على متن طريقٍ وعرة بين أذرع الجبال، تطل على منحدرٍ خالي الوفاض إلا مِن مئات الأشجار المرصوفة بإتقان الخالق، تجري مطاردة ميؤوسة الإفلات، تتقدم فيها الشرطة بمهلٍ بينما يتصببُ الهاربُ عَرَقاً مِن سوءِ الحال، تترنح مقلتيه كمن يتلقفهُ الموت، وهو يقود السيارة بعزمٍ متمسكاً ببصيصِ الأملِ المتبقي بِلا مَدعاة، تتفحص عينيهِ بذعرٍ ما حوله علّه يجد مهرباً قبل فواتِ الأوان، لتسقط عينيه على ساعة السيارة وهي تستقر عند 6:30، كان ذلك آخر مشهدٍ تطلُّ عليه عيناه قبل أن يجد نفسه محلِّقاً فوق كومةِ الأشجار، هذا قبل أن تتهشمَّ سيارته وتتحول لقطع متناثرة..
أخذت مقلتاه تلمح بياضاً هائماً، يحلق فوقه كما السحاب، تجلى الإدراك لفكره حتى استوعب مايحيطه من أشياء، سريرٌ أبيض ووسادةٌ بيضاء، سقفٌ وستارة تشعان بالضياء، ومن قناع الأوكسجين الذي يكتنفُ فمه أدرك أنه في ذلك المكان حيثُ يقطنُ البائسون في الحياة.
تعالت صرخاتُ الممرضاتِ مستبشرين بالبهجة وخلال ثوانٍ وَجَدَ الطَبيب عِنده، وبعدَ كشفٍ طويلٍ وفحوصات إستقرّ قربه يحدِّثُه إبتدء بالسؤال عن الأحوال ثم عمّا يؤلمه ثم سأل الطبيب:
- أتعلم أنك كُنت في غيبوبة إستمرَّت لخمسة عَشَرَ سَنة؟
- ماذا تَقصِد؟
- هل تَذكُرُ آخر ما حَدَثَ لك قبلَ أَن تصلَ لهنا؟
- لا أَذكُرُ شيئاً
- هذا بديهي، لكن اعلم أنك كُنتَ نائماً لمدّةِ مايقارب الخمسة عشر سنة، إثر تعرضك لحادثٍ على الطريق الجبليأخذ المريضُ يقلِّبُ بَينَ ذكرياته بحثاً عن ذلك اليوم، غير أن كل شيءٍ بدى مظلماً وضبابياً..
- أَتَذكُرُ ماهو اسمك أو عملك؟ أتذكرُ زوجتك أو عمرك؟تمعنَّ في كل هذا وتوصل إلى نتيجةٍ واحدة وهي.. "لا أَذكُر.."
أثناء ذلك تهافَتت امرأةٌ تبدو بمنتصفِ الثلاثيناتِ مِن عُمُرِها الغرفة بِصخَب، تتسابَقُ مع لهفتها وشهقاتِ أَنفاسها حتى باتت كلماتها مكتومة وهي تنطق: وأخيراً إستيقَظت!.. فِراس!تضيَّقت عيونه وهو ينظر إليها، أَشار لنفسه بتساؤل: أتقصدني أَنا؟
قام الطبيب من مقعده مخبراً أياها أن تكلمه بعدما أكَّد لها أنه يعاني من فقدان الذاكرة، أوجمت ملامحها لما ترائى لها من كلمات، ثم تقدمت لتستقر أمامه حالما غادر الطبيب الغرفة، لحظات من الصمتِ مرّت تلاها ارتمائها بين أحضانه، وبعدَ جلسةِ حوارٍ طويلةٍ تبيّن له أنه يُدعى فِراس وأنه يبلغُ مِن العُمُرِ حالياً خمسةٌ وثلاثون سنة، وأن من تجلس أمامه تكون زوجتهُ عَلياء التي تكبرهُ بسنةٍ واحدة، أَخَذَت تحدّثهُ عما عانته فِي غيابه، وأنها ما انقطعت عن زيارته والإعتناءِ بجسده طيلة سنواتِ غيبوبته، ثم نظرت علياء نحوه فوجدته شارد الذهن، إستشاطت غضباً من تصرّفه لتصفعه بقوةٍ على وجهه، نطق والصدمةُ تعتلي محياه:
- ما بالكِ لِما صفعتني؟!
نطقت وأبخرة الغضب تتصاعد من فوقها:
- لم تتغيّر عادتكَ العفنةِ تلك! كم مرةً أقول لَكَ ألا تَشرُدَ عندما أُكَلِّمُك؟!
أنت تقرأ
خواطر إنسانة
Nonfiksiهنا مقبرة لمشاعري المدفونة ، كلمات لأشخاص وأشياء لم و لن يقرئوها .. هنا حيث اللامكان واللازمان يلتقيان لتنسج حروفي كلمات تتراقص على مدى الزمن تحمل معها أحاسيس صعبة التعبير وأقوال صعبة البوح .. بقلمي : ميرا