(٧) مواجهة الحقيقة

5.7K 423 27
                                    

رواية "أحيا بنبضها" -الجزء الثاني-
"الفصل السابع"

أرقُ من ياسمين.

يكاد الجنون أن يفتك بعقله بعدما تآكلت مخاوفه قلبه، ظل يمسح وجهه بيده مرارًا وهو يستغفر ربه تكرارًا، شعر بأصابع يد تتسلسل إلى أصابع يده، فرفع رأسه نحوها ليجدها تهمس له بقلق:
-مالك؟
قبض على كفها برقة يربت عليه برفق وهو ينظر أمامه بشرود:
-مفيش، عاوزك تدعيلي، ممكن؟
هزت رأسها بالإيجاب، وهي تخبره بجدية:
-طب ممكن متقلقش من أي حاجة، أكيد خير.
كان يود ذلك كثيرًا، ولكن رجوع شقيقته في ذلك الوقت تحديدًا علامة غير مبشرة، هو يخشى عليها من أهل القرية الذين ينتظرونه أمام قصره، ويخشى عليها من أعداءه الذين يحاربونه كالشبح، ويخشى عليها من ردة فعلها حينما تعلم بزواجه من فتاة إبنة قاتـل أبيهما.
فوجد نفسه ينظر أمامه في نقطة فراغ وهو يهمس بوجوم:
-ربنا يستر.
*****

تجمدت بأرضها وتعابيرها الرقيقة احتلها الأضطراب الشديد من نظراتهم الغريبة لها، جميعهم كانت أعينهم مسلطة على تلك الفتاة التي تبدو أمام الجميع فتاة رقيقة.. ناعمة، ولكن بداخلها امرأة مثل النمر، حينما تتحول تصبح كأخيها تمامًا.
كانت عينين "فادي" مبهورتين بذلك الجمال الرقيق وإبتسامتها الصغيرة، ولكن عقد حاجبيهِ بإستغراب وهو يسأل الشخص الذي يقف بجواره بصوتٍ مريب:
-مين البنت الجامدة دي؟
رد عليها بصوتٍ هامس مضطرب:
-متقولش كدا، دي هدى هانم، أخت سيدنـا.
تلاشت نظراته المنبهرة لتتعقد ملامحه بشدة وهو يهمس بإستنكار:
-إيه؟ هي من العيلة دي! أستغفر الله العظيم.
ثم إلتفت برأسه نحوها يحدق بها بعينين مزدرتين، لتعلق على الجميع بسؤالها الجاد:
-مالكم يا جماعة، واقفين كدا ليه؟!
تقدم "فادي" منها بخطواتٍ ثابتة حتى وقف قابلتها ليجيبها بصوتٍ محتدًا وبعينيه التي تتفصحها بإنزعاج شديد:
-أخوكي خاطف أختي، وإحنا مش هنمشي من هنا إلا لما يجيبها.
أطلت شرارات الحنق من عيني "هدى" ثم عقبت باستنكارٍ وقد بدت غير مقتنعة بأي حرف مما يمليه على مسامعها:
-إنت أكيد غلطان، أخويا لا يمكن يفكر يأذي حد من أهل البلد، ويقرب لواحدة ست أبدًا.
صاح بها بإنفعالٍ أشد:
-لأ، خطفها، وأهل البلد كلهم عارفين وشاهدين على ده، وإحنا مش هنمشي أبدًا من هنا غير لما يجيبها، ياإما بقى تبقى حرب بالدم.
ارتفع حاجبها للأعلى متسائلة بوجه مشتعل:
-إيه حيلك حيلك، فوق كدا، أختك تبقى مين عشان أخويا يخطفها زي ما إنت بتقول، إنتوا مين بظبط، من عيلة مين؟
رد عليها "فادي" بثباتٍ بعد عدة لحظات من الصمت:
-من عيلة التاجـي!
رأى توسع حدقتيها بوضوح كوضوح الشمس، تلتمع عيناها بشرٍ واضح وهي تصر على أسنانها حينما قالت بغضبٍ:
-وأنا بردو بسأل نفسي، عن حرب الدم دي، أتاريكم عيلة مش بيخلص أي حاجة عندها إلا بالدم، زي ما قتلتوا أبويا زمان لما أتكشف على حقيقته.
احتج هاتفًا بعصبيةٍ وهو يلوح بذراعه:
-وأخوكي رجع عشان ينتقم مننا، على جريمة مالناش يد فيها.
إلتوت شفتيها بسخرية وهي تهتف بلهجةٍ قوية يتخللها المرار:
-آه طبعًا، مالكوش يد فيه، سرقتوا فلوسنا، وقتلتوا أبونـا بعد كشفكم.
ثم سحبت نفس عميقًا وحبسته في صدرها قبل أن تشير بإصبعيها تتابع بجدية مخيفة:
-إسمع، مش هسمحلك تدمر أخويا زي ما أبوك دمرنا زمان، هقفلك.. وإنت عارف إني أقدر على كدا، كفاية أني أخت هارون الكردي.
ثم إبتسمت بثقة وهي تخبره بإحتقار:
-يعني تربية إيديه، وإتفضل غور من هنا.
وقبل أن يصيح بها غضبًا، كانت تقاطعه ببرودٍ قاسٍ:
-وأختك هترجعلك، أخويا مش زيكم، أخويا راجل ومحترم، والأهم أنه يعرف ربنا، ولو غرضه وحش، كان عاملها في السر، مش في العلن، إنت فاهم ولا مش بتعرف تستوعب؟
صر على أسنانه بغيظٍ مكبوت، قبل أن تمر من بجانبه وتواجه بمفردها القرويين، نظرت إلى الجميع نظرةٍ شاملة وهي تقول بإبتسامة لطيفة:
-أنا حابة أسألكم سؤال واحد بس، إنتوا إزاي جايين برجليكم هنا لمجرد كلمتين من الأستاذ ده أنه خطف أخته، ونسيتوا هو بيتكلم عن مين، نسيتوا أنه أتكلم عن أكتر شخص كان عادل معاكم، ورحيـم بيكم، وبيعمل الخير لكل واحد فيكم، وكل ست هنا بيشيلها على راسه من فوق، جايين تقفوا ضده، وتصدقوا إنه فعلًا هيأذي واحدة لمجرد الإنتقام؟
تقدم أحدهم وهو يقول برجاء:
-يا ست هانم إحنا عارفين سيدنا كويس، بس عاوزين الإنتقام ميعميش عينيكم، وتاخدوا واحدة مالهاش ذنب.
ردت عليه بلهجة جادة للغاية ولم تفقد إبتسامتها الناعمة:
-إطمنوا، ولو البنت دي اتأذت، أنا أول واحدة هقف قصاده، ثقوا فينا، زي ما إنتوا طول عمركم واثقين فينا.
تبادلت النظرات ما بين الجميع، قبل أن ينطق أحدهم بحسم:
-وإحنا هنمشي يا ست هانم، بس عاوزين ناخد ميعاد أكيد برجوع سيدنا.
-بكرا بالكتيـر إن شاء الله.
هز الجميع رؤوسهم، قبل أن يبدأ كل واحدٍ منهم بالإنسحاب إلى أشغاله التي تعطلت لأيامٍ طويلة، إلتفتت "هدى" تحدق بعيناها الجامدتان لـ"فادي"، الذي دنى منها وهو يخبرها بلهجة صارمة:
-أنا سبتك تمشيهم، لكن إسمعي، لو حد فكر يأذي شعرة من أختي، هقلب البلد دي على دماغكم.
كانت دماء "هدى" تغلي في عروقها من فرطِ الغيظ، والنقم يظهر بوضوح فوق تعابيرها الرقيقة، فراحت تهتف له بحقد:
-Barbaric. (بربري)
احتقن وجهه بحمرةٍ مغتاظة من تطاولها بالسباب عليه، اقترب "فادي" منها ليتمسك بكتفها ليواجهها بحزم:
-إنتي زودتيها أوي يا بنت الكردي، و واضح إنك متعرفنيش كويس.
ثم هتف بثقة وهو ينظر حوله:
-أنا غير إللي هنا، مفيش قوانين بتمشي عليا، وإللي بعوزه بعمله، مهما كان مستحيل.
يبتسم إبتسامة بدت مخيفة وهو يدنو برأسه نحو يهمس في أذنها بصوتٍ أقشعر له بدنها:
-أحب أقولك إنك هتلعني اليوم إللي عرفتي في فـادي التـاجي، لو أختي جرالها حاجة.
تراجع خطوة برأسه ليحدق في عينيها المذهولتين مباشرةً وهو يختم حديثه منهيًا ذلك الحوار الغير راقي:
-أحفظي الأسم ده كويس يا هدى هانم، لأن الأسم ده هيبقى جزء من حياتك، علامة مش هتقدري تخلصي من هنا.
قالها وهو يدفعها بحدة بعيدًا عنه، رمقها بنظراتٍ أخيرة باردة مقوسًا فمه بإبتسامة جانبية، ثم أولى لها ظهره مغادرًا من ذلك المكان، لتجد نفسها تهتف بسخرية:
-عاملي فيها جامد، خوفت أنا كدا؟!
*****

أحيا بنبضها - أميرة مدحتحيث تعيش القصص. اكتشف الآن