الفصل السابع.

11.1K 449 13
                                    

رواية "أحيا بنبضها".
"الفصل السابـع".

ما بين النَّصيب والقدر
هُناك مقبرة دُفنت فيها نصف مشاعِر البشر.

تخشبت ساقيه في محلهما، وتجمدت الدماء في عروقه من الصدمة، حاول أن يبتسم محاولًا إخفاء توتره من زيارته المفاجئة، فـ أشار بيده للداخل وهو يقول بجدية متزنة:
-أهلا يا سيدنا، أتفضل.
رفع "هارون" حاجبه الأيسر للأعلى وهو يحدجه بسخرية، في حين أفسح له طريق الدخول، تنهد بعمق وهو يلج للداخل بخطوات واثقة، وما أن دخل حتى شمل البهو كله بنظرة واحدة، متمعنًا في كل تفصيلة بعينه المُسجلة لكل من حوله بدقة لم تتعد للحظاتٍ من الزمن، تحرك نحو الأريكة، ثم جلس عليها بهدوء، بينما "نائل" وقف أمامه وهو يسأله بإبتسامة مرتبكة:
-أنا أتشرفت بزيارك أوي يا سيدنا، حالًا والشاي يجهز.
سكت للحظةٍ قبل أن يسأله:
-حضرتك بتاخد كام معلقة سكر.
حرك أصابعه برقم أثنين دون أن يتحدث بكلمةٍ واحدة، فـ هز "نائل" رأسه وتحرك مسرعًا نحو المطبخ، وما أن دخله حتى همس بغيظٍ:
-ده إيه إللي جابه ده!!.. شكله ناوي على شر.
بعد فترةٍ، خرج "نائل" وهو يحمل صنية صّغيرة، بها كوبين من الشاي، وضعهم على الطاولة، قبل أن يجلس قبالته وهو يخبره:
-والله يا سيدنا، مجية ساعتك عندي مخلية الفرحة مش سيعاني.
فـ إبتسم "هارون" إبتسامة متشكلةٍ مع قساوة وجهه وهو يقول بلهجة غريبة:
-بلاش تقول كلام مش طالع من جواك، ذبذبات خوفك وتوترك حاسس بيهم من أول ما دخلت.
أرتبك "نائل"، فـ تابع "هارون" ببرودٍ قاتل:
-أنا سامع دقات قلبك، بتترعش، فـ بلاش جو السعادة المزيفة، لأن الكلام ده مش عليا أنا، وإنت عارف ده كويس أوي.
ورغم الصدمة التي حلت على رأسه من كلماته الأخيرة –والتي تضمن حقائق يحاول إخفائها- إلا أنه رد بوجهٍ متجهم كمحاولة بائسة لحفظ ماء وجهه:
-وأنا هتوتر ليه يا سيدنا؟!.. هو أنا عامل عملة، وخايف لأتكشف.
رد عليه "هارون" بإبتسامة ساخرة:
-محدش عارف، عمومًا كله بيبان، مش كدا بردو؟!..
صمت للحظاتٍ، قبل أن يضع "هارون" قدمه فوق الأخرى وهو يتحدث بجدية:
-أنا جيتلك عشان أتكلم معاك بخصوص قضيتك إنت وروفان.
هنا.. أعتدل "نائل" في جلسته وهو يسأله بإهتمام:
-خير؟!..
رفع رأسه ليخاطبه بهدوء:
-حسب معلوماتي، أن أنت إللي أكتشفت خيانة روفان، ومسكت الراجل إللي كانت بتخونك معاه، ونزلت فيه ضرب، ده قبل ما تتنقل عليها، وتجرجرها من شعرها لبرا البيت، والكل شافها وهي بملاية السرير.
تنهد بحرارة قبل أن يسأله بحدة:
-لكن الغريبة بقى، أن محدش شاف الراجل إللي خانتك معاه، ده غير إنك مفكرتش تمسكه وتطلعه برا البيت قدام أهل القرية.
رد عليها "نائل" بهدوءٍ شديد:
-أنا مكنتش شايف قدامي، مكنتش شايف غير خيانتها ليا، وأول حاجة جت في بالي أني أطردها برا البيت، وفضلت واقف برا وأنا بتكلم بجنون عن خيانتها ليا، لغاية ما رجالتك جُم خدوها، وبعدها دخلت.
سأله "هارون" بإستنكارٍ حـاد:
-إزاي الكلام ده؟!.. أي راجل تاني حتى لو فاقد أعصابه، بيخرج الشخص التاني عشان يفضحه، تقوم أنت داخل البيت بمنتهى البساطة، ومتستغربش من إختفاءه؟!..
رد عليه "نائل" بضيق محاولًا إخفاء توترهِ:
-أنا كنت فاكر أن رجالتك مسكوه، ولما دخلت البيت كانت أعصابي لسة بايظة، مكونتش شايف غير صورتها وهي بتخوني.
إبتسم بتهكم قبل أن يسأله بحدةٍ عالية:
-رجالتي يمسكوه إزاي؟!.. وأنت كنت واقف قدام باب بيتك بظبط،  وأول ما خدوها، إنت دخلت على طول مستنتش.
رد عليه "نائل" بضجر وقد بدأ يزداد إرتباكه:
-ما أنا مش عارف، جايز هرب.
عاد يسأله بسخرية لازعة:
-وإزاي هيهرب يا أستاذ نائل وإنت واقف قدام الباب، ولو أفترضنا أن أنت كنت بعيد عن الباب بشوية، إزاي هيخرج من البيت قدام أهل القرية إللي لو راجل منهم شافه مكنش هيعتقـه.
سأله "نائل" بإنفعال بيّن:
-هو حضرتك عمال تسألني أنا وكأني أنا المتهم، أنا مالي بالكلام ده؟!.. ما ممكن يكون هرب من الشباك. أي حاجة عشان ميتعاقبش.
رفع "هارون" حاجبه للأعلى وهو يحذره بلهجة قاسية:
-لهجتك تتعدل يا نائل، شوف أنت قاعد قصاد مين، فـوق.
أخفض "نائل" رأسه يسحب نفسٍ عميقًا ويزفره ببطءٍ محاولًا تمالك أعصابه، في حين سأله الأخير بجدية رغم هدوء نبرته:
-وأنا قاعد هنا بحقق معاك لأنك إنت الوحيد إللي شوفته، والوحيد إللي أتكلمت معاه، وعشان أجبلك حقك منه، وياخد عقابه، ولا إيه؟!..
رد عليه "نائل" بلهجة جادة وهو ينظر بعيد عن مرمى عينيه القاسيتين:
-أنا معرفش حاجة، ومش فاكر شكله أوي، أنا دخلت البيت وملقتوش، أفتكرت أن رجالتك مسكوه، أو هرب من الشباك، وقولت في الحالة دي أكيد هيتمسك.
إبتسم "هارون" إبتسامة قاسيةٍ، وإزدادت ظلام عيناه السوداوين، مما جعل "نائل" يرتجف من داخله، وهو يشعر بأنها بداية غير مُبشرة، أنتفض فجأة من مكانه حينما هب فرعون واقفًا يعدل سترته وهو يقول له بصيغة آمرة:
-عاوز أشوف أوضتك، وكل شبابيك البيت ده.
نهض "نائل" من مكانه وهو يومئ برأسه، قبل أن يشير بيده نحو غرفة نومه، أمسك بمقبض الباب وفتحه، قائلًا بهدوءٍ متوتر:
-أتفضل يا سيدنا، دي الأوضة.
دخل "هارون" الغرفة يتمعن في كل ركن حتى لو صغير، حتى وقعت عينيه على النافذة، هي بالفعل نافذة كبيرة قليلًا، ولكن لا يستطيع أي مخلوق الخروج منها، ضيق عينيه وهو يدنو نحوها ليلاحظ وجود خشب أسفله، وآثار المسامير بجانب النفاذة، فـ ألتفت برأسه يسأله بغموضٍ:
-هو إنت يا نائل، كنت بتحبس مراتك؟!..
ألجمه سؤاله الغير المتوقع، فـ بلع ريقه بتوتر وهو يُجيبه بإرتباكٍ:
-أنا كنت بس بعاقبها، فـ حبستها فترة كدا.
أومئ رأسه وهو يتمعن بنظراته الحادة حوله، قبل أن يخرج ويرى كل نافذة في ذلك البيت، وما أن أكتفى بذلك، حتى تحرك إلى باب المنزل، فقال "نائل" بتوتر:
-مشربتش الشاي يا سيدنا.
ألتفت "هارون" برأسه يبتسم له إبتسامة سوداء قاتمة قبل أن يخبره بلهجة ساخرة:
-ماتقلقش يا نائل، هنتقابل قُريب، وقُريب أوي كمان، وقتها هنشرب الشربات الفرح لما كل واحد يعرف حقه، وياخده كمان.
أنهى كلماته بهدوءٍ مريب، قبل أن يفتح باب النزل، ويخرج بخطوات واثقة، وقد كشفت له تلك المقابلة الكثير من الأسئلة، في حين ظل "نائل" يراقبه بعينين قلقتين وهو يهز رأسه بالسلب قبل أن يهمس بتوجس:
-يا ترى تقصد إيه بكلامك ده؟!.. أنا مش مطمن.

أحيا بنبضها - أميرة مدحتحيث تعيش القصص. اكتشف الآن