الفصل الحادي عشر
هتف كنان مستنكرا :- هل أنت جادة ؟
كبتت وردة ضحكتها من تعابير وجهه المصدومة عندما ترجل من سيارته في قلب الحي الشعبي الذي قادته إليه بعد خروجهما من الحفل .. وهو ينظر حوله متفاديا أثناء سيره طفلا كان يجري باندفاع غير مبال بتأخر الوقت على بقاء طفل مثله مستيقظا حتى الآن .. محدقا بشابين كانا يستندان إلى جدار مهترئ في طريقهما .. يحمل أحدهما سكينا بدا حادا ونصله يلمع تحت الإضاءة الملونة المعلقة فوق أبواب المتاجر .. بعينين مهددتين نحو كنان ... وجائعتين نحو ... أحست به يتشنج إلى جانبها وهو يوقفها بحركة حادة هاتفا بخشونة :- اعقدي أزرار معطفك ...
نظرت إليه مجفلة قائلة :- ماذا ؟؟؟
لم ينتظر منها أن تستوعب أمره أو سببه .. مد يديه تلقائيا ليغلق الأزرار بنفسه .. وجهه مغلق وهو يلقي بنظرات نارية بين الحين والآخر نحو الشابين الذين بدت عليهما التسلية .. سرعان ما أحست وردة بالمثل وهي تقول :- لا تقلق ... لن تضطر لاستخدام شهامتك التي لا أظنك نفسك كنت تعرف بوجودها وخوض شجار معهما دفاعا عن شرفي ... لا يتعرض أحدهم في حارات كهذه إلى فتاة .. إلا لو ...
ثم صمتت .. تدرك ما كادت تبوح به .. وتشعر بشيء من بهجتها يطير في الهواء ... قالت بصوت جامد :- ذاك المطعم هو وجهتنا ... لا تقلق ... رغم مظهره الخارجي البائس .. هو نظيف من الداخل ويقدم طعاما لن تجد مثيلا لمذاقه في أي مكان آخر ..
لم يغفل كنان عن التغير في وردة بينما هي تغلق مشاعرها عنه .. وتتابع الطريق أمامه . منسية إياه النار التي كانت تسري في عروقه قبل لحظات وهو يلاحظ نظرات الشابين إلى ما وراء معطف وردة المحلول الأزرار .. حيث ظهر جزء من فستانها الليلكي المغري .. عندما أراد أن ينسى حذره تماما فينهال ضربا على الشابين الذين كان يعرف يقينا بأنهما أكثر قوة منه وخبرة في قتال الشوارع ...
حول اهتمامه منها نحو المكان الذي كانت واجهته متواضعة بالفعل ... بوابة معدنية .. اعتلتها لافتة مكتوب عليها الاسم المضحك للمطعم .. بينما توزعت بضعة طاولات ومقاعد فوق الرصيف المواجه له .. وداخل المساحة الضئيلة الداخلية له .. وفاحت رائحة ... رباه ... لم يشعر كنان في حياته بهذا القدر من الجوع وهو يستنشق الرائحة الغير عادية للطعام الذي لم يعد قادرا على الانتظار قبل أن يتذوقه ..
نظرات فضولية توجهت نحوهما وهما يحتلان أبعد طاولة عن المدخل .. حيث أسرع النادل نحوهما ليسألهما عما يرغبان به قبل أن ينطلق بعيدا ..
لاحظ كنان النظرة الغريبة التي اعتلت عيناها فسألها :- هل تأتين إلى هنا كثيرا ؟؟
تمتمت :- لم آت منذ فترة طويلة ... لقد اعتاد ...
ثم صمتت مجددا .. وكأن بعض الأشياء كانت أصعب من أن تقال .. أتراها كانت تأتي إلى هنا برفقة ريان ؟؟؟
ازدردت ريقها ثم تابعت :- لقد اعتاد عمي إحضاري إلى هنا بين الحين والآخر ...
عمها .. الرجل الذي كاد أن يقتل ريان قبل أن تنقذه وردة ... وهو دين رغم كراهيته له .. فإن كنان سيحمله لها ما عاش .. قال :- لم يسبق أن شكرتك على إنقاذ حياة ريان ...
فكر صامتا ... عارفا ما اضطررت لدفعه مقابل إنقاذه ... التخلي عن عمك .. الرجل الذي كان وفقا لكلام ريان المعيل لعائلتك ووالدك المريض ..
قالت بصوت مكتوم :- لا أحتاج لشكرك أو امتنانك ... لقد فعلت الصواب لا أكثر ...
ثم نظرت إليه مغيرة الموضوع قائلة :- هل ستخبرني لماذا ترغب والدتك بتزويجك من فتاة لا تهتم لأمرها بغض النظر عن رغبتك الشخصية ؟؟؟
قال ببساطة :- لأنها لا تهتم إلا لمصالحها الشخصية .. ظننت هذا واضحا ..
أرادت أن تعترض .. أن تخبره بأنه لا يمكن لأم ألا تهتم بسعادة أولادها ... أن تقدم مصالحها على صالحهم .. إلا أنها لم تستطع ... إذ أنها تعرف وبالطريقة الصعبة أن هذا غير صحيح .. بالرغم من هذا .. لم تستطع أن تمنع نظرتها نحو كنان الطويل بالتغير جزئيا .. إذ أنه لم يعد الشاب الوقح والمغرور الذي كانت تتمنى دائما لو أنه يختفي عن وجه الأرض .. لقد بات أقرب إلى إنسان يعاني من مشاكل شخصية مثلها تماما رغم انتمائه لعائلة غنية .. تذكرت تحاملها السابق على ريان قبل أن تتعرف إليه جيدا وتدرك بأنه تحت الواجهة الجميلة والثرية يكمن إنسان حساس ورائع .. متى ستتعلم وردة من أخطائها ؟
تمتمت :- أظنها ستتركك وشأنك الآن وقد صدقت علاقتنا الوهمية .. صحيح ؟؟
قال ساخرا :- أشك بهذا ... ما موقفها اليوم سوى تراجع تكتيكي قبل أن تهجم من جديد ... والدتي لن تقبل أبدا أن يتورط ابنها الوحيد في زواج لا يحقق لها أي مصالح مادية أو اجتماعية ... على الأرجح .. صدمتها بحادث جمان يكمن في معظمه بعجزها عن استغلالها بعد الآن في أهدافها الخاصة .. لقد كانت تخطط بالفعل لتزويجها بذلك المتطفل السخيف عمر ..
كلامه كان قاسيا ... حتى امرأة كإيناس الطويل ... لا يمكن أن تفكر بهذه البرودة اتجاه مرض ابنتها الوحيدة .. إلا أن وردة وجدت نفسها تخرجه من كآبته بقولها في استفزاز :- أنا لم أجده سخيفا ... صديقك عمر كان ساحرا ومهذبا ...
قال بخشونة :- أخبرتك بأنه ليس صديقي ... هو شريك عمل لا أكثر ..
:- وإن يكن ... هذا لا يمنعك من تعلم شيء أو اثنين منه ... على الأقل سيتوقف الناس عن النظر إليك كشاب مدلل أحمق ومغرور ..
شخر بأنفه قائلا :- هه ... الفتيات بالفعل يركضن أمامي طالبات رضاي أينما ذهبت ... إن أصبحت أكثر سحرا .. قتلن بعضهن في سبيل الحصول على اهتمامي ..
حدقت به قائلة :- هل تقول هذه الكلمات لنفسك أمام المرآة كل صباح كي تصدقها ؟؟؟
قال وهو يبتسم بعبث :- في الواقع ... أنا أقول هذا لنفسي أمام المرآة ثلاث مرات يوميا .. يتمتع أخوتي بسحر آل طويل الموروث .. بينما يعود سحري أنا لجهدي الشخصي ...
وجدت وردة نفسها تصدقه بسهولة ... ففتى بسمعة كنان الطويل .. لا يمكن أن تعود إلا لشيء جاذب في شخصه لم تتمكن حتى الآن من أن تراه ... أدارت عينيها كردة فعل على غروره وقالت :- نعم نعم ... من الغريب بالرغم من هذا أنني لا أستطيع وضع يدي على ذلك الجانب منك .. أظن هذا يؤكد معنى المثل الشهير .. لولا اختلاف الأذواق لبارت السلع .
عبس قائلا :- حقا ؟؟ دعيني أخمن ما يفضله ذوقك ... الشعر الأشقر و العينين الخضراوين .. وربما ميل لديه نحو الموسيقى ...
هزت كتفيها دون أن تمنحه جوابا محددا مما جعل دماؤه تفور بين عروقه ...أمازالت الحمقاء تظن نفسها قادرة على أن توقع ريان بين حبائلها ؟؟؟ هه ... وكأنه سيسمح لها بهذا ..
صورتها وهي تعقد ربطة عنق ريان عندما دخل عليهما المكتبة سابقا هذا المساء ... مشاعرها كانت واضحة تماما لكنان ... إلا أن الاهتمام والعاطفة نحوها ... كانا أيضا واضحين في عيني ريان ..
تململ في مقعده بقلق ... بينما عاد النادل حاملا أطباق الطعام .. يحدق بها وهي تمنح الشاب الصغير ابتسامة شكر كاد يتعثر تأثرا بها .. للفتاة تأثيرها .. وهو ما يكره كنان الاعتراف به .. ومن السهل على أي رجل حار الأحاسيس الوقوع في غرامها ... وفكرة أن يرتبط بها ريان كانت تثير غضبه إلى أبعد حد .. لقد كانت تقف بينهما بالفعل خلال عملها معه في المكتبة .. أقرب إليه أحيانا من كنان نفسه وقد أنقذت حياته في العام الماضي ... أن يقرر ريان فجأة الزواج منها وجعلها جزءا من حياته إلى الأبد ... هو أمر يرفضه كنان .. ومستعد لفعل أي شيء مهما كان صعبا في سبيل منعه ...
توقف فجأة عن التفكير وهو يحدق في وجهها الذي عبس وقد لاحظت نظراته الغريبة نحوها .. ثم هتفت به بحدة :- لماذا تنظر إلي بهذه الطريقة ؟؟.
عندما ابتسم ببطء ... لاحظ كيف أجفلت ... وكأنها لم تتوقع أن يتمكن من التأثير عليها بسحره كما يفعل بالكثير من الفتيات غيرها .. ابتسامته اتسعت .. وهو يفكر بأنه يعرف الطريقة المثلى كي يبعد بها وردة عن ريان .. وهي أن يوقعها بحبه هو ..
قال مجيبا عن سؤالها وهو يغرف اللقمة الأولى بملعقته قائلا :- لا شيء ... أنا أستعد فقط لتناول وجبتي التي تبدو لي شهية للغاية .. شكرا لك لإحضارك إياها إلى هنا ..
بدا عليها عدم الارتياح ... وكأن توجيهه كلاما لطيفا كهذا نحوها لم يكن متوقعا ..
حسنا .... تنتظرك الكثير من الأشياء التي لن تتوقعي حدوثها يا وردة ... فكوني مستعدة ..
أنت تقرأ
وقيدي اذا اكتوى(مكتملة)
Romanceالجزء الثاني من سلسلة في الغرام قصاصا بقلم المبدعة blue me حقوق الملكية محفوظة للمبدعة blue me