ظل يمشي في الطرقات على غير هدى ، اعتزل الناس والعالم في الفترة الأخيرة ، توقف عن رؤية أصدقائه وعن متابعة شئونه وهجر العمل ، يفكر فيما حدث وسبب حدوثه له على وجه الخصوص ، إستند إلى شجرة على جانب الطريق ليلتقط أنفاسه المتسارعة من سيره منذ مدة لا يعرف قيمتها دون أن يسد جوعه أو يروي ظمأه.
سمع إرتفاع أذان الفجر فإلتفت إلى المسجد الموجود على بعد خطوات ، رأى كل حين وأخر شخص ليدخله ، سار إلى المسجد ووقف على بابه ينظر إلى المصطفين لإقامة الصلاة سمع شخص ينادي فإلتفت إليه فقال الرجل مبتسماً: ممكن تناولني إيدك يا إبني عشان أقوم
وجده كبير السن شعره وذقنه بيضاء يخالطها السواد فخلع حذائه واتجه إليه يساعده على النهوض شكره الرجل بعد أن وقف ضاحكاً: معلش يا ابني السن بقى هنعمل إيه ؟تابع رامي الرجل وهو يقف بجوار باقي المصلين ، فجأة إلتفت إليه الرجل وأشار له قائلاً: يلا يا ابني مش هتصلي ؟هز رأسه رافضاً: أصل ... أصل ...الرجل بإبتسامة هادئة: خلاص اللي يريحك يا ابني
واستدار الرجل ليبدأ الصلاة ، لم يعلم رامي لما لم يغادر وظل واقفاً في محله يراقب المصلين حتى أنتهوا ، تقدم الرجل منه وسأله: أنت لسه واقف عندك ؟أومأ رامي فعاد الرجل يسأله: أنت مش هتروح ؟هز كتفيه: وأروح ليه وأنا ماليش حد
وضع الرجل يده على كتف رامي: ياااه للدرجة دي؟ ... طب ما تيجي تفطر معايا بقى مادام مالكش حد تروحلهتمتم رامي متردداً: بس ...قاطعه الرجل بحزم: مافيهاش بس ... دا أنا هأفطرك فطار ملوكي حد يرفض؟ابتسم إبتسامة باهتة وقال بمرح: إذا كان كدا معلشسار برفقة الرجل في إتجاه منزله يتجاذبان أطراف الحديث.الرجل: أنت اسمك إيه صحيح ... ماهو مش معقوله هأفضل أقولك يا ابنيرامي: اسمي رامي
الرجل: عاشت الأسامي ... وأنا بقى اسمي عبدالحميد ... ألا قولي يا رامي ماجتش تصلي معانا ليه ؟-أصلي ... مسيحيإلتفت إليه عبدالحميد مستغرباً: وأما أنت مسيحي كنت بتبص عالمسجد ليه ؟ وكأنك عايز تدخل بس خايفأجابه بمرارة: كنت بأبص على اللي بيصلوا وأنا مستعجب من الدين اللي بعد بيني وبين اللي بأحبها-وبعد بينكوا إزاي بقى ؟-اللي بأحبها مسلمة وفي دينها ما ينفعش تتجوز غير واحد مسلم زيها-وهي ماكانتش تعرف كدا غير بعد ما حبيتوا بعض ؟-هي كانت فاكراني مسلم وأنا كنت فاكرها مسيحية
-أما حكاية عجيبة صحيح ... شكلها قصة كبيرة ... بص بقى إحنا نفطر الأول بعدين تقعد تقولي حكايتك من طقطق لسلامو عليكم
وصلا إلى المنزل وعرفه عبدالحميد بزوجته التي خرج بها من الدنيا ولا يملك غيرها بهذه الدنيا ، رحبت السيدة الطيبة بقدومه وكأنها تتمنى أن تحمله فوق رأسها ، طلب منها زوجها أن تجهز لهم إفطاراً خاصاً فأومأت بطاعة وذهبت تجهز ما طلب.سأله رامي: أنتوا ماعندكوش ولاد ؟ابتسم برضى مجيباً: الحمدلله على كل شئ يا ابنيرامي معتذراً: ماكنتش أقصد حاجه ، صدقنيعبدالحميد: ولا يهمك يا ابني ... إحنا راضيين بقضاء ربنا مهما يكون أكيد في خير حتى لو إحنا ما نعرفوشحضرت الزوجة لتخبرهم بأن الفطور أصبح جاهزاً ، جلسوا يتناولونه وكانت الزوجة تضع أمامه كل أنواع الطعام وتصب في صحنه كلما قل قدر ملعقة.رامي ضاحكاً: خلاص مش قادر حاسس إني هأنفجرعبدالحميد: ههههه بالهنا والشفا يا ابنيالزوجة متذمرة: هو أنت أكلت حاجه أصلاً ؟ أنت شكل لقمتك خفيفةرامي: كل دا وخفيفة ؟الزوجة: أيوه ... دي السفرة زي ما هيرامي: ما إنتي اللي عامله وليمة ... أنا لما شوفت الأكل دا كله قولت دول عازمين الحارة كلها ... بس طلعت أنا الحارةالزوجة ضاحكة: يوه ، جاتك إيه ... هو فيه أغلى منك ؟رامي: تسلمي
الزوجة: يشهد ربنا إنك دخلت قلبي وحسيتك ابني اللي ماجبتهوش بطنيرامي بخجل: بس أنا مسيحي
الزوجة بإبتسامة هادئة: ومن إمتى يا ابني الناس بتدخل القلب بديأنتها ... كلنا عباد الله ... والدين دا حاجه ربنا اللي يحاسب عليه مش إحنا يا بني أدمينأطرق رامي وقال عبدالحميد لزوجته: الأكله دي محتاجه كوبيتين شاي مين إيديكي الحلويننهضت مسرعة: من عنيا ... دقايق والشاي يكون جاهز
جلس رامي برفقة عبدالحميد في غرفة المعيشة بينما أحضرت الزوجة الشاي وأثناء تناوله ...عبدالحميد: قولي بقى إيه حكايتكروى له رامي كل شئ عنه منذ أن توفي والديه حتى تلك اللحظة التي قابله فيها ، بعدما أنتهى من الحديث علق عبدالحميد: ومين بقى اللي دخل إنه عشان مسلمة اتفرقتوا عن بعض وإنه الإسلام هو السبب ؟رامي بحنق: بعد اللي حكيتهولك ولسه بتسأل؟عبدالحميد بهدوء: ما تبقاش حمقي وخلينا نتكلم بالعقلرامي: إتفضل
عبدالحميد بتعقل: أولاً طلع من دماغك إنه إسلامها هو اللي فرقكوا ودا عشان حاجات كتير منها ... إنها لو فعلاً من الأول كانت بتعمل بكل كلمة من الإسلام واللي أمرها بيه ربنا ورسوله –عليه الصلاة والسلام- ما كانش وصل بينكوا الموضوع لحد هنا ، يعني لو كانت عملت الفرض اللي ربنا أمرها بيه واتحجبت كنت أنت هتبعد عنها لإنها مسلمة ، لو كانت حطت حدود بينها وبينك من الأول زي ما الإسلام بيقول وما قربتش منك للدرجة دي والخروج لوحدكوا وإنك تمسكها من إيديها عادي ما كنتوش وصلتوا لكدا
صمت قليلاً قبل أن يضيف: يعني بمعنى أصح بُعدها عن الإسلام ودينها هو السبب في اللي وصلتوا له
رامي: يعني؟
الزوجة: يعني طلع الدين من الموضوع وبص عليه من جديدصمت رامي مفكراً فهما محقان في وجهة نظرهما عندما سمع إضافة الزوجة: أنا مش بأقول إنه هي صح بس لولا اللي عملته ماكنتش حبيتها ولا هي حبيتك
عبدالحميد مبتسماً: ربنا ما بيأذيش حد يا ابني ... ممكن تفتكر الأمر دا شر وبُعدكوا عن بعض دا مصيبة وإنه ربنا بيكرهك وعايز يعذبك بس بعد فترة هتلاقي حسنات للموضوع دا وهتحمد ربنا على اللي حصل قال تعالى في كتابه الجليل بسم الله الرحمن الرحيم " كتب عليكم القتال وهو كره لكم وعسى أن تكرهوا شيئاً وهو خيرٌ لكم وعسى أن تحبوا شيئاً وهو شرٌ لكم والله يعلم وأنتم لا تعلمون " صدق الله العظيمأضافت الزوجة مبتسمة: تعرف يا رامي يا ابني فيه قصة أكبر دليل على كلام الآية دي وإنه فعلاً ربنا هو اللي عالم باللي ينفعنا أكتر منا
عبدالحميد مبتسماً: قصدك قصة سيدنا الخضر وموسى مش كدا ؟ضحكت الزوجة: طول عمرك فاهمني يا عبدهعبدالحميد: أومال إيه ... دي عشرة عُمررامي متسائلاً: إيه القصة دي ؟
عبدالحميد موضحاً: دي قصة في القرآن الكريم
رامي بفضول: وممكن أعرفها ؟ابتسم عبدالحميد: طبعاً أنت جيت في جمل؟ ... كان سيدنا موسى –عليه السلام- بيخطب في بني إسرائيل فسأله واحد: أي الناس أعلم؟ فرد عليه وقاله: أنا أعلم ، فعاتبه ربنا عشان ما ردش العلم لله ، فأوحى له إنه عبد من عباد الله في مجمع البحرين أعلم منه فسأله سيدنا موسى إزاي يوصله؟ فربنا –عز وجل- قاله خد معاك سمكة لما تفقدها يبقى خلاص لاقيته وخد فتى معاه وفعلاً راح عشان يقابل سيدنا الخضر لحد ما وصلوا لصخرة وناموا فخرجت السمكة اللي كانوا واخدينها معاهم للأكل بتاعهم من مكانها وردت فيها الروح ونزلت في المايه بعد كدا بقى كملوا مشورهم لحد ما طلب سيدنا موسى من الفتى اللي معاه يجيب الغدا بتاعهم فالفتى قالوا إنه نسيه والشيطان هو سبب نسيانه فعرف سيدنا موسى إنه المكان المقصود كان هناك فرجع مع الفتى تاني ولاقوا عند صخرة راجل قاعد فسلم عليه موسى
فقاله الخضر: إني بأرضك السلامقال: أنا موسىقال الخضر: موسى بني إسرائيل؟
قال: نعم هل أتبعك على أن تعلمني مما علمت رشداقال الخضر : إنك لن تستطيع معي صبرا يا موسى ، إنك على علم من علم الله علمكه الله لا أعلمه، وأنا على علم من علم الله علمنيه لا تعلمه ، وكيف تصبر على ما لم تحط به خبرارد عليه سيدنا موسى: ستجدني إن شاء الله صابرا ولا أعصي لك أمرا فمشيوا سوا على ساحل البحر وهما ما عندهومش سفينة تنقلهم لحد لما عدت عليهم سفينة فطلبوا منهم إنهم ياخدوهم معاهم فوافقوا ينقلوهم من غير ما ياخدوا منهم أجرة وهما راكبين وقف عصفور على طرف السفينة ونقر نقرة أو نقرتين في البحر
فقال الخضر لسيدنا موسى: يا موسى ما نقص علمي وعلمك من علم الله إلا كنقرة هذا العصفور في البحر
بعدين راح الخضر للوح من ألوح السفينة وشاله
فقال موسى: قوم حملونا بغير نول عمدت إلى سفينتهم فخرقتها لتغرق أهلها ؟!
أجابه الخضر: ألم أقل لك إنك لن تستطيع معي صبراً ؟فقال موسى: لا تؤاخذني بما نسيت ولا ترهقني من أمري عسراًودي كانت أول مرة ينسى فيها موسى وكملوا طريقهم لحد ما قابلوا في الطريق ولد بيلعب مع بقية الولاد فقتله الخضر
فصاح موسى: كيف قتلت نفسًا طاهرة لم تبلغ حدَّ التكليف ، ولم تقتل نفسًا حتى تستحق القتل بها؟ لقد فعلت أمراً منكراً عظيماً
قال الخضر: أَلَمْ أَقُلْ لَكَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِي صَبْراًقال موسى له: إن سألتك عن شئ بعد هذه المرة فاتركني ولا تصاحبني ، قد بلغتَ العذر في شأني ولم تقصر ؛ حيث أخبرتَني أني لن أستطيع معك صبرًاواستمروا في طريقهم لحد ما وصلوا قرية وطلبوا من أهلها أكل على سبيل الضيافة فرفضوا ولاقوا فيها حيطة هتقع فبدأ يصلح فيه فقاله سيدنا موسى: لو شئت لأخذت على هذا العمل أجرًا تصرفه في تحصيل طعامنا حيث لم يضيفوناقال الخَضِر لموسى: هذا وقت الفراق بيني وبينك ، سأخبرك بما أنكرت عليَّ من أفعالي التي فعلتها ، والتي لم تستطع صبرًا على ترك السؤال عنها والإنكار عليَّ فيها ، أما السفينة التي خرقتها فإنها كانت لأناس مساكين يعملون في البحر عليها سعيًا وراء الرزق ، فأردت أن أعيبها بذلك الخرق ؛ لأن أمامهم ملكًا يأخذ كل سفينة صالحة غصبًا من أصحابها ، وأما الغلام الذي قتلته فكان في علم الله كافرًا ، وكان أبوه وأمه مؤمِنَيْن ، فخشينا لو بقي الغلام حيًا لَحمل والديه على الكفر والطغيان ؛ لأجل محبتهما إياه أو للحاجه إليه ، فأردنا أن يُبْدِل الله أبويه بمن هو خير منه صلاحًا ودينًا وبرًا بهما ، وأما الحائط الذي عدَّلتُ مَيْلَه حتى استوى فإنه كان لغلامين يتيمين في القرية التي فيها الجدار، وكان تحته كنز لهما من الذهب والفضة ، وكان أبوهما رجلا صالحًا ، فأراد ربك أن يكبَرا ويبلغا قوتهما ، ويستخرجا كنزهما رحمة من ربك بهما ، وما فعلتُ يا موسى جميع الذي رأيتَني فعلتُه عن أمري ومن تلقاء نفسي ، وإنما فعلته عن أمر الله ، ذلك الذي بَيَنت لك أسبابه هو عاقبة الأمور التي لم تستطع صبرًا على ترك السؤال عنها.أضاف عبدالحميد في النهاية: يعني يا ابني كل واحد حكم من منظور علمه ، سيدنا موسى حكم على تصرفات سيدنا الخضر من ناحية علمه بالشريعة ، وسيدنا الخضر اتصرف بحكم علمه بالحقيقة وبواطن الأمور المخفية اللي ما يعرفهاش غيره هو بعد ما ربنا علمها له.الزوجة: يعني أنت شوفت لما شال اللوح من السفينة افتكر إنه أذاهم بس هو في الأصل ساعدهم ، والولد اللي قتله أنت افتكرت إنه أذاه هو وأهله بس بالعكس هو قدم لهم خدمة ، لما الأب والأم يصبروا على مصيبة فقدان الولد ويحتسبوا ربنا بيرفع شأنهم عنده وبياخدوا ثواب كبير هينفعهم يوم الحساب اللي لا بينفع فيه لا مال ولا بنون ، والولد كمان لما يموت قبل ما يكفر ويعوق والديه دا رحمة ليه يعني بدل ما كانت نهايته تبقى جهنم أعوذ بالله تبقى خاتمته الجنة وكله بأمر الله.وضع عبدالحميد يده على ركبة رامي: شوفت يا ابني أنا قصدي إيه ؟الزوجة: كل حاجه بتحصلنا بيبقى فيها خير أكتر ما بيبقى فيها شر ، فكر يا ابني كدا إنه لولا إنها مش محجبة ما كنتش فكرت فيها ولا حبيتها ، هو طبعاً اللي عملته غلط بس نشوف الجانب التاني منها لإنه حجابها دا بينها وبين ربنا مش إحنا البشر اللي نحاسب عليه.عبدالحميد ضاحكاً: شكلك ما نمتش من إمبارح ... إيه رأيك تدخل تريحلك شوية ؟رامي محرجاً: لا يا عم عبدالحميد إعفيني كفاية إني تقلت عليكم في القاعدة والفطار والشايالزوجة مستنكرة: إخص عليك يا واد يا رامي وأنا اللي كنت باعتبرك زي ابني ... شكلي كدا هأعيد نظررامي مسرعاً: لا لا هو أنا أطول تبقي في مقام والدتي -الله يرحمها- ؟غمزه عبدالحميد: طب قوم أوصلك الأوضة اللي هتستريح فيها بدل ما ترجع ف كلامها دي مراتي وأنا عارفة لما تحط حاجه في دماغها
أوصله عبدالحميد لغرفة الضيوف وتركه يرتاح موقفاً سيل التشكرات الذي أغدقه بها رامي لما فعلوه معه ، تمدد رامي على الفراش وغط في سبات عميق ليعوض الأيام الماضية التي قضاها دون أن يذوق للنوم طعم.
أنت تقرأ
اصدقائي قنبله ذريه بقلم/ ساره محمد سيف
Romance"لن تخطئي بمفردك فسنخطئ معكِ ... من ثم نصلح ما فعلنا" فتيات جمعتهن الصداقة. لم يفرقهن دين .. أولاد ... ولا حتى ازواج استمرت صداقتهن إلى أجل الأجلين ... واقفات أمام كل ما حاول التفريق بينهن أو هز صداقتهن. تعاونوا سوياً على الضراء قبل السراء. كل واحدة...