها بنظرة أسى.
فواز: عليك التحلي بالصبر.
هزت رأسها بألم... فماذا عساها تفعل إن لم تصبر؟ ثم التفتت إليه كمن لدغته أفعى وقد تذكرت أمرا مهما.
لينا: أنا أفكر في إبلاغ والدة الدكتور حسن بالوضع... إن كانت هي أروى فعليها إدراك والدتها قبل أن تغادر الدنيا، وأنا أفعل كل هذا من أجل جدتي فهي تستحق أن تتحقق أمنية من أمانيها قبل أن.... تموت.
واستغرقت في البكاء بعد أن حملت إليها هذه الكلمات المتشائمة لهيبا من نارالفراق. يؤلمه حقا أن يراها على تلك الحال فما يصيبها هذه الأيام كثير عليها دفعة واحدة...
إنه يراها النقية والشجاعة الوحيدة بين الكل، فصحيح أن ميس لا تقل طيبة عنها إلا أن كل ما مر بها جعلها تفقد الكثير من شجاعتها وقوتها، أما لينا فقد أبهرته أول مرة عندما أعادت السندات لريان دون خوف من والدها المتغطرس، ثم هاهي الآن تدافع عن زوجته وتقف بوجهه دون خوف مع أنه هو نفسه يوجل منه لمعرفته بما هو قادر عليه. والآن تريد السعي وراء حقيقة سماح إلى النهاية دون كلل أو ملل...
إنها حقا امرأة من فولاذ جمعت قوة هذه الأسرة وشدتها مع طيبة ورقة متأصلة فيها.
تابعت لينا ببحة واختناق من شدة تأثرها.لينا: لو كانت أروى تلك ابنة صالحة ما كانت لتتوانى عن الارتماء في حضن والدتها يوم رأتها أول مرة، لكنها لم تهتم لذلك مطلقًا...
عاد فواز لرشده مع كلماتها الأخيرة وأجابها بأول فكرة خطرت على باله.
فواز: اتصلي بها، لن تخسري شيئًا...
حركت لينا رأسها بالايجاب وسارت بضع خطوات وهي تفتش عن هاتفها بجيوببها فقرر أن يخلي لها الجو لتتحدث براحة، فتابع طريقه إلى الخارج.جلست ميس على أحد الكراسي وبقربها جلست بهية وهي تبكي بشدة حتى أن صوت نواحها ملأ الأرجاء. فأخذتها ميس في حضنها وهي تذرف دموعها في صمت. هل ستواسيها أم تواسي نفسها؟ كلهم أحفادها أجل، لكن لبهية حكاية أخرى... وعلاقتها بالجدة لها طعم آخر ونكهة متفردة... إنها جليستها وصديقتها وابنتها وكل شيء... إنها من قضت كل عمرها في خدمتها وتكن لها محبة عظيمة بقلبها. وليس من السهل أن تعرف الآن أنه قد حان وقت الفراق...
كان فواز قد خرج من المستشفى وبعد بضع خطوات شاهد ناريمان منعزلة وهي تجلس بأحد الكراسي بساحة المشفى غير مبالية بذلك الجو البارد. اقترب منها وهو يضع يديه بجيوبه فرفعت رأسها إليه متسائلة عن هوية زائرها.
فواز: ماذا تفعلين هنا البرد شديد؟
لم تجبه بكلمة وعادت لتطرق بألم محاولة رسم اللا شعور على وجهها، لكنها لم تكن بارعة بما يكفي، أو أنه متعود على اكتشاف الخبايا من عشرته الطويلة لليوباردو.
أبعد بعض الثلوج عن الكرسي وجلس بالقرب منها. يفهم شعورها بالألم وحزنها العميق على الجدة، إنها تحبها رغم كل الشر الذي يسيطر عليها أحيانا... ومن لا يحب الجدة غريبة الأطوار... ابتسم لا إرايا وهو يتذكر روح الدعابة لديها وضرباتها الموجعة.
بقي يراقب المارة من بعيد لفترة ثم قرر أن يكسر حاجز الصمت بينه وبين هذه الفتاة التي ربما تكون تائهة وبحاجة إلى دليل.
فواز: ناريمان... ليس عيبا أن تبدي شعورك بالحزن وتعبري عن ألمك...
لم تكن ناريمان ترغب في الحديث إليه. يكفيها كَمُّ القهر بقلبها... تجزم أنها إن فتحت فمها بحرف ستنفجر...
بقي هو ينتظر ردة فعلها... إنه أكثر من يعرفها ويعرف وساختها في سابق عهدها فقد كان يتتبعها ويقتفي أثرها لليوباردو الذي كان يطلب منه اقتصاص أخبار عائلته عند خروجه من السجن، لكنه لن ينصب نفسه قاضيا ليحكم على تصرفات البشر... هي أخطت، وهو أيضا أخطأ بيوم من الأيام ودخل السجن عقابا له وهناك التقى بريان، أو الزعيم ليوباردو مثلما اصبح الآن.
الجميع يحتاج انطلاقة جديدة وبداية دون أحكام مسبقة... إنها فرصة أخرى لإثبات الذات، لإلقاء الماء على الخطأ من أجل محوه وتطهير النفس من نتانته...
يشفق عليها من ذلك الشعور الرهيب بالذل والمهنة الذي يختلج بصدرها وإن بدت صلبة لا تهزم للجميع، إنه أكثر من يعرف بأن احتقار الذات يرافقها دوما وأينما حلت... ربما هذا هو السبب من كرهها لكل من يحيط بها، أن تشعر بهذا الاحتقار في عيونهم وهم يرمقونها بنظرات ازدراء...
لقد جرب كل هذا مدة من الزمن... قبل أن يجد لنفسه انطلاقة جديدة.
رتعشت شفاهها للحظات وكأنها وجدت أخيرا شخصا يفهمها وحاولت أن تبثه بعضا من همومها.
ناريمان: سأكون وحيدة، لن أجد من يملأ علي وقتي بالأعمال الشاقة ويسرد علي التفاهات... لن يكون هناك من يضربني بالعصى ويعلمني الأدب... لن أستيقظ في منتصف الليل لأفرك ظهرها، ماذا أفعل بزيت الزيتون الذي في المنزل. وكيف أستطيع دخول البيت الذي في كل ركن منه هناك عبقها... كيف سأعيش من دون أن أتذكرها...
ثم صمتت تكابد سيل دموعها فهي لم تتعود الظهور بالوجه الضعيف أمام أحد وإن كان هذا الوجه يلازمها أغلب الوقت. وأخيرا ارتمت في حضنه خائرة القوى مستسلمة لدموعها. ارتجف للحظة متعجبا فلم يكن يعتقد أن كلماته البسيطة سيكون لها كل هذا التأثير عليها ! فغالبا ما كانت تسمعه بعض الاهانات والشتائم إذا ما حاول تحديثها عن أي موضوع... لربما صادف أن أصابها اليوم وهي في حالة ضعف وانهيار... هذا الذي جعلها تخر بهذه الطريقة.
ابتسم منتصرا أنه استطاع أخيرا أن يصل لقعر البئر المعتم ومسح على ظهرها بحنو مطمئنا لها.
فواز: اهدئي... أنت لن تكوني وحيدة فأهلك معك، وكذلك أختك وعما قريب ستصبحين خالة... أنسيت!
في هذه الأثناء مر أحد الشباب من هناك ونظر إلى ناريمان ذائعة الصيت.
الشاب: أنت هنا يا فتاة الملاهي، لم أرك منذ زمن! الدور بعده سيكون لي... والدفع سيكون سلفًا لكنني لن أكتفي بمعانقتك.
أثار هذا الكلام سخط فواز فلم يشعر بنفسه إلا وهو ينهال عليه ضربًا ولم يستطع من هناك فك النزاع حتى حطم أضلاعه.
أنت تقرأ
بقايا ركام لكاتبة بريق الامل
Romanceالانفجار... هو تلك اللحظة التي تضع نهاية للاحتقان والصراع المستمر بداخلك... هو تلك اللحظة التي تمنحك الحرية على حساب روحك المتناثرة أشلاءا في السماء... هو نقطة اللارجوع... وما اصعبها من نقطة تكون النهاية فيها بداية لفصل جديد. فصل من السواد تتخلله آه...