الفصل الثاني والعشرون (لستُ ضعيف الجناح)

458 19 17
                                    

توقف مكانه وهو يتشبث في يد الصغيرة وكأنها الدرع الحامي إليه، وبجواره بيلا وعلى الجهة الأخرى مها وسراج الذي كان يراقب ردّات فعل صديقه طوال الوقت، ليرى صديقه الذي عُرِفَ بالقوة والعنفوان الآن يقف ضعيفًا ومتخبطًا، أبتهج وجه "راضي" عندما رآه، إنه حقًا نسخة مصغرة مِن أخيه الحبيب الراحل "عدنان المحمدي"

يقف شامخًا كالليث مثله، الوقار يليقُ بهِ وبشخصه، الجدية تعلم عنوانها على معالم وجهه جيدًا، كانوا جميعهم ينظرون إليه بتمعن وسعادةٍ غير عادية، خرجت "شـاهي" مِن بينهم وهي تنظر إليه بتمعن، شعرت برُجفة قلبها حينما تلاقت عينيها مع عينيه، تلك النظرة التي يطالعها بها هي تعلمها جيدًا، كانت تراها دومًا، وتعابير وجهه كانت غير عادية، وكأنها رأتها مِن قبل ولَكِنّ لا تتذكر جيدًا أين

ترك هو يد صغيرته ونزل درجتان السُلَّم ووقف مكانه يطالعها، قلبه يخبره أنها والدته، إنها هي حقًا، معالم وجهها متقاربة وبشدة مع معالم وجه شقيقته، وعلى ذِكرها ألتفت هو بنصف جسده ينظر إليها ليرى التشابه الكبير بينهما، وفورًا تعالت نبضات قلبه وألتفت ينظر إليها مرةٍ أخرى ليشعر أن حلقُه جف تمامًا

كان يخشى أن تكون قد تناست أمره هو وشقيقته، فقد كان حقًا سيكون قد قُضي عليه حينها، ولَكِنّ ما يراه أمامه أنها ليست كذلك فهي الوحيدة التي تطالعه بهذه النظرات دونًا عنهم جميعًا

«"يـوسف"، "يـوسف"، أبني "يـوسف"» نطقت بها "شـاهي" عدة مرات وهي تؤكد إلى نفسها أنه هو حقًا وليست خيالات، بينما تصلب هو مكانه وأزدادت وتيرة أنفاسه مع نطقها لأسمه ونظرة السعادة والأبتسامة التي ظهرت على محياها، صرخ قلبها شوقًا إليه، صرخ قلبها حُبًّا إليه، صرخ قلبها حزنًا عليه، كانت تظن أنه مات، كانت تظن أنها لن تراه مرةٍ أخرى، لقد أختفى تمامًا ولَم يعلم أحدٍ أنه مازال على قيد الحياة، فقدت الأمل، وأستودعت أمرها لربها

ولَكِنّ كان ربها غفورٌ بها وها هو ولدها الحبيب قد عاد إليها مرةٍ أخرى، نعم إنه ولدها هي تعلم هذا، لَم تتغير معالم وجهه كثيرًا، مازالت معالم وجهه محفورةٌ داخل عقلها، صوته الرنان يصدح بأذنيها، ضحكاته الخاطفة وخضراوتيه الصافية لا تُنسى، فرقت ذراعيها في الهواء وهي تنظر إليه بـ عينان دامعتين والأبتسامة تعلو ثغرها

«تعالى يا "يـوسف"، تعالى يا حبيبي متخافش» نطقت بها "شـاهي" بنبرةٍ مهزوزةٍ ومرتجفة تطمئنه أنها لن تؤذيه، لن تضره، فهي والدته، كيف لـ أمًّا أن تؤذي ولدها وهي التي تصارع العالم أجمعه لأجله، تحارب البشر وشرهم لأجله هو، بينما كان هو ينظر إليها وبداخله صوتٍ قوي يدفعه لـ التقدم ومعانقتها، حقًا لَم يتردد، وجد قدميه تقترب رويدًا رويدًا نحوها، وكأنه إنسانًا آلي مبرمجًا على الذهاب لمَن يأمره

كلما أقترب كلما زاد آلمه، كلما أقترب كلما زاد شوقه إليها، أرتمى بأحضانها لتطبق هي سريعًا بذراعيها عليه تضمه بلهفةٍ شديدة داخل دفء أحضانها وها هي أخيرًا تسمح لدموعها بالسقوط على صفحة وجهها والدلوف إلى نوبة بكاء طويلة ومؤلمة، ها هي تضم ولدها الحبيب، هذا الطفل الصغير الذي كان العالم الوردي إليها، أخذته الحياة مِنها لمدة طويلة للغاية، خمسة وعشرون عامًا بدونه، ظنته ميتًا بعد أن فقدت الأمل في العثور عليه، أيقنت أنها فقدت حينها كل شيء، زوجها، وأولادها، لينقلب كل شيءٍ في لمح البصر وترأف الحياة لحالها وتُعيد إليها ولدها الذي سلبته مِنها شابًا كبيرًا تذوق جميع أنواع الألم الجسدي والنفسي

جعفر البلطجيحيث تعيش القصص. اكتشف الآن