يانعةُ القنِّ في الخذلان -قصة-

2 1 0
                                    

ككل يوم يبدأ صباحها على صوتٍ ناعمٍ يتسلل لمسامعها، ناطقاً حروف اسمها بخفة، وككل يوم عند نفس التوقيت الذي يستقر فيه العقرب القصير عند الرقم 7 والعقرب الطويل عند الثانية عشر، تستقر عند اللوح الخشبي حيث تتوزع أمامها أصناف الصحون بعشوائية، تمتد يدا أمها بلقمةٍ من الرغيف المحملة بالبيض نحو فمها، تتدافع اللقم واحدة تلو الأخرى حتى تعلن المقلاة عن خلوها من الطعام، تكلمت أختها وهي تمضغ لقمتها: أمي إلى متى ستستمرين في إطعام أختي لقد أصبحت في المدرسة بالفعل!
أجابت الأم بعد أن ارتسم شبح إبتسامةٍ على شفتيها: لو تركتها تأكل وحدها لبدأ الدرسُ وهي لاتزال تمضغ أول لقمة..
أخذت ونسة تضحك بينما لم يسع ورد المعارضة أو الإمتعاض مما قيل بسبب أن لقمةً أخرى كانت في طريقها إلى فمها.

نادى وليد الذي اعتلته ملامح الإستعجال: هيا يا ورد سنتأخر !
سرعان ما إستعجَلَتْ في ارتداء حقيبتها المدرسية الحمراء المخططة لتلقي بها على ظهرها الصغير الذي بدا متصلباً من ثقلها، ألبستها الأم فردتي الأحذية وسرعان ما انطلق اولئك الثلاثة نحو وجهتهم المزعومة.
وليد هو الأخ الأكبر بينهم، عمره أحد عشر سنة وهو في الصف الخامس الإبتدائي، وأختها ونسة هي الوسطى وتبلغ التاسعة من العمر في الصف الثالث الإبتدائي، أما هي فمعروفة بأنها آخر العنقود ومدللة المنزل، عمرها سبعُ سنواتٍ وأَصبَحتْ ترتادُ المدرسة منذ فترةٍ قصيرة، اعتاد الثلاثة على الذهاب والعودة معاً، وفي كلِّ يومٍ يخرجون سوياً بعد إنتهاء دروسهم في نفس الموعد.
رن جرس المدرسة معلناً عن بدء الحصة الأخيرة لهذا اليوم، سرعان ما تكدّس الطلاب في أماكنهم المعتادة إستعداداً لها، أخذت ورد تنتظر قدوم المعلمة بفارغ الصبر، واضعةً كامل تركيزها ونظرها نحو الدفتر الصغير المستقرِّ أمامها، مرّت الدقائق كالساعات بالنسبة لها وهي تنتظر قدوم معلمتها حتى تُريها واجبها المحلول بإتقان، وخلال دقائق من الإنتظار حالت دون قدوم المعلمة تبين إنهم لن يحصوا على حصةٍ اليوم، لذا فقد إنتهى الدوام بالنسبة لهم وباتَ مسموحاً لهم الخروج، لم تمرَّ سوى ثوانٍ حتى فرغ الصف من الطلاّب، توجهت ورد نحو صف أخيها وإذ به لايزال في الحصة، توجهّت بعد حينٍ لأختها وإذ بها في الحصة أيضاً، لاحت لها أجساد تلاميذ صفها وهم يهرعون إلى منازلهم بِصَخَب، خَطَر لها أن تعود للمنزل لوحدها فهي تعرف الطريق جيداً فاستوقفتها لمحة ماضية لنصيحة والديها " ورد إياكِ والخروج من المدرسةِ لوحدكِ، إنتظري خروج أخويكِ وعودي معهما "
تنهدت لتعود لصفها وجلست هناك وحيدة تنتظر بتأملٍ مرور الوقت، بعد طولِ إنتظارٍ دقَّ الجرس ليعلن عن إنتهاء اليوم الدراسي، سرعان ما توجهت ورد إلى صفِّ أخيها لتجد إنه لايزال في الحصة، وصلت ونسة كذلك لتدرك إنهم سيحصلون على حصةٍ مطولةٍ اليوم.
- تعالي فالنعد للمنزل فوليد سيتأخر
نادت ونسة وهي تمدُّ يدها لأختها الصغيرة في حين اعتلت ملامح التردد الأخرى لتمتنع عن الإستجابة لأختها.
- ولكني أريد إنتظار وليد
- سيعود لوحده لا تخافي
- ماما قالت أنَّ عليَّ انتظاره
- ألا بأس عندكِ أن تنتظري هنا وأنتِ تعلمين أنه سيتأخر؟
هزّت ورد رأسها بالأيجاب لتتنهد ونسة ثم تنطق: حسناً وداعاً إذاً، سأعود أنا برفقةِ صديقاتي.
غادرت ونسة لتقف ورد بمفردها تنتظر، كان التعب قد نال منها فتوجهت نحو صفها لتجلس هناك، خلال دقائق إنتظارها في الصف كان تلامذة صف الخامس قد خرجوا بالفعل ووليد عاد للمنزل بمفرده، وبينما كانت ورد متأملة أن يأتي أخوها ليتفقدها حال إنتهاءه كما يفعل دوماً كانت المدرسة قد أقفلت أبوابها وماعادت تعتلي أرضها أرجل أحدٍ من البشر سواها، أصبحت خاليةً تماماً.
وأما في المنزل فقد كانت صدمة كبرى بالنسبة لوليد وهي كذلك بالنسبة لونسة.. فما كان من وليد الذي رأى أنَّ المدرسة قد فرغت من الطلاّب بالفعل حال خروجه، وأتجه لمنزله ظناً منه أنَّ أختيه عادتا بالفعل، وونسة التي أَبَت ورد العودة معها وتركتها تنتظر خروج وليد، وهكذا فُقدت ورد ليبتدأ كلُّ من يعرفها بالبحث عنها بين شوراع المدينةِ وأزقتها، حتى باتتِ السماءُ تُظلِمُ في أَعيُنِهِم، وفي أعين ورد التي وجدت نفسها تحتضن بعضها بعضاً في إحدى زوايا المدرسة، بعد أن انقطعت أنفاسها من تنقلاتها المستمرة بين صفوف المدرسة المغلقة، وَانبَحَّ صوتُها الباكي من مناداتها الغير مجدية لاسم أخيها، ونال منها الجوع والتعب مناله.
بعد غروب الشمس وعدم جدوى بحث الأهل المتواصل عن ابنتهم، وصلهم خبرٌ من أحد أصحاب وليد وهو يقول أن أهالي المنازل المجاورة للمدرسة يسمعون صوت بكاءٍ قادمٍ من داخلها، ولم يلبثوا حتى اتصلوا بحارس المدرسة ليقوم بفتح الأقفال وتحرير تلك السجينة المحبوسة بين جدران المدرسة.
مامن أحدٍ منا يعرف ماقاسته تلك الصغيرة بين أروقة وصفوف المدرسة المهجورة التي بدت مسكونةً بالأشباح، وحال غروب الشمس بات ذلك الهدوء الموحش الذي كان يحفُّ الأرجاء صاخباً للغاية، ثمَّةَ أصواتٌ قادمة من أقصى شمال المدرسةِ وأقصى جنوبها، أصواتٌ مجهولة تتسلل لمسامعها بعد كل حينٍ وحين.. ليس أصوات قرقرة بطنها التي تطالب بالغداء أو العشاء، وليس أصوات شهقاتها المكتومة في أعماقها، ولاتزال لم تكتشف سر ذلك الضجيج حتى الآن، لكن ماعرفته هو أنها قد تم إنقاذها بطريقةٍ ما.

خواطر إنسانةحيث تعيش القصص. اكتشف الآن