الفصل الثامن والعشرون
ابتسم ريان بتكلف وهو يسلم الزبون الكتاب الذي ابتاعه لتوه :- أهلا بك ..
ثم انتظر حتى غادر المكتبة ليرمي نفسه فوق مقعده الجلدي زافرا بقوة ... اليوم ... يأبى أن ينتهي بسرعة ..
نظر عبر الواجهة الزجاجية للمكتبة ... حيث كانت السماء تمطر بغزارة في الخارج ..
تنهد وهو يتساءل .. أترى الشتاء يقرر أخيرا أن يتنازل عن موقعه لصالح الربيع ؟؟؟
لم يدرك ريان إلى أي حد كان يكره الوحدة حتى توقفت وردة عن الحضور إلى المكتبة .. ملتزمة بعملها الجديد مع والدته .. هو حقا لا يستطيع أن يعترض مطالبا إياها بالعودة للعمل معه كونه لا يدين لها بشيء .. كما أن عملها في شركة والدته تفتح لها بالتأكيد أبوابا أوسع للمستقبل .. في حين كل ما تمكن من تقديمه لها أثناء عملها معه ... كان خيبة الأمل ..
كنان أيضا توقف عن زياراته المتكررة ... لقد كان مشغولا جدا في أحد مشاريعه الجديدة .. وصدقا .. من كان ليتخيل كنان متفانيا بأي شكل اتجاه أي شيء سوى نفسه ؟؟؟ لقد كانت رؤيته وهو يعمل مثبتا نضجه المفاجئ .. أمرا مرضيا للغاية ...
إنما بالمقابل ... ها هو يقضي الساعات في العمل الذي أسسه منذ عام عله يجد فيه خلاصه ... دون أن يجد ما يفعله أكثر من مراقبة الطرقات خارجا ...
كان يتوتر .. يضيق عينيه بترقب كلما مرت فتاة ذات وشاح زاهي الألوان أمام المكتبة ... لتعود عضلاته فتسترخي ... إنما لا براحة .. بل بخيبة أمل .. عندما يدرك بأنها كانت مجرد فتاة غريبة لا يعرفها ..
بأنها ليست جنى ..
لقد مرت أيام منذ غادرت المكتبة دون عودة ... كلما تذكر ريان ذلك اليوم .. يدرك بأنها ربما لن تعود أبدا .. بعد الطريقة التي عاملها بها ...
فكر ببؤس بأنها قد كذبت على هبة ... إلا أنه لم يفكر حينها بدوافعها للكذب ... كلنا نكذب أحيانا .. وجنى .. لم تبد له من ذلك النوع الذي يكذب لأنه شخص سيء .. لقد كذبت ربما كنوع من ردة الفعل عندما أدركت هوية هبة .. وقد سبق وذكر لها هو اسمها ... ربما هو يكره الكذب .. بعد الطريقة التي خدعه فيها كامل .. بعد الطريقة التي أخفت فيها هبة عنه الحقيقة ... إلا أن هذا لا يعني أن يتوقف عن الثقة بالآخرين .. لقد كاد يدفع كنان بعيدا عنه عندما عجز عن أن يمنحه ما يستحقه من الثقة في لحظة ضعف بعد اختطاف لقمان .. إلى متى سيظل يسمح لتجربة سيئة كهذه ... أن تحكمه ؟؟
أمسك شالها الصوفي الذي نسيت آنذاك أن تأخذه معها .. والذي أبقاه إلى جابه منذ ذلك الحين أملا في أن تعود يوما لأجله .. وظل يحدق فيه للحظات طويلة .. وكأن تحديقه هذا كفيل بجعلها تدفع الباب فجأة داخلة إلى المكتبة من جديد ..
رفع عينيه مجددا نحو الطريق .... يراقب الطلاب العائدين من الجامعة إلى بيوتهم وهو يتراكضون تحت المطر ضاحكين .. أترى جنى تعود يوما ؟لحسن حظ وردة ... تذكرت إحضار مظلة معها عند خروجها من العمل .. إذ فور أن وطأت قدمها الشارع ... فتحت السماء أبوابها ساكبة محتوياتها بعنف مرة واحدة ..
المظلة ... ساعدتها هذه المرة على إخفاء هويتها وهي تسير عبر شوارع حيها القديم ... هذه المرة حريصة على أن تسير في الطرق الرئيسية ... تحيط وجهها بشالها كي تخفي ملامحه .. تسير بجزم وثقة كي تخفي عن الآخرين مقدار خوفها .. تحاول أن تكبح الصور القديمة التي كانت تقفز داخل عقلها بين الحين والآخر مذكرة إياها بذلك المساء الذي تعرضت فيه للهجوم ... الأمر كان صعبا عليها ... في كل مرة كانت تعود فيها كانت تعاني .. إلا أنها لا تتوقف عن العودة كل يوم ...
المبنى الذي ولدت فيه وعاشت كل سنوات حياتها كان مظلما للغاية رغم أن الشمس لم تغرب بعد .. من الواضح أن الكهرباء كانت منقطعة عن المبنى بأكمله كالعادة في الأحياء الفقيرة .. صعدت إلى الطابق حيث شقة عائلتها .. وكالعادة ... طرقت الباب وهي تشعر بقلها يقفز من مكانه مع كل طرقة ..
لا إجابة ..
اغرورقت عيناها بالدموع وهي تقول :- أمي ... أنا أعرف أنك هنا .. أنك تنظرين إلي من وراء الباب .. أرجوك دعيني أدخل .. سنتحدث فقط ..
أيضا لا إجابة ... وردة كانت قد توقفت منذ فترة طويلة عن محاولة استخدام مفتاحها بعد أن اكتشفت بأن والدتها قد غيرت القفل .. تركت الدموع تسيل فوق وجنتيها وهي تقول بيأس :- أرجوك .... أرجوك أمي .. دعيني أدخل ... أرجوك ..
أسندت جبينها إلى الباب ... وأخذت تبكي عاجزة عن منع نفسها .. لقد كانت هذه إحدى اللحظات التي كانت تعجز فيها عن التظاهر بالقوة .. هي تستطيع أن تقاتل كل شيء .. وفي سبيل كل شيء .. إنما هي لا تستطيع أن تواجه رفض والدتها لها .. منعها إياها من رؤية والدها وشقيقيها ..
اليتم .... دون ان تكون يتيما حقا .. كان شعورا بائسا للغاية ...
:- وردة ..
التفتت وردة مجفلة نحو السيدة سامية .. جارة عائلتها منذ سنوات طويلة .. كانت في مثل عمر والدتها .. وأما لابنتين متزوجتين بالفعل .. وتقيم وحدها مع زوجها .. كانت تفتح باب شقتها .. وتنظر إلى وردة بشفقة وهي تقول :- لم لا تأتين لاحتساء فنجان من القهوة معي ...
تمتمت وردة وهي تمسح دموعها .. كارهة أن يراها أي أحد على هذه الحالة :- أنا آسفة .. إنما علي حقا أن أذهب ..
:- آه .... من الأفضل أن تهدئي قليلا قبل أن تغادري ... تعالي .. أنت لا ترغبين بأن يراك أحد الجيران وأنت تبكين ..
هل هذه المرأة قادرة على قراءة الأفكار ؟؟ عاجزة عن الاعتراض في حالتها تلك ... سمحت للمرأة بأن تدخلها إلى شقتها الصغيرة والمتواضعة ... أكثر ترتيبا من شقة عائلتها .. غرفة الجلوس كانت مريحة ونظيفة جدا كما لمنزل أي امرأة لا أطفال صغار لديها أن تكون ..
تركتها المرأة لدقائق كي تعد فنجانين من القهوة ... ثم عادت وهي تحملهما في صينية مع طبق صغير من قطع الحلوى المعدة منزليا وهي تقول :- أنا آسفة حقا لما يحدث بينك وبين والدتك ... قسوة منها أن تعاملك بهذه الطريقة .. أنت ابنتها رغم كل شيء ..
لم تقل وردة شيئا .. بل اكتفت بأخذ فنجان القهوة والبدء باحتساء محتوياته الساخنة بصمت .. إذ ما الذي كانت تستطيع أن تقوله ؟؟
عينا السيدة سامية كانت تتأمل ملابس وردة الأنيقة بنظرات غامضة وهي تقول :- أخبريني يا ابنتي .. هل أنت بخير ؟؟ هل تحتاجين إلى مكان تمكثين فيه ؟؟
تمتمت وردة :- أنا بخير .. وأقيم لدى أصدقاء لي ... أخبريني يا خالتي .. هل أخوتي بخير ؟؟ كيف أبي ؟؟ هل تزورينهم ؟؟
:- بين الحين والآخر ... أصدقاء ؟ .. هل تقصدين الشاب الذي كان معك ذلك المساء .. لقد بدا شابا مثيرا للاهتمام ..
هه... الطيبة المفاجئة للجارة اللطيفة كانت لها أغراضها الدفينة إذن .. الحصول على المزيد من المواد للثرثرة .. تمتمت :- لا ... أنا لا أقصده هو .. من الأفضل أن أذهب .. لا أريد أن أشـ ..
صوت الباب وهو يفتح ويغلق منع وردة من أن تكمل عبارتها ... عند الباب المفتوح وقف زوج السيدة سامية ينقل بصره بينهما واجما قبل أن يختفي بدون أي كلمة .. نهضت السيدة سامية قائلة بحرج :- أمممم ... سأعود على الفور يا عزيزتي .. لابد وأنه قد مر بيوم سيء في العمل ..
لم تكن وردة تنوي الانتظار حتى عودتها ... تناولت حقيبة يدها ونهضت .. ليصل إليها صوت الرجل واضحا وهو يهتف بغضب من إحدى الغرف الداخلية :- أنا لا أريدها في منزلي ... لا هي .. ولا أي أحد من أفراد عائلتها القذرين ..
:- بحق الله يا عزيزتي .. اخفض صوتك ... ستسمعك ..
:- وهل تظنين بأنني أهتم ؟؟ والدتها لم تهتم بآراء الآخرين عندما كانت تستقبل عشيقها في منزلها على مرأى الحارة بأكملها ..الكل يعرف بأنها وشقيق زوجها القاتل كانا عشيقين ... وأنها كانت تقابله في منزل زوجها وأمام عيني الرجل المريض العاجز ..
:- رباه ستسمعك .. الفتاة المسكينة على الأرجح لا تعرف ...
:- فلتعرف .... من الأفضل لها أن تعرف بأنها بالضبط كوالدتها .. لسنوات كانت تخرج باكرا فلا تعود إلا في وقت متأخر .. ملابسها أنيقة وغالية الثمن .. ترافق شبانا أثرياء .. الكل يعرف أنها ..
:- شششش .. اسكت ... سأصرفها ثم تستطيع بعدها التحدث كما تريد ...
عندما عادت السيدة سامية إلى غرفة الجلوس ... وجدتها فارغة تماما ...
أنت تقرأ
وقيدي اذا اكتوى(مكتملة)
Romanceالجزء الثاني من سلسلة في الغرام قصاصا بقلم المبدعة blue me حقوق الملكية محفوظة للمبدعة blue me