الفصل الحادي والعشرون
( فام فيم فوم فام .. أشم رائحة لحم طري )
هبت علياء من نومها وصرخة تشق الصمت في فضاء غرفتها التي أنراها ضوء الأباجورة الشاحب المنتصبة إلى جانب السرير ... للحظات ... ظلت أنفاسها تهدر داخل صدرها وهي تجلس محدقة حولها .. وكأنها لا تصدق بأنها في غرفتها .. في منزل عائلتها .. وحدها ..
عاجزة عن أن تغمض عينيها ولو للحظة ... تناولت كوب الماء تحتسي محتوياته بلهفة .. ثم أعادته مكانه ليقع بصرها على هاتفها المرمي فوق المنضدة إلى جانبه ...
رغما عنها ... سرت رجفة خوف على طول عمودها الفقري وهي تتساءل إن كانت الآن أكثر أمانا وقد اشترى لها أدهم هاتفا جديدا صباح اليوم برقم جديد ... مصرا على أن يحتفظ هو بهاتفها القديم عله يتمكن من ملاحقة مترصدها المريض ..
أن تشعر بأن هناك شخص معها .. يعرف سرها .. ويسعى لحمايتها .. كان أكثر من أن تتمكن مشاعرها الهشة من استيعابه ...
وأدهم ... لا يرغب فقط بحمايتها ... هو يرغب بالزواج منها .. لأنه يحبها .. رغم كل شيء .. هو يريدها ويحبها ... حتى وجسدها كله ينتفض اشمئزازا من أي تفكير باتصال جسدي مع شخص آخر .. إلا أن رغبته بها .. تمسكه بها .. كان يمنحها الأمان الذي كانت تتوق له منذ عام كامل ..
وهي .... هي أكثر نضجا الآن من أن ترفض مشاعره ... أن ترفضه .. لأنها تمتلك سببا مقنعا أو اثنين للرفض ..
عادت تنظر إلى هاتفها الجديد .. يتجدد خوفها فتجتاحها البرودة ... أتراها اتخذت القرار الصائب ...
أم تراها تحفر قبرها بيدها .... وقبر أدهم معها هذه المرة ؟؟؟:- امممم ... صباح الخير ..
رفع ريان رأسه نحو كنان الذي وقف عند باب المكتبة .. يبدو متوترا ... شاحبا .. يحدق حوله وكأنه يبحث عن شيء ما .. أو ربما يخاف من رؤية شيء ما ..
تنهد قائلا :- وردة لم تأت اليوم ... ادخل وتوقف عن التصرف كطفل يخشى أن تعاقبه أمه .. وأخبرني لماذا لا ترد على اتصالاتي منذ الأمس ..
خطا كنان أخيرا إلى الداخل وهو يقول واجما :- لقد كنت مشغولا ..
عبس ريان قائلا :- مشغولا إلى حد عدم حضورك اجتماع الأمس ؟؟ ألا ترغب بأن تعرف آخر مستجدات قضية لقمان ؟؟؟
قال كنان بخشونة :- طبعا أنا أعرف ... لقد أخبرتني والدتي بالتفاصيل فور أن عدت ليلة الأمس إلى البيت .. وأنا ... أنا سعيد .. إذ أن هذا يعني أن فرص عودة لقمان كبيرة ..
وأيضا تائه .. وأنا أتذكر التفاصيل التي أخبرتني بها والدتي ..
( :- هذا يفسر كل شيء كما تعلم ... طباع لقمان الغريبة .. لا عجب أنه يبدو كالمجرمين إذ ترعرع تقريبا بينهم .. أتعلم .. إن لم يعد لقمان .. ستتوزع ثروته بين أخوته بما أنه لم ينجب لحسن الحظ من تلك المرأة التي فاجأنا جميعا بإعلانه زواجه المفاجئ منها ... لم أفكر قط أنه سيتزوج .. مما يجعل عدم عودته هو الحل الأمثل للجميع )
كلمات والدته أغضبته ... هو لم يهتم قط لأموال لقمان ... هو لم يهتم قط للقمان نفسه ... ولكن ... أن يعرف بأنه قد عرف كل هذا في طفولته ... هه .. كم كان هو مدللا عندما كان يتذمر من طفولته التي كانت خالية من أي اهتمام أخوي أو أبوي بينما عاش لقمان لخمس سنوات كاملة في ذلك العالم الأسود والبشع ؟؟
تمتم :- أنا ... برغم ما تظنه ... برغم ما يظنه الجميع ... أنا ... أنا لا أريد لسوء أن ... أن يصيب لقمان ..
نظر إليه ريان مليا .. قبل أن ينهض من مكانه .. ويتجه نحو كنان ليمسك بكتفيه بقوة مجفلا إياه ... ومرغما إياه على النظر إلى عينيه وقد كان يتحاشى أن يفعل منذ دخل المكتبة ...
قال ريان بهدوء :- كنان .. أنا آسف لأنني كنت قاسيا في المرة الماضية .. أنا أعرف بأنك لن ترغب حقا بأن يصيب لقمان أي أذى .. وأعرف بأنك تهتم لأمر بحر .. أنا كنت متوترا لا أكثر .. محبطا ويائسا .. فأفرغت إحباطي بك .....
قال كنان وهو يضحك باضطراب :- حسنا ... أظنك وجدت حينها من يلهيك عن إحباطك ... صحيح ؟؟؟ تلك الفتاة الكاذبة وطويلة اللسان ... بحق الله يا ريان .. ظننتك أعقل من هذا ..
وجد ريان نفسه يضحك برحابة صدر قائلا :- سأكون كاذبا إن أنكرت بأن جنى أكثر من إلهاء مناسب .. هي فتاة ... مثيرة للاهتمام ..
حسنا ... أخوه الأكبر معجب بتلك الفتاة المشاكسة والوقحة ؟؟؟ على الأقل هو صرف أفكاره عن وردة .. صحيح ؟؟ نظر حوله قائلا :- وماذا عن وردة .... لماذا لم تأت اليوم أيضا ؟؟؟ أنت متسامح للغاية بالنسبة لرب عمل تتركه موظفته الوحيدة معظم أيام الأسبوع ليقوم بكل العمل وحده ..
ثم خطرت على باله فكرة مفاجئة وهو يقول :- هل والدها بخير ؟؟؟ هل أصابته نكسة جديدة ؟؟
أجفل ريان وهو يقول :- هل تعرف عن مرض والدها ؟؟؟ لم أعتقد أنها قد تحكي لك عن الأمر إذ أن وردة تكره اجتذاب الشفقة والتعاطف من الآخرين .. لا ... الأمر لا يتعلق بوالدها هذه المرة .. أظن ... أظن بأنها تفكر بترك العمل لدي ..
اتسعت عينا كنان وهو يقول :- تترك العمل لديك ؟؟؟ لماذا ؟؟؟ هل هي من قال لك هذا ؟؟؟
هز ريان رأسه قائلا :- لا ... إنما .... حسنا ... هي متباعدة للغاية في الآونة الأخيرة ... أعرف بأنني استخدمتها هي الأخرى لإفراغ إحباطي ذلك اليوم ... إنما ... حسنا ... وردة كانت دائما متسامحة مع تقلب مزاجي .. هي أكثر من يفهمني ويقدر ما أمر به في هذه الفترة ... بالأمس خرجت لابتياع القهوة ولم تعد .. واليوم أرسلت لي رسالة نصية تخبرني فيها بأنها لن تأتي للعمل خلال هذا الأسبوع بأكمله ..
تراجع ليسند نفسه إلى مكتبه وهو يقول بإحباط :- أتراني أبعدتها عني هي الأخرى ... أتراني خسرتها بغبائي وأخذي إياها كشيء مسلم به في حياتي ؟؟ قد يبدو ما أقوله طفوليا إلا أنني ..
نظر حوله بيأس وهو يقول :- أنا لا أستطيع القيام بهذا وحدي .. لقد كان من المفترض بنا أن نقوم به معا ..
اليأس في عيني ريان ضربه في الصميم ... هل كان مخطئا ... رباه ... هل كان مخطئا عندما ظن بأن ريان لا يكن نحو وردة شيئا من مشاعرها اتجاهه ؟؟؟
رفع ريان عينيه نحوه وهو يقول :- إن اتصلت بك ... أو تحدثت إليك ... هلا أخبرتها بأنني آسف ؟؟؟ هي لا تتلقى اتصالاتي ... هي حتى ... هه .. هل تصدق بأنها قد حظرت رقم هاتفي بعد أن أرسلت تلك الرسالة هذا الصباح ؟؟ فقط .. أتمنى لو أعرف سبب تصرفها هذا .. ما الذي فعلته وأبعدها هكذا ؟؟
كنان يعرف .. رباه ... هو يعرف .. إلا أنه لن يتمكن أبدا من إخبار ريان .. لن يتمكن إن أراد الاحتفاظ بأخيه بدون أن يخسره .. أن يخبره بأنه قد تهجم على وردة مساء الأمس ... بأنه قد ثبتها إلى شجرة في قلب حديقة فندق ما ... و ... وقبلها ..
أحس بقلبه يرتجف وهو يتذكر ملمس شفتيها ... تراجع خطوة منكمشا أمام عيني ريان الثاقبتين :- كنان .. ما الأمر ؟؟ هل أنت بخير ؟
:- أممم ... لقد تذكرت شيئا ... أنا مضطر للذهاب .. سأتحدث إليك لاحقا ...
غادر المكتبة دون أن يترك الفرصة لريان كي يعترض ... في سيارته .. قبضت أصابعه على المقود بقوة .. عيناه تحدقان بالطريق عبر الزجاج الأمامي .. يتذكر تلك اللحظة التي فقط فيها عقله .. عندما رآها برفقة عمر .. عندما ظن بأن شيئا يدور بينها وبين عمر .. تبا .. هو بات يعرف وردة بما يكفي كي يدرك بأنها لا يمكن أن تكون من ذلك النوع من الفتيات اللاتي تطاردن الرجال الأثرياء أو حتى الأزواج المحتملين .. لابد وأن هناك سببا منطقيا لقبولها دعوة عمر ووجودها معه .. هو فقط ... لم يحتمل .. لم ..
أغمض عينيه بقوة وهو يتذكر يد عمر فوق كتفها وهو يحثها على النظر إلى إحدى لوحاته ..
منذ متى تحولت مشاعره نحو وردة وحادت لهذا القدر من التملك ... أتراه نسي للحظة بأن علاقتهما محض تمثيل لا أكثر ... بأنها ليست أكثر من موظفة لدى أخيه .. بل والفتاة التي يسعى جاهدا لإخراجها من حياته بشتى الطرق ؟
تذكر دموعها التي لم يسبق أن رآها ... وردة تبكي ... ولماذا ؟؟ لأنه انتهك براءتها وفرض نفسه عليها .. وردة القوية والمستقلة والعنيفة المشاعر ... وردة التي لم تتردد في ضربه وإسقاطه أرضا عندما أحست بالخطر .. وردة التي لا تتورع عن التعبير عن أفكارها مهما كانت مزعجة للطرف الآخر ... أن تكون تحت كل هذا ... أنثى هشة لا تجارب لها من هذا النوع مع الرجال ... رباه ... ما الذي فعلته ؟؟؟
كنان لم يكن يوما نبيلا ... ومشاعره ... لم تكن ندما بقدر ما كانت حسرة ... هي لن تقبل بأن تراه بعد الآن بعد ما فعله .. هي لن تسمح له بأن يقترب منها بعد الآن .. وكنان ...
تنهد بقوة وهو يسند جبينه إلى المقود ... كنان لم يرغب في حياته كلها بامرأة . كما فعل وهو يمسك بها بين ذراعيه ... وهو يضغط بجسده فوق جسدها ... وهو يشعر بدفئها .. برائحتها ... بمذاقها ... وهو يعب من نبع أنوثتها الدفينة بجوع ..
كنان يريدها ... يا الله كم يريدها ... لقد سبق وقرر أن يطاردها فيوقعها في حيه ... في سبيل إبعادها عن ريان .. لكن أن يقع هو في حبائلها ... أن تحيط خيوطها حوله كما كانت تفعل بريان طوال هذا الوقت ..
هذا الإحساس بالضعف أغضبه ... أن تنجح امرأة بفعل هذا به .. هو الذي قضى سنوات يطيح بالفتيات عن أقدامهن لأجل تسليته الخاصة ...
لا ... هو لن يسمح لضعفه ها أن يستمر ...
أدار محرك السيارة ... وانطلق بها وهو يفكر بعزيمة وحزم ... هو لن يرى وردة مجددا... هذا هو الحل الوحيد ..
أنت تقرأ
وقيدي اذا اكتوى(مكتملة)
Romanceالجزء الثاني من سلسلة في الغرام قصاصا بقلم المبدعة blue me حقوق الملكية محفوظة للمبدعة blue me