إنه حقا عالم مخيف ومريب للغاية، وحمدا لله مقدر لأناس قليلين الدخول فيه، وليس كل من قدر له الدخول فيه احتمله حيث أن كثيرون منهم فقدوا عقلهم بسببه، إنه عالم الجن والمردة والشياطين، فإذا جاءتك فرصة العبث معهم لا تقترب وتجاوز عن فضولك دوما في مثل هذه الفرص والتي لا تجلب معها من البداية وحتى النهاية إلا الندم والألم والحسرة.
وفجأة ظهر الرجل الغريب وبيده قدم شخص يجره على الأرض، إنه ابن عمي "علي"، ناديت عليه مرارا وتكرارا ولكنه لم يجبني، ركضت تجاهه أقلبه يمينا ويسارا ولكنه قد فارق الحياة، أبعدني عنه الرجل الغريب، ووضع قدمه على رقبة ابن عمي، وأشار إلى قومه فانهالوا عليه أي وكأنه فريسة ينتظرونها منذ زمن بعيد.
أشاهد وليس بيدي شيء لأفعله، وأول ما ركضت تجاهه ثانية كان قد استوقفني الرجل الغريب، وفي هذه المرة وضع قدمه على صدري وقال في همس شديد: "إن الملك برهوت ما زال يريدك".
أخبرته وقد لم يعد لدي شيء يهمني بعدما فقدت ابن عمي: "خذني عنده".
فأمسك برقبتي وجرني ناحية البئر، كنت أرى وجوههم البشعة تطالعني وتناظرني أينما ذهبنا، وأول ما وصلنا للبئر سمعت صوتا جهلت مصدره: "اقترب، ولتكون من أتباعي لكي لا يمسسك سوء ألقي بنفسك بالبئر!".
مر شريط حياتي أمام عيني، وتذكرت كل شيء مررت به طوال حياتي، تذكرت أمي التي لم تراها عيني من شهرين ماضيين، وتذكرت جدي الذي تكفل بتربيتي وعانى كثيرا حتى أتمكن من التكيف بالعيش معه ومع أعمامي، تذكرت ميتة أبي والتي يقال أنها كانت بشعة، ها أنا ابنه الوحيد وسأموت ميتة بشعة مثله!، تذكرت فرض العشاء الذي لم أؤدي صلاته بعد، نطقت الشهادتين وطلبت من ربي العفو والغفران على كل ما قدمت يداي، وأخيرا ألقيت بنفسي بالبئر.
وفي غمضة عين وجدت نفسي داخل مكان واسع شديد السواد، أرضه سوداء وسقفه أسود كاحل، سألت نفسي: "أين أنا؟!"، وفجأة سمعت الجواب من رجل يبدو شكله من بعيد مثلنا نحن البشر ولكن كلما اقترب كلما ازداد بشاعة: "إنك بعالمي، عالم الجن والمردة والشياطين".
اقترب مني وأمسك برأسي، وبدأ يشكلني وكأنني عجينة بيديه، الأغرب من ذلك أنني لم أشعر بأي ألم وكأنني بعالم يختلف كليا عن عالمنا؛ وفجأة سمعت صوتا مألوفا لي، إنه صوت هاتفي الجوال وبه رسائل تذكير (آيات تقرأ من الذكر الحكيم)، ولكن مالي أراه يتقلب يمينا ويسارا ويصرخ وكأنه يعتصر عصرا؟!
بالتأكيد إنه لم يحتمل صوت القرآن الكريم، أمسك بي ورفعني عاليا ومن ثم أطاح بي على الأرض، فقدت الوعي وفقدت ساعتي والتي كانت عندي غالية لأنها آخر هدية من والدي، وفقدت هاتفي الجوال؛ وعندما استفقت من غيبوبتي وجدت نفسي نائما على سريري بمنزل جدي، ويا لفرحتي وسعادتي إنه لم يكن سوى حلم بل كابوس مزعج ولكنني حمدا لله سبحانه وتعالى قد استفقت منه.
ولكن ليس كل ما يتمناه الفرد منا يجده حقيقة، التف حولي أهلي وبدأوا بسؤالي عما حدث بأرض برهوت، سألتهم سؤالا: "كيف جئت أنا إلى هنا؟!"
أخبروني: "عندما رجعنا من حفل الزفاف لم نجدك لا أنت ولا ابن عمك، وعندما تأخر الوقت قلقنا كثيرا عليكما، وكل محاولات الاتصال بكما على هاتفيكما بائت بالفشل حتى جاء جارنا الذي رآكما بالسلاح متوجهين إلى أرض البئر الملعون، وقص علينا ما حدث منكما ومنه، توجهنا على الفور إلى البئر وهناك أول ما وصلنا سمعنا صوت القرآن فتوجهنا تجاهه، فوجدنا كليكما على منحدر، أنت مغشي عليك و"علي" فاقد لحياته!
ذهلت مما سمعت، حقا أمات علي؟!
قصصت عليهما كل ما حدث معنا بالتفصيل الممل، ولكن جدي وأعمامي لا يعتقدون مطلقا بالعالم الآخر، وأصبحت قصتنا حديث الصبا والمساء بالقرية التي نحن فيها وبكل القرى المجاورة لها، وحضر عندنا أناس كثيرون منهم من يطلب من جدي أن يجلب إلي حدهم حتى يطمئن علي بألا يكون قد أصابني مس من قبل الشيطان، ولكن جدي لم يقتنع بكلام أي منهم، أكثر شيء كان يقطعني من داخلي عندما أرى نظرات الألم والحسرة والعتاب بعيني عمي (والد علي) وزوجته، وكأنهم يلومونني على فقدهم لابنهم الوحيد.
وبعد ثلاثة أيام ظهر تقرير الطبيب الشرعي والذي ينص على: "أن المتوفى قد تعرض لحادث سقوط أدى ذلك إلى كسر في ساقه كسر مضاعف، وأنه من شدة خوفه تلفت أعصابه فقام ببتر ساقه الأخرى السليمة ومن ثم توفي من شدة النزيف الذي تعرض له ومن شدة طول الوقت حيث لم يجد أحدا لينقذه".
حاولت كثيرا أن أشرح لهم ما صار معنا، ولكنهم لم يصدقوني قط حتى أنني اقتنعت مثلهم أنني مجرد مريض نفسي وكل ما حدث معي إنما هو من نسج خيالي؛ وجاء اليوم الذي قدم فيه خالي عندما سمعت والدتي بما حدث معي أرسلته في طلبي، وبالفعل حزمت أمتعتي وذهبنا مبتعدين عن أرض المهرة كليا، وأثناء مرورنا بالطريق استوقفني خالي بسبب فضوله أيضا، وسألني: "بسبب هذا المكان توفي ابن عمك؟!"، وفي هذه اللحظة رأيتهم جميعا ملتفين حولي، الرجل الغريب والملك برهوت بأتباعه وخيوله السوداء، صرخت مناديا على خالي، وإذا بهم يلقون علي شيئا ما، إنها ساعة يدي التي فقدتها هناك، سألت خالي: "هل ترى أحدا غيرنا بالوادي؟!"
فأجابني: "لا!"، فسألته: "وهل ترى هذه الساعة؟!"
فأجابني: "نعم!".
طلبت منه الرحيل وبأقصى سرعة عنده، ومن يومها لم تزور قدماي هذه الأراضي مجددا، سكنت مع والدتي بأرض الجوف.
أيقنت حينها أن كل الأساطير التي سمعناها حول البئر لم تكن إلا واقعا مريرا عاشه أحدنا وروى آخرون عنه.
أنت تقرأ
قصص رعب
Korkuوهل عندما نحب شيء نجده امامنا ، فأنا أحب قراءة قصص الرعب كثيرا والإستماع إلى قصص الرعب الحقيقية من كل بلد ومكان .