الفصل الثامن
*
*
*
*
*
*كان على قمر أن تعرف .. منذ رأته في المرة الثانية داخل الشركة وميزت شعره الأشقر وعينيه الزرقاوين كما لم تفعل لحظة وبخها بسبب فظاظتها مع الطفلة التي امتلكت الألوان نفسها ...
كان عليها أن تعرف بأنه ما كان ليتعب نفسه بتوبيخ امرأة غريبة لأجل فتاة لا يعرفها أو لا تعني له الكثير ..
بالتأكيد هي ابنته ... وبالتأكيد هذا يفسر معاملته الفظة لها وتجاهله إياها منذ لقائهما مجددا في مكتب السيد عبد القادر .. وبالتأكيد هو لا يمكن أن يتسامح مع إساءتها لابنته التي على الأرجح تعاني من توابع ما بعد طلاق والديها ..
رباه .... قمر .... هل يمكن لك أن تكرهي نفسك أكثر ؟؟؟
عند وصولهما إلى السيارة ... عبست الطفلة عندما فتح باب السيارة الخلفي داعيا إياها بكلمات لطيفة كي تعتلي المقعد .. للحظة .. وبينما هو يدور حول السيارة كي يعود إلى مقعده خلف المقود .. لم تجرؤ قمر على الاستدارة نحو الفتاة و النظر إليها .. حتى توقف قبل فتحه الباب مباشرة عندما أوقفه أحدهم وبدأ بالتحدث إليه .. جاعلا من تأخيرها مواجهة الفتاة أمرا غير مقبول ..
التفتت نحو الفتاة التي بدت صغيرة الحجم للغاية إلى حد جعل قمر تتساءل إن كانت في عمر مناسب للذهاب إلى المدرسة أصلا ... عيناها الزرقاوان الواسعتان والمماثلتان لعيني أبيها تنظران إليها بنوع من الحذر .. أتراها تذكرتها ؟؟؟ أم هو رد فعل تلقائي اتجاه أي شخص غريب تقابله للمرة الأولى ؟؟
أرغمت قمر نفسها على رسم ابتسامة على شفتيها وهي تقول :- مرحبا ... كيف حالك ؟؟؟ أنا اسمي قمر ..
الفتاة لم تتعب نفسها بقول كلمة وهي تتابع التحديق نحو قمر وكأنها تنتظر منها الهجوم عليها في أي لحظة والتهامها .. فتنهدت قمر وهي تقول :- أنت تذكرينني صحيح ؟؟؟
هزت الفتاة رأسها إيجابا في تأكيد لشكوك قمر ... التي قالت :- أنا آسفة لأنني كنت .... كنت فظة معك ذلك المساء في الحفلة ... أنا لم أقصد دفعك .. أو التحدث إليك بتلك القسوة .. أنا كنت منزعجة لأجل شيء آخر .. في حين لم يكن لك أنت ذنب على الإطلاق ..
ظهر التفكير على الفتاة بينما فتح عمران الباب دالفا إلى السيارة .. وجهه يبدو غير مقروء وكأن فحوى حديثه مع الرجل الذي أوقفه لم يعجبه .. ليشعر فجأة بتوتر الجو في السيارة .. عبس بشيء من الحذر وهو ينقل بصره بين قمر الجالسة في المقعد الأمامي .. وابنته الجالسة على المقعد الخلفي .. ردت الفتاة أخيرا:- أنا لم أقصد الاصطدام بك ..
الذنب الذي كانت قمر تشعر به أصلا تضاعف فجأة لمئة مرة وهي ترى القلق يرتسم على وجه الطفلة الصغيرة .. فقالت على الفور :- أنا من اصطدم بك يا حبيبتي ... هذا ما أردت أن أقوله لك .. أنني آسفة لأنني سببت لك الحزن ذلك المساء ... فهل تسامحينني ؟؟؟
عاد الطفلة تتفكر بكلمات قمر .. بينما استرخت عضلات والدها وكأنه كان يتوقع الأسوأ .. وهو يدير المحرك وينطلق بالسيارة .. ثم قالت :- أنت تجلسين مكاني ..
:- ماذا ؟؟؟
أطلق عمران صوتا مكتوما لم تفهمه قمر قبل أن يقول :- حلا ...
نظرات الفتاة الزرقاء كانت بريئة تماما وهي تقول :- الأميرات يجلسن دائما في المقدمة .. وأنا أميرة بابا .. وأنت تجلسين مكاني ..
مزيج من التسلية والحرج اجتاح قمر وهي تلتفت نحو عمران الذي قال باعتذار غير مألوف :- آسف .. حلا معتادة بالفعل على أن تجلس دائما إلى جانبي .. أعرف بأنه مخالف للقوانين .. إلا أن ..
صمت ... فلم تنتظر قمر منه تفسيرا .. عادت تنظر إلى الفتاة وهي تقول مبتسمة :- سنطلب من بابا أن يتوقف عند أول محطة كي نتبادل الأماكن .. ما رأيك ؟؟
:- لا ...
قبل أن تستوعب قمر الرفض التلقائي من الفتاة .. صدمت بها تهب من مكانها .. وتقفز خلال لحظة فتصبح فوق حجر قمر .. صاح عمران :- حلا ... ما الذي تفعلينه ؟؟ هذا خطر للغاية .. عودي إلى مكانك فورا ..
مجفلة قمر .. وصادمة إياها ... أحاطت حلا عنقها بذراعيها رافضة التحرك من مكانها .. مرغمة قمر على أن تمسك بها خشية أن تصطدم بشيء ما مع حركة السيارة المستمرة خلال قيادة عمران لها .. والذي ألقى نظرة نحو وجه قمر الشاحب وهو يقول :- أنا آسف .. سأوصل حلا إلى البيت في طريقنا قبل أن نعود إلى الشركة .. عادة يوصلها صديق لي مع أولاده من وإلى المدرسة .. إلا أنه سافر بالأمس برفقة عائلته في رحلة لمدة أسبوع ..
كانت قمر قادرة على أن تشعر بحرارة جسد الفتاة الصغيرة ... برائحتها العطرة .. رائحة لا يمكن لها أن تجد مثيلا لها في محلات العطور الغالية الثمن .. رائحة الطفولة البريئة .. مزيج بين شامبو الأطفال الطبيعي الرائحة .. وأثار واهية لرائحة حليب ربما شربته صباحا .. رباه .. هذا الألم ... هذا القهر .. هذا الشوق ..
هتفت الطفلة وهي ترفض التخفيف من قبضتها حول قمر :- لا أريد العودة إلى البيت ... أريد الذهاب معك إلى العمل ..
قال بصبر وهو يركز عينيه على الطريق :- ستقلق عمتك إن لم تعودي إلى البيت ... وستشعر بالوحدة إن لم تكوني معها حتى عودتي من عملي ..
:- عمتي حبيبة سترغمني على أن أرتب غرفتي ..
:- حسنا ... في النهاية هي ليست مرغمة على ترتيب سريرك وألعابك ..
لدقائق ... استمر النقاش بين الأب وابنته حتى ظنت قمر أنهما لن يصلا أبدا إلى حل نهائي .. حتى أنهى عمران الشجار برشوة متمثلة بكمية كبيرة من الحلوى إن هي أطاعت عمتها ورتبت غرفتها .. أوقف سيارته أمام مبنى لطيف المظهر .. في منطقة هادئة وهو يقول معتذرا :- سأغيب للحظات قليلة لا أكثر ..
ثم تناول حلا منها .. وغاب عبر مدخل المبنى .. عندما عاد بعد لحظات بالفعل .. كانت قمر ما تزال ساهمة .. تحدق أمامها دون أي تعبير .. أدار المحرك قائلا :- آسف لوضعك في طريق حلا بدون مقدمات .. أنا أعرف مسبقا بأنك لا تحبين التعامل مع الأطفال .. وأن ...
صمت فجأة وهو يلاحظ جمود ملامحها ... قبل أن يعاود التركيز في القيادة قائلا :- لقد كذبت ذلك المساء .... صحيح ؟؟؟ أنت لا تنفرين من الأطفال كما تدعين ..
عندما لم تجب ... تنهد وهو يقول :- اسمعي ... أنا أعتذر مجددا عن فظاظتي في حفل بشرى وعامر .. ما كان علي أن أكرر ما سمعت زوجك السابق يقوله لحظة طلقك في حفل الزفاف ..
قالت بفتور :- لا تعتذر .. أنا استحققت فظاظتك آنذاك على الطريقة التي عاملت بها حلا ..
:- ومع هذا .. أنت اعتذرت منها الآن .. مما يدفعني للظن بأن ردة فعلك الوقحة آنذاك لم تكن إلا وليد الموقف .. وربما نتيجة لتهجمي عليك ..
نظرت إليه عابسة وهي تقول :- حسنا ... ما الذي ترمي به من وراء هذا اللطف المفاجئ ؟؟ حدسي يخبرني بأنك لست من النوع الذي يعتذر بسهولة ..
أدار عينيه وهو يقول :- أنا لست لطيفا على الإطلاق .. ولا ... أنا لست من النوع الذي يعتذر بسهولة .. وكلامي هذا لا يعني أنك بت تعجبينني فجأة .. أنا ما زلت أظن بأنك مغرورة .. متكبرة .. ومتعجرفة .. وأنا شخصيا أحب المرأة أكثر أنوثة وسلاسة في التعامل مع الآخرين ..
كزت على أسنانها وهي تمنع نفسها من الرد عليه بطريقة قد تؤدي إلى خسارتها عملها .. في حين تابع حديثه وهو ينعطف بالسيارة نحو الطريق المؤدي إلى الشركة .. وكأنه لم يلاحظ ردة فعلها على الإطلاق :- وأنا أعرف بأنك لا تحبينني أيضا ... إلا أن هذا يجب ألا يقف في طريق تفاهمنا في العمل .. لأجل الصالح العام ولأجل عمي عبد القادر .. ألا توافقينني الرأي؟
هزت رأسها موافقة رغما عنها .. إذ أن عملها يهمها .. تبا .. عملها هو كل ما تبقى لها الآن بعد طلاقها من خالد .. رباه .. كيف لكل هذه المواقف المتتالية أن تنسيها لقائها العابر مع خالد ؟؟ إلا أنها بطريقة ما .. وهي ما تزال تشعر بحرارة الطفلة التي كانت متشبثة بها قبل دقائق فقط .. كانت تشعر بأنها قوية بما يكفي كي تواجه أي مخاوف تنتظرها .. سواء كانت مرتبطة بشوقها الغير محدود لدفء طفل ينتمي إليها .. أو بخالد أديب نفسه ..
أنت تقرأ
وقيدي اذا اكتوى(مكتملة)
Romanceالجزء الثاني من سلسلة في الغرام قصاصا بقلم المبدعة blue me حقوق الملكية محفوظة للمبدعة blue me