المقدمة

16.7K 315 7
                                    

المقدمة

المطر كان يهطل بغزارة ......
في ذلك الوقت المتأخر ... وفي ذلك الشارع الجانبي الضيق والمهجور من تلك الحارة الفقيرة ... كان صوت القطرات الضخمة وهي تتساقط أكثر صخبا من أي صوت سمعه في حياته في قلب الصمت الذي ساد المكان ...
لا .... لم يكن صمتا تاما .... الأنفاس العنيفة والتي كانت تُلتقط بصعوبة على بعد أمتار عنه .... كانت الشيء الوحيد الذي كسر الصمت ... أنفاس هشة وسطحية ... رائحة الخوف من حولها كانت أقوى من أن يتمكن المطر من أن يغسلها ... خوف ... يأس .. وشيء من الجنون ....
ومن تراه قادر على أن يحتفظ بقواه العقلية كما هي في ظل هذه الظروف ...
بإرادة من حديد ... وتدريب قاسي مارسه على نفسه منذ كان طفلا صغيرا ... كان قادرا على أن يحجب مشاعره ... على أن يبسط ذلك القناع الجامد فوق وجهه .. وهو ينظر بدون أي تعبير نحو الفتى الذي قاربه في العمر ... جاثيا على ركبتيه التين غاصتا في الأرض الموحلة ... مانعا نفسه من فقدان توازنه والترنح بصعوبة ... ملامح وجهه غير واضحة ... وقد غطته الكدمات ... وفارت الدماء من أكثر من جرح فيه .. يداه مقيدتان وراء ظهره ... بينما انحنى رأسه في هزيمة ..
كل هذا ..... لم يكن له أدنى تأثير فيه .... منذ فترة طويلة ... فقد القدرة على أن يشعر بأي شيء ... أو التفاعل مع أي شيء ...
إلا أنه كان هناك شيء في الوجه المغطى بالدماء ... شيء كان عاجزا عن تحديده ... شيء كان يثير حفيظته الساكنة ... يقلقل جموده .. شيء لم يكن قادرا على لمسه ... شيء تصاحب مع كل الدلائل على عدم الاتزان ...
رجل ضخم كان يقف مقابلا للفتى .. يبدو منيعا تحت الأمطار الغزيرة بينما يحيط به مجموعة من الرجال الذين تراجعوا إلى الخلف تاركين الساحة له ...الرجل كان مخيفا وقاسيا ... قبضته كانت مغطاة بالدماء ... بينما اعتلى وجهه مزيج من الغضب .. التسلية .. والقسوة .....
:- هل ظننت نفسك قادرا حقا على الهرب ؟؟؟
الفتى لم يقل شيئا ... ربما هو كان عاجزا عن قول أي شيء على أي حال بحالة فكه التي بدى شكلها غير طبيعي تحت تأثير الضربات ...
:- أين كنت لتذهب ؟؟؟ هااا ... أين كنت لتختبئ دون أن أتمكن من الوصول إليك أخيرا ؟؟؟ هذا الشارع ... لي ..... لي أنا ... وأنت ... و الآخرين جميعا ... ملكي ... أفعل بهم ما أريد ...
أصابعه .... امتدت لترفع ذقن الفتى التي كانت تقطر بمياه المطر الذي لم يتوقف عن الهطول بغزارة ... العينين الداكنتين للفتى ... لم تعودا فجأة تحملان أي نوع من الخوف .. وكأن مياه المطر غسلت كل تلك المشاعر الدنيوية .. تاركة فقط ذلك الشيء الذي كان يجذبه من مكانه المنزوي والمخفي تحت الظلال ..
ذلك الشيء ...
:- لو لم يدرك نواياك ويوقفك ... لتمكنت حقا من الهرب ... ولكانت نهايتك أبشع بكثير مما ينتظرك الآن .. يجب أن تكون ممتنا له .. أن تلتفت إليه الآن ... وتوجه له شكرك ..
عينا الفتى المتورمتان التفتتا نحوه ... إلى حيث كان يقف آملا أن ينسى الآخرون وجوده .... أحس بالقشعريرة تزحف على طول ظهره وهو يقرأ مشاعر الصبي ... والتي حملت بالفعل امتنانا ... امتنانا خالصا ...
قبضة قاسية اعتصرت قلبه أثناء مراقبته للرجل وهو يخرج سكينا انعكست الأضواء الخافتة والضعيفة والقادمة من بعيد فوق نصلها الحاد فكادت تعمي الأعين ..
عندها فقط .... وبينما هو يراقب بعينين واسعتين النصل وهو يجد طريقه خلال عنق الفتى ... دمائه تتفجر حمراء ... قانية ... لتغسها مياه المطر قبل حتى أن تصل إلى الأرض ... تمكن من تمييز ذلك الشيء الذي أرهبه ... ذلك الشيء الذي لم يستطع فهمه في البداية عندما احتل عيني الفتى لحظة أمسكوا به .. وأوضحوا بدون أي مجال للشك .. بأن عواقب هروبه .. ستكون عبرة لكل من يفكر بعده بالهرب ..
لقد تمكن من تمييز الراحة ... و الإحساس بالخلاص ... شيئان كان هو نفسه .. يائسا من الحصول عليهما ...
راقب ذاهلا ... الجسد اليافع وهو يسقط على الأرض فوق بركة من المياه الموحلة التي اختلطت بدمائه ... عيناه واسعتان ... جاحظتان ... فارغتان تماما ... وكأن الحياة لم تسكنهما يوما ... عينان ... عرف بأنهما ستطاردانه ما عاش .. عينان ..أدرك بأنهما ...



فتح عينيه فجأة شاهقا بعنف ... للحظة ... وهو يجد نفسه محاطا بالظلمة .. ظن بأنه ما يزال هناك ... عالقا في تلك الذكرى التي مر عليها ما يزيد عن العشرين عاما ... عالقا تحت مياه المطر التي اختلطت بتلك الدماء اليافعة فوق الأرض المتسخة للزقاق الضيق والمعزول ... إلا أن المكان الذي كان عالقا فيه بالفعل كان باردا .... باردا للغاية ... بدون أي أثر للمطر ... والدماء الوحيدة التي كانت تغرق الأرضية أمامه ... على بعد متر واحد من قدميه المقيدتين إلى المقعد الخشبي الصلب .. كانت لشخص آخر ...
رمش بعينيه طاردا الذكرى البشعة .. الذكرى التي سكبت هذه الدماء التي كانت رائحتها الطازجة ما تزال تفوح في الهواء المغلق ... العرق الذي كان يحتشد فوق جبينه رغم برودة وجفاف المكان من حوله ... يتسلل فوق جفنيه ليحرق عينيه اللتين بالكاد كانتا قادرتين على تخطي الظلمة .. وإدراك خلو المكان من غيره ..
وحدته المفاجئة .. بثت راحة حارقة داخله ... على الأقل ... لن يراه أحدهم وهو يرتجف ... وهو يتلوى تحت تأثير نفض الذكريات البشعة له ... ذكريات قديمة ... مرت عليها سنوات ... ذكريات حديثة ... لم تمر عليها ساعات ... أغمض عينيه للحظات وكأنه يستطيع حجب الصور عن عقله ... ثم فتحهما .. تدفعه تلك القشعريرة التي بثها ذلك الإحساس الغامض بأنه لم يعد وحيدا في الغرفة ... ضيق عينيه بينما يحاول السيطرة على أنفاسه .. بحثا عبر الظلمة حتى وجده ... في الزاوية البعيدة حيث الظلمة كانت أكثر اسودادا .. خيال كان جامدا للحظة مكانه .. حتى ظن بأنه قد توهم الحياة فيه ... حتى تحرك فجأة .. ببطء .. بخطوات ثابتة .. كان صداها يبدو مستفزا للغاية مقارنة بضربات قلبه العنيفة والمتسارعة .. حتى توقفت خطواته على بعد أمتار قليلة من مكانه ... حيث انقشع الاسوداد من حوله .. وتمكن بعينين اتسعتا فجأة من تمييز ملامح الوجه التي مرت فترة طويلة ... طويلة جدا على المرة الأخيرة التي رآها فيها ...
طويلة ... إنما ليس بما يكفي كي ينسى تفاصيل كل جزء منها .. من تلك النظرات التي برقت في العتمة بينما يتحدث الصوت الأجش قائلا :- هل اشتقت إلي ؟؟؟


يتبع...

وقيدي اذا اكتوى(مكتملة)حيث تعيش القصص. اكتشف الآن