الخاتمة
بعد مرور ثلاثة أشهر ونصف ...
لم تشعر وردة بالدهشة عندما خرجت من مقر عملها مساء لتجد كنان في انتظارها داخل سيارته أمام البوابة مباشرة .. في الواقع .. أصبح خروجها من الشركة ولقائها بكنان جزء لا يتجزأ من حياتها اليومية .. خاصة وقد توقفت عن الشجار معه بعد أشهر من إصراره على أن يوصلها كل مساء إلى البيت .. رافضا أن تستقل مواصلات عامة معرضة نفسها للمضايقات أو الخطر .. إذ أنها أيقنت بعدها بإن حمل فرد من عائلة الطويل على تغيير رأيه .. هو ضرب من ضروب المستحيل ..
إنما ... أن تدعي بأن عالمها كله لم يكن يشع فجأة بالألوان فور أن تخرج فتراه في انتظارها .. محض كذب وادعاء ..
لأشهر .... كنان ظل مصرا على أن يكون شيئا مسلما به في حياتها ... يزورها يوميا .. يهتم بعائلتها .. يعاملها كأي رجل يعامل المرأة التي يحب .. بعد أن تعهد لها بأن يتوقف عن طلب يدها للزواج إن كان المقابل أن تسمح له بأن يزورها ... وقد كان عند عهده ... كنان لم يكرر طلبه منذ ثلاثة أشهر ونصف ..
لم يكن قد رآها بعد ... فسمحت لنفسها بأن تراقب تعابير وجهه نافذة الصبر بينما هو يجلس خلف المقود .. ينظر إلى ساعته بين الحين والآخر ... يزفر بنزق .. ثم يتذكر شيئا فيبتسم .. ابتسمت تلقائيا وهي تتذكر شخصيته المتناقضة والمليئة بالعيوب .. في الآن ذاته .. التي تخفي تحت ظاهرها الفوضوي ... قلبا من ذهب ..
نسيم الأيام الأخيرة من فصل الربيع ... داعب وجهها وخصلات شعرها التي باتت أكثر طولا في الآونة الأخيرة لتزيد من أنوثة مظهرها في نفس اللحظة التي أدرك فيها وجودها ... تلاشى توتره مرة واحدة .. ليكسو وجهه ذلك الاسترخاء الذي كان دائما يترافق مع وجوده معها .. عيناه السوداوان تنطقان بالكثير وهو يحدق بها عبر زجاج النافذة الأمامية .. يتأملها وكأنه ليس في عجلة من أمره .. وكأنه يمتلك كل الوقت في العالم لينتظرها وينظر إليها ..
تنهدت ... مقاومة تلك المشاعر الجياشة التي فاضت من صدرها ... وسارت نحوه .. تعلق حزام حقيبة يدها فوق كتفها وكأنه طوق النجاة .. ثم فتحت الباب المجاور للسائق .. وانضمت إليه داخل السيارة وهي تقول معتذرة :- آسفة لتأخري ...
:- لا بأس ... لقد وصلت لتوي ..
كانت تعرف بأنه كاذب ... إلا أنها لم تجادله .. أو تخبره بأنها كانت تقف متأملة إياه منذ برهة .. قالت بينما أدار المحرك :- أنت تعرف بأنك لست مضطرا للمرور وأخذي كل يوم .. أستطيع أن أعود وحدي ..
:- أعرف ..
لم يقل شيئا آخر ... موضحا بدون كلمات بأنه لا يحتاج إلى سبب حقيقي كي يأتي لأخذها .. فتنهدت موفرة على نفسها الجدال .. وقالت :- سأمر على الصيدلية كي أحضر دواء أبي إذ نفذ البارحـ ...
قاطعها قائلا :- لقد سبق وأحضرته .. أخذت العلبة الفارغة مساء الأمس بينما كنا نتناول العشاء مع عائلتك .. ومررت على الصيدلية بينما أنا آخذ أخويك من المدرسة ..
استدارت بجسدها كله نحوه ... وجهها محتقن ... وعيناها واسعتان .. وقالت :- لقد سبق وأخبرتك بأنك لست مضطرا لإحضارهما ... المدرسة قريبة ويستطيعان السير إلى البيت ..
قال بنفاذ صبر بينما هو يركز بصره في الطريق :- أعرف ... لقد كنت مارا من هناك فحسب .. وفكرت بأخذهما في طريقي ..
كزت على أسنانها وقالت :- لا تقل بأنك قد أطعمتهما أيضا وإلا ضربتك ...
رمش بعينيه وهو يلقي نحوها تلك النظرة الصبيانية البريئة التي كانت تثير جنونها وهو يقول :- لقد كان مطعمهما المفضل في طريقنا .. كما أن والدك يحب شطائر الجبن التي يعدها ... لم أكن أعرف بأن تناول الطعام برفقة أبيك وأخوتك يدخل ضمن الأمور الممنوعة علي ..
هه ... وكأنه يلتزم حقا بالحدود التي وضعتها له عندما قرر أن يكون جزءا من حياتها .. زفرت بقوة وهي تقول :- كنان ... ليس من الصواب أن تزيد من تعلق أفراد عائلتي بك ..
تشنجت أصابعه حول المقود وهو يقول بجفاف :- كلامك صحيح لو أنني كنت أفكر بالرحيل يوما ... وهو ما لن يحدث ..
:- كنان ....
:- ما رأيك بالطعام الإيطالي ؟؟ .. هناك مطعم قريب من هنا نستطيع تناول العشاء فيه .. أعرف بأنك جائعة ..
كالعادة ... كلما كادا يفتحان نقاشا حول علاقتهما .... غير الموضوع تماما ... بطريقة ما ... كان تفاديه الأمر يريحها ... إذ لا يرغمها على مجادلته و محاولة إقناعه بالرحيل .. في الآن ذاته .. كان الأمر يسبب غضة داخل حلقها ... مذكرا إياها بأنه ربما يصر على البقاء كجزء من حياتها ... إلا أنه توقف تماما عن مطالبته إياها بالمزيد ... وكأن ما كان يحظاه منها في الوقت حالي ... كافي تماما ... وما كان يشعر وردة بالإحباط والتقلقل ... هو أنه ما عاد كافيا لها هي على الإطلاق ...
في المطعم الإيطالي ... كانت وردة تراقبه بينما هو يتحدث إلى النادل ممليا عليه طلباتهما ... تفكر بالتغيير الذي طرأ على كنان منذ عرفته ... وهل تغير فعلا ؟؟ أم تراها هي التي لم تكن قادرة على رؤية ما هو أبعد من حكمها المسبق عليه ؟؟
لقد كانت تراه كل يوم ... بما أنه كان يصر على أن يوصلها مساء إلى بيتها ... أحيانا ... كان يمتلك الوقت كي يصعد برفقتها فيتناول العشاء برفقة عائلتها ... وأحيانا كان يودعها أسفل المبنى منطلقا بسيارته بعد أن يتأكد من دخولها آمنة ..
عندما كان يفعل هذا ... كانت تشعر دائما وهي تصعد إلى بيتها ... عندما كانت تفتح الباب لتقابل أعين شقيقيها المتسائلة وهي تبحث عن كنان من فوق كتفها ... عندما تكون وجبة العشاء هادئة وتقليدية بعيدا عن صخب كنان ... وتعليقاته التي كانت تبث الفوضى دائما من حوله ... ووجوده الذي كان دائما يبعث الضحك في وجهي شقيقيها ... والراحة في تعابير والدها الصامت دائما ...
كانت وردة دائما تشعر بالوحدة ... بالفراغ ... باليتم ... وهي تتساءل ... هل تقوم بالصواب بإبعاده عنها وفرض حدود على علاقتهما ؟؟؟
ماذا إن توقف بالفعل عن طلب يدها للزواج ؟؟؟ ماذا إن كانت بجفائها وتباعدها وفرضها الحدود عليه .. تبعده عنها إلى الأبد ..
التفت نحوها بعد ابتعاد النادل وقال سائلا إياها بجدية :- حسنا ... هل تنوين حضور حفل زفاف ريان ؟؟
رمشت بعينيها وهي تقول :- أليس الوقت مبكرا على التفكير بالأمر ؟؟
عبس قائلا :- مبكرا ؟ .. لقد حدد موعد الزفاف بعد شهر من الآن .. مباشرة بعد انتهاء جنى من امتحاناتها .. سيخيب أمل ريان لو امتنعت عن الحضور ..
أن تحضر مناسبة عائلية لآل طويل ؟؟؟ أحست وردة بالتردد والقلق .. وهي تتذكر بأن احتكاكها بآل طويل كان محدودا خلال الأشهر السابقة .. منحصرا بلقائها بآمال في العمل .. واتصال نعمان الطويل بها بين الحين والآخر للاطمئنان عليها .. ولقائها بريان عدة مرات برفقة كنان .. أن تواجه أقاربه وأصدقائه ... أن تواجه والدته .. بدون أي صفة رسمية بينهما ..
:- أنت تعرفين بأن أمي لن تكون موجودة ...
هل يستطيع قراءة أفكارها ؟؟؟
تمتمت :- حضوري الحفل لا ضرورة له ... أستطيع أن أهنئ ريان وجنى بالزفاف دون أن أضطر لشرح موقعي من العائلة للآخرين ..
قال بخشونة :- تستطيعين تثبيت موقعك من العائلة في أي لحظة يا وردة ... كل ما عليك فعله هو أن تقولي نعم ..
انتفضت وهي تنظر إليه لاهثة .. مصدومة بإشارته لزواجها منه بعد أشهر طويلة وكأنه يفعلها للمرة الأولى .. في حين شحب وجهه .. وأغلقت ملامحه وهو يقول بصوت مكتوم :- أنا آسف ... أنا ... لقد وعدتك بألا أتحدث في الأمر مجددا .. بألا أحاول فرض نفسي عليك .. إلا أنني كالعادة ... أتحدث قبل أن أفكر ..
همست :- كنان ...
قال على الفور مغيرا الموضوع :- هل سمعت آخر الأخبار ... لقد أنجبت زوجة أكرم طفلا ... أبي يكاد يطير فرحا بحفيده الذكر الأول .... في حين تكاد أمي تفقد عقلها ... سأذهب لزيارتهما هذا المساء في المستشفى .. سألتقط لك صورا جيدة للطفل ... أتظنينه يكون وسيما كعمه ؟؟؟
بحزن .. سمحت له بأن يغير الموضوع ... وجارته مستمعة إليه وهو يتحدث عن وليد شمس .. وعن الطريقة التي ضحك فيها الجميع عندما انفجر في البكاء فور أن حمله شقيق شمس الأصغر الذي كاد يسقطه من يده خوفا لولا أن التقطه أكرم منه في الوقت المناسب ..
رباه ... كنان ... لو أنك تعلم إلى أي حد أشتاق إليك ...
حتى وأنت جالس أمامي .. تتحدث إلي ... تحكي لي أحداث يومك .. أشتاق إليك .. وأدرك أخيرا بألم بأنني أحبك ...
عندما أنهيا وجبتهما .... ساد الصمت السيارة بينما هما في طريقهما إلى منزل وردة .. كل منهما غارق في أفكاره ... دون أن يدرك بأن الآخر لم يكن يفكر إلا به ...
عندما أصر كنان على أن يرافقها إلى باب بيتها .. سألته بينما قلبها يخفق :- ألن تدخل قليلا ؟؟؟
:- لا ... يجب أن أعود إلى البيت ... حالة أمي سيئة في الآونة الأخيرة ... تشعر بأنها تفقد السيطرة على كل ما حولها .. ابتداء بأبي وانتهاء بحياتها الاجتماعية ... وجاء إنجاب شمس لنعمان الصغير القشة التي قصمت ظهرها ... سأذهب لأقضي معها بعض الوقت ... وربما آخذها لرؤية جمان عل هذا يهدئها قليلا ..
كانت الشخصية الحقيقية لكنان تظهر دائما في مواقف صغيرة كهذه ... عندما كان يظهر من وراء طبعه الصبياني والمستهتر .. مقدار اهتمامه بالأشخاص الذين يهمونه ... وردة كانت في الماضي أكثر سطحية من أن تراه حقا .. من أن ترى مقدار اهتمامه بريان .. وغيرته عليه وعلى مصالحه ... لقد كانت عمياء بتحاملها .. وبمشاكلها الشخصية . عن رؤيته بوضوح ...
في محاولة أخيرة منها لإقناعه بالبقاء ... استدارت بينما هما يصعدان الدرج نحوه شقتها .. لتصطدم به عندما تابع الصعود دون أن يلاحظ توقفها ... وتسقط مباشرة فوق صدره ...
تماسهما الحميم وهي تجد نفسها بين ذراعيه ... كان التماس الأول بينهما منذ أشهر .. رائحة عطره المميزة .. والممزوجة برائحته الرجولية .. كانت أول ما ميزته حواسها .. ثم صلابة جسده .. تحت رقة وأنوثة جسدها .. ثم خفقات قلبه العنيفة ... مباشرة تحت قلبها ..
يداه أمسكتا بخصرها تسندانها بتلقائية ... بينما أمسكت هي بساعديه العضليين تدفع نفسها بعيدا عنه .. أنفاسها عنيفة .. مضطربة .. لترفع رأسها وتنظر مباشرة إلى عينيه السوداوين .. والفائضتين بالمشاعر ...
بالحب ... و الرغبة الخالصة ...
تحت الإضاءة الخافتة للدرج .. بعيدا عن أعين الفضوليين ضمن سكان المبنى الذين اتضح كونهم لحسن الحظ غير مهتمين على الإطلاق بشؤون الآخرين .. أدركت وردة بأنها كانت ترى أخيرا ما لم تكن قادرة على أن تراه من قبل ... بأنها قادرة على أن تميز طريقها الذي ترغب في السير فيه أخيرا .. بأنها قد تصالحت أخيرا .. مع بشاعة ماضيها ...
وجدت نفسها تهمس بصوت خافت :- نعم ...
رمش بعينيه ... ينظر إليها بغير فهم للحظات ... قبل أن تتسع عيناه وهو يدرك فجأة ما كانت تقوله .. ويردد غير مصدق :- نعم ! !
هزت رأسها ... الدموع تغرق عينيها ... وتسيل غزيرة فوق وجنتيها .. لتكرر هذه المرة بصوت مهزوز :- نعم ...
يداه أحاطتا بوجهها ... بينما كان يلتهم ملامحها بجوع ... وكأنه ما يزال عاجز عن التصديق ... قبل أن تخونه مشاعره ... ويسحبها إليه .. ويفعل ما كان يتوق لفعله منذ أشهر طويلة ... أن يقبلها ..
انتفاضة جسدها هذه المرة لم تكن رافضة ... بل كانت انتفاضة شوق .. لهفة .. خوف .. فرح .. أمل .. عندما تلقت مشاعره التي لم يكن لديها أي شك في صدقها ... تشبثت به كطوق النجاة يحميها من الغرق .. من الضياع ... حتى حررها لاهث الأنفاس أخيرا ... ينظر إلى عينيها الضبابيتين بالعشق الذي يتمكن من رؤيته أخيرا للمرة الأولى ... قبل أن يقول بصوت أجش :- لنذهب ونبشر أباك وأخوتك ...
أومأت برأسها ... ثم منحته يدها ... ليصعدا معا هذه المرة ... نحو حياتهما ومستقبلهما القادم ..
أنت تقرأ
وقيدي اذا اكتوى(مكتملة)
Romanceالجزء الثاني من سلسلة في الغرام قصاصا بقلم المبدعة blue me حقوق الملكية محفوظة للمبدعة blue me