الفصل الثالث

14.2K 499 21
                                    

رواية "أحيا بنبضها"
الفصل الثالث.

كم مرة هزمتنا الخيانة دون قتال؟!

كانت تمسك بالكأس الذي تشرب منه بأصابع مرتجفة، ومئـات الأسئلة تدور بذهنها، والأفكار العبية تعصف برأسها يمينًا ويسارًا، أبعدت الكأس عن فمها، فـ بسط لها يده؛ كي يتناوله منها، ووضعه على الكومود المجاور لها قائلًا في هدوء مُريب:
-أعتقد أنك هديتي دلوقتي، بلاش بقى توتر لأني مش بحبه.
رفعت "روڤان" بصرها المتوتر حياله، وهي صامتة تمامًا، التكالب الذي على عقلها الآن يمنعها حتى من التفكير بـ روّية، أو التركيز في حديثه، بينما تابع "هارون" بلهجته القوية:
-حاليًا في ضيف مُميز هيحضر قعدتنا اللطيفة دي، وبعدها هنسيبك ترتاحي شوية.
أجفلت بصرها بخوفٍ، هز "هارون" رأسه بإيماءة خفيفة وقد لمح إرتجافة جسدها الخفية، قبل أن يستقيم في وقفته، ويفتح باب الغرفة، ثوانٍ.. وكان يدخل "يونس" بخطى هادئة كنبرته تمامًا حينما قال:
-مساء الخير.
رفعت "روڤان" عينيها نحوه وقد عرفته على الفور، فهو "يونـس التُهامــي".. رفيقـه الوحيد في تلك البلده، وهو الشخص الوحيد الذي يقوم بدراسةٍ حالة المتهم، ويساعد في كشف خبايا القضية التي تقع بين يديـهِ.
أمل جديد تعلق به قلبها، ربما يساعدها في ظهور براءتها، وهي تراه يجلس على الأريكة يضع قدمه فوق الأخرى، وفي يده قلم مع أچندة صغيرة، أعتدلت "روڤان" في جلستها بقلق وهي ترى الفرعون يدنو نحوها بخطى متريثة.. مدروسة قبل أن يسألها بهدوء وهو ينظر إلى عينيهـا:
-دلوقتي يا روڤان، أنتي حاليًا متهمة بخيانة جوزك، ده غير محاولة إنتحـ.ار!.. إيه رأيك في الكلام ده؟!..
تقلصت تعابير وجهها قبل أن ترد:
-أنا مخنتوش، أنا لا يُمكن أعمل حاجة زي كدا، حتى لو كان أسوأ شخص في العالم.
سألها "هـارون" بهدوء وهو يشبك أصابع يديه خلف ظهره ناظرًا لعينيهــا بنظرة العارف:
-أومال إيه إللي حصل؟!..
أخرجت "روڤان" تنهيدة عميقة من صدرها لتقول بعدها بتعبٍ:
-كل إللي أنا فكراه كويس، أن اليوم ده بذات كنا أتفقنا على الطلاق، واليوم ده كان هو يوم التنفيذ، وعدني بأني لما أرجع البيت، هيكون هو جاب المأذون، ونفترق بالمعروف، لكن..
ترقرت الدموع في عينيها وهي تقول في شيء من الرعب؛ لأستدعائها أحداثٍ مؤلمة:
-دخلت الأوضة وهو كان لسة مجاش، أول ما دخلت لقيت قماشة وفيها ريحة غريبة بتتحط على بؤي، وإيد بتمنعني من الصراخ أو حتى الحركة، محستش بنفسي بعدها غير بقلم بينزل على وشي من نائل، وهو بيقولي يا خاينة.
أختنقت دموعها بحلقها وهي تنظر إليه قبل أن تتابع:
-صدقني هو ده إللي حصل، أنا مش فاكرة حاجة، مش فاكرة غير أن حد خدرني، وصحيت لقيت نفسي جمب واحد معرفوش، بيقولوا عليا أني خونته معاه، وأنا حتى مش عارفة شكله لأني ملحقتش أشوفه من كُتر الضرب إللي نزل عليا من نائل من قبل ما أفوق.
ظلت عيون "يونس" تتطلع عليها بتركيز، وتسائل حينئذٍ:
-وأنتي إيه إللي خلاكي من الأول تسيبي البيت، وتطلبي الطلاق؟!..
ارتجف قلبها رجفةٍ، وإلتمعت عينيها ببريقٍ حزين وهي تجيب بصدقٍ:
-قبلها بيوم كنت لسة خارجة من المستشفى، وتقدروا تتأكدوا من ده، كنت خايفة أفضل في البيت لوحدي معاه، فـ روحت عند صاحبتي وأعدت الليلة دي عندها لغاية تاني يوم، وهو كان جالي أول ما خرجت، وقتها قولتله صراحةٍ أني مش هقدر أكمل معاه بسبب أفعاله، و.. آآ.. وصلنا للطلاق.
قالت أواخر كلماتها قبل أن تشيح بوجهها بعيدًا عنه، ليستقيم فرعون في وقفته قبل أن يهتف بحدةٍ مشيرًا بسبابته:
-أنتي بتحكي، و بتقصي شوية من كلامك، إيه الهدف من ده؟!. غير أنك فعلًا بتثبتي تُهمتك عليكي.
صمت قليلًا بتعمد قبل أن يعلق عليها محذرًا بجمودٍ ليحثها على الاعتراف بما تخفيه:
-إيه إللي يخليني دلوقتي أصدقك وأنا شايفك بتخبي حقايق في كلامك، ما أنا كدا أتوقع أنك بتألفي.
مازالت الدموع تسلل إلى عينيها فتضعفها رغم القناع الهدوء الزائف الذي ترتديه، فقالت بصوتٍ متقطع:
-وعشان متتوقعش مني أني بألف، لازم أسيب الحكاية ناقصة، عشان أنت تدور عليها بنفسك، لأن طول ما أنا بحكي هيبقى في شك.
رفعت عينيها الحمراوتين إليه قبل أن تتابع:
-وأنا عاوزة الشك يوصل لليقين، لما أنت تلاقي الحقيقة بنفسك، أنا ممكن أحكيلك من هنا لبكرا، لكن عُمرك ما هتصدقني لأنك لا شوفت ولا عشت الوجع إللي أنا عشته.
وتحولت ملامحه للجمود والتحجر وهو يرد ببرودٍ قاتل:
-ماشي يا روڤان، همشي ورا كلامك، لكن لو طلع العكس، أوعي تفتكري بأن معاملتي الهادية دي مش هتخليكي تاخدي عقابك زي إللي قبلك.
نظرت له "روڤان" برعب وهي تهب واقفة قبل أن تقول بصوتٍ ميت:
-لأ يا فرعون، مش هسمحلك أبدًا تنهي حياتي، من غير ما تظهر براءتي، مش هموت مذنبة في عيون الكل، حتى لو وصل الأمر بأني أهرب.
قبض على معصمها فجأة يجذبها نحو تلك النافذة الكبيرة؛ لترى كل ما يحدث في أهل قريتها من على بُعد، همس "هارون" وهو يهز جسدها الضعيف بقوة:
-شايفة؟!.. كل أهل قريتك، والقُرى إللي حوالينا، حتى أهلك عاوزين روحك، لكنها بأمان معايا.
أغمضت عينيها تبكي بحرقة، قبل أن يترك معصمها فجأة، يسحب نفسٍ عميقٍ ويزفره على مهل وهو يضع يديه على خصره، وقد بدت ملامحه أكثر جدية وهو يقول بصوتٍ عميق:
-دلوقتي هسيبك ترتاحي، وبعدين لينا كلام تاني.
ثم صفق بيدهِ فجأة، نظرت له "روڤان" بعينين تبرقان ببريق متوجس على الرغم من الدموع بهما، لترى حارس غرفتها يدخل بصينية الطعام يضعها على الطاولة، ثم غادر، هتف "هارون" بوجهٍ جاد في تعبيراته:
-وده الأكل بتاعك، كُلي كويس عشان تعرفي تستعدي للجاي.
ثم أشار بعينيه لـ"يونس" الذي وثب واقفًا وهو يغلق أچندته الصّغيرة، ثم تحركا معًا نحو خارج الغرفة، وقبل أن يدلف للخارج، نظر له بوجهه الجاد قبل أن يؤكد لها بصوته العميق:
-راجعلك تاني.
ثم أغلق باب الغرفة بهدوء تمامًا، عكس دخوله كالأعصار، لم تحمل قدماها ثقل جسدها، فـ سقطت على الأرض، قبل أن تدخل في نوبة بكاء لم تخرج منها إلا بعد فترةٍ طويلة.

أحيا بنبضها - أميرة مدحتحيث تعيش القصص. اكتشف الآن