الفصل الرابع والعشرين
للانتصار بعد انتظار طويل ... مذاق لا يضاهى ...
عشرين سنة مرت .. ظل يحلم فيها بهذه اللحظة ...
ربما هو نجا بنفسه ... وسافر إلى الخارج .. متمكنا من استخدام خبراته في تأسيس نفسه من جديد .. لم يكن هذا صعبا على شخص مثله ... امتلك ما يكفي من المال الذي تمكن من تهريبه معه .. أن يتابع أعماله من حيث توقف .. هذه المرة .. حذرا من ألا يقع بالخطأ نفسه من جديد ..
أبدا لا تثق بإنسان لم تكسره قبل أن تأتمنه على نفسك وأسرارك ..
والخطأ الذي ارتكبه .. ودفع ثمنه غاليا .. كان أنه لم يكسر قيده المدلل قبل أن يضع عليه آماله ...
هو كان مختلفا عن أخيه ... الذي كان يفكر بنظرة بعيدة المدى نحو المستقبل ... أخيه الذي تزوج آملا في أن ينجب خلفا يحمل كل شيء من بعده .. هه .. لقد قتل زوجته فيما بعد .. المرأة التي اتضح أنها لم تكن جديرة بأن تقف إلى جانبه ... إلا أن عثوره على بديلة أخرى .. كان مسألة وقت لا أكثر .. لولا أنه لم يتمكن أبدا من أن يفعل هذا ..
بعكسه هو .. الذي لم يفكر قط بالزواج ...
ذوقه مختلف ... ميوله أكثر انحرافا .. هو أيضا كان يحمل رغبة كبيرة في أن يترك وراءه تاريخا رغم كل شيء .. وذلك الفتى أسود العينين .. قوي الشكيمة .. الغير قابل للكسر .. كان خير مرشح لهذا المنصب ..
إلا أنه ارتكب خطأ كبيرا آنذاك ... لقد أعماه انبهاره بصلابة الفتى .. فلم يفكر بضرورة كسره أولا .. ثم بناءه من جديد .. تأمينا لنفسه من غدر الخيانة ...
دائما كانت السياسة الأولى له وشقيقه ... مسح الماضي تماما من عقول فتيانهم ... وبرمجتهم من جديد ليصبح عالمهم محصورا بالجدران التي رسموها هم لهم ..
ما حدث .. هو أن غروره .. أعماه آنذاك عما كان عليه أن يفعله .. لقد ظن بأن الفتى الذي لم يذكر اسما آنذاك .. كان بدون ماضي بالفعل كي يسلخه عنه .. لقد ظن بأنه إن منحه اسما .. ومكانا لديه .. فإنه قد نال ولاءه وانتمائه ..
إلا أنه كان مخطئا ..
الفتى لم يكن مجرد ابن شوارع لا جذور له ... الفتى كان حفيد كاظم الحكيم دون غيره ..
كلما تذكر هذا ... كان يضحك ويضحك ... بمرارة .. بإعجاب .. بغضب لأنه لم يدرك بأن وراء الواجهة الجامدة والصامتة .. تكمن قوة لا يمكن لها إلا أن تكون موروثة ..
وقد دفع ثمن خطأه هذا غاليا ... لقد خسر ماله .. وأعماله .. والأهم .. شقيقه الأكبر .. الرجل الذي كان له دائما أبا .. أكثر منه أخا ..
قد يكون من السذاجة أن يترك خطأه هذا ليرسم حاضره ومستقبله .. إلا أنه كان أضعف من أن يترك الماضي وشأنه .. لقد كان ذكيا بما يكفي كي يعرف بأنه لن يتمكن من المضي قدما حتى يسوي حسابته مع لقمان الطويل ... الملقب بالحكيم .. والذي عرفه هو دائما باسم قيد ..
بعد عشرين سنة من الهروب والاختباء ... أخيرا تمكن من العثور على طريقة يعود خلالها إلى البلاد .. جواز سفر مزيف .. علاقات تمكن من تشكيلها عن بعد .. صلات مختلفة .. رجال كان يدفع لهم من حيث كان يعيش خارجا مقابل جمعهم ما يحتاج إليه من معلومات .. ومقابل تهييئ كل شيء له قبل وصوله ...
عندما عاد ... أشهر وأشهر .. مرت كان يراقب الرجل خلالها ... مشاعره اختلطت وهو يراقب الرجل الذي عرف بقوته وجبروته .. بين الغضب .. الغيرة .. الفخر .. والإعجاب ...
كلما كان يسمع أكثر عن لقمان الحكيم ... كلما كانت حاجته لتدميره تتعاظم ... لقد أراد أن يكسره .. كمل لم يفعل قبل خمس وعشرين عاما ..
لقد أراد أن يكسره .... يدمره ... يحوله إلى لا شيء .... ثم والانتصار يغمره .. يقتله أخيرا
عندها ... وعندها فقط ... يستطيع أن يترك كل شيء وراءه .. ثم يغادر البلاد إلى الأبد .. متابعا حياته التي أسسها بعيدا .. بدون أي غضب أو ندم ..
مذاق الانتصار كان رائعا .. خاصة وهو يرى نتيجة انتظار سنوات طويلة أمام عينيه في تلك اللحظة .. متجسدة بتلك النظرة التي أطلت من عيني لقمان الطويل .. من عيني قيد ..
هو لا يستطيع أن يصف شعوره عندما تمكن رجاله أخيرا بعد أشهر من الإمساك بالقط .. حذرا كما كان دائما .. بغرائز برية لا تختلف كثير عن غرائز قط بري متوحش .. هذا ما كان سببا لتسميته بذلك الاسم .. وقد رأى بأم عينه بأنه رغم كل تلك السنوات ... ما يزال جديرا بذلك الاسم ...
الخوف الذي رآه في عيني لقمان الطويل وهو يحدق بالرجل الدامي والمقيد والجاثي أمامه ... كان أكثر لذة مما يمكنه أن يصفه .. كيف ترى رؤيته للفتى الذي قتل شقيقه من أجله .. يموت أمام عينيه تصنع منه ؟؟؟ أتراها تدمر ما تبقى منه .؟؟ هه ... هو لن يقتله على الفور ... هو سيعذبه أمام عينيه .... وبعدها ... سيذبحه أمامه كما ذبح عشيقته السابقة ... وبعدها ... سيكون دور زوجته الصغيرة ...
اقترب .... حتى وقف حاجزا بين لقمان والقط .... يحجب عنه الرؤية .. ويرغمه على أن ينظر إليه .. في الثامنة والثلاثين ... أحيانا .. كان ما يزال يرى فيه الفتى ابن الثالثة عشرة الذي عثر عليه تائها في أحد الأزقة القذرة والمهجورة ...
:- مفاجأة جيده ... هه؟؟ أعرف كم كنت متشوقا للاجتماع برفيق طفولتك .. كي تستعيدا معا شيئا من ذكرياتكما الجميلة .. ما الأمر ؟؟؟ هل يخيفك أن تراه هنا ؟؟؟ هل تخشى أن أؤذيه ؟؟؟ مشكلتك كانت دائما تعاطفك معهم ... لقد كان الشيء الوحيد الذي لم أستطع أن أقتله فيك ... وقتها .. لم يكن تعاطفك هذا سيئا ... إذ أن اهتمامك هذا بهم كان ما قيدهم بي ... هم ما كانوا ليبتعدوا أبدا عن أنظار الفتى الذي يكبرهم سنا .. والذي غذاهم بكل قسوة بوهم الحماية ...
أمسك بذقن لقمان يرفعها مرغما إياه على أن ينظر إليه ... ثم تابع :- يؤلمك الأمر ... صحيح ؟؟؟ أن تكون أنت سببا في دمارهم ... كلما ازدادوا غرقا في حياتهم البائسة ... كنت أنت وحدك من يدفعهم نحو الأعماق .. كلما مدوا أيديهم بغية البحث عن طوق نجاه ... كنت انت كالمرساة ... لا تفعل أكثر من تثبيتهم في القاع ...
تحرك قليلا كي يسمح له بأن يلقي نظرة أخرى نحو ثروت وهو يقول :- انظر إليه ... انظر جيدا .. هل تظن بأنه كان ليكون هنا لولاك أنت ؟؟؟ أنا سأقتله في النهاية ... ربما هو سيجد في الموت حينها راحة بعد كل ما أنوي فعله به ... إلا أنك أنت من سيكون سببا في موته .. أنت فقط ... ربما كان عليك أن تفكر بالأمر مسبقا ... فتوفر شيئا من الحماية له كما فعلت مع كل أفراد عائلتك ... إلا أنك لم تعتبره أبدا جزءا من عائلتك ... صحيح ؟؟؟ هو لم يكن أكثر من بيدق آخر في لوحة لعب الحكيم ..
عندما لم يقل لقمان شيئا ... اشتدت أصابعه قسوة وهو يقول :- هه ... ما رأيك ؟؟ لم لا تخبرني بما تفكر به الآن يا فتاي الأسود ؟؟؟
لوهلة .. تحركت عينا لقمان نحو الزاوية اليمنى من الحجرة المظلمة وكأنه يرى شيئا ... التفت بحذر ليجد الزاوية خالية ... فعاد ينظر إلى لقمان قائلة بضحكة متوترة :- أتراك بت تتوهم أشياء يا حفيد الحكيم ؟؟؟ أم أنك ولآخر لحظة تحاول العثور على شيء تخدعني به ..
قال لقمان أخيرا ... وكانت قد مرت فترة طويلة منذ تحدث فيها .. صوته أجشا ... إنما ثابتا :- أظنك أنت الذي تعجز عن رؤية أكثر الأشياء وضوحا أمامك ...
قطب بغضب ... دون أن يعجبه هذا الهدوء من الرجل الذي يفترض به أن يكون مرتجفا الآن .... ثم فكر .. إنه ذلك الهدوء الذي ينتج عن الخدر ... خدر العقل والعاطفة .. عندما يجد نفسه محشورا في الزاوية ... دون أي أمل له بالنجاة ... قال بصوت مكتوم :- ماذا تقصد ؟؟؟
:- أقصد أنك ترتكب خطأ جسيما جدا ... عندما ترفض أن تترك الماضي وشأنه ...
قال متهكما :- هل تحاول بطريقة دبلوماسية أن تطلب مني مسامحتك ؟؟
:- لا ... أنا أذكرك فقط ... بأن عشرين سنة قد مرت ... وأنني ومنذ فترة طويلة ... توقفت عن كوني فتاك الأسود ... وهو .... ثروت ... حسنا ... أنت كنت مخطئا .. إذ أنني اعتبرته دائما فردا من عائلتي ..
كز بأسنانه بنفاذ صبر وهو يقول :- ما الذي تريد أن تقوله ؟؟ أنا أعرف بالفعل بأنه مهم بالنسبة لك .. لهذا هو هنا .. كي أقتله أمامك .. وبسببك .. كي تكون آخر فكرة تجلد عقلك وأنت تلفظ أنفاسك عندما أقتلك أخيرا .. هي تسببك أنت وحدك بموت كل من تحب ...
:- ما أريد أن أقوله ... هو أن ثروت ... كأي فرد من أفراد عائلتي ... كان يتمتع بما يكفي من الحماية ... وأن تمكنك من الإمساك به .. دون أن يكون هناك من يوقفك .. لا يعني سوى شيئا واحدا .. أنه قد سمح لك بأن تمسك به ... بإرادته الحرة ..
للحظة ... لم يتمكن من أن يستوعب ما يقصده ... حتى تابع لقمان بنبرته الجامدة نفسها :- وأن الشرطة على الأرجح ... ستكون هنا خلال لحظات .. إذ أنه لن يوقع نفسه في مأزق كهذا دون اتفاق مسبق مع السلطات ..
الإدراك هبط فوق رأسه مرة واحدة وهو يدرك منطقية الأمر ... مرة واحدة ... تذكر المرات الكثيرة التي حاول فيها الإمساك بالقط ... عاجزا عن فعل هذا لأنه كان دائما حذرا أكثر مما ينبغي ... متلونا أكثر مما ينبغي ... هو نادرا ما يكون وحيدا ... ونادرا ما يكون في موقع هش يسمح لأي كان بالغدر به ..
في حين كان الإمساك به هذه المرة سهلا ..... بل أكثر سهولة مما يجب ..
نار الغضب تدفقت كالحمم بين عروقه وهو يدرك الفخ الذي أوقع نفسه به بتكبره وغروره .. عندما ظن بأنه إن تمكن من الإمساك بلقمان الطويل .. فقد ربح نصف المعركة ...
:- أيها الحقير ... إن كان ما تقوله صحيحا ... فالشرطة ستصل لتجد المكان خاليا إلا من جثتك ..
مد يده يمسك بتلابيب قميصه ... يشدها بقوة وهو يصرخ بهستيريا :- سأقتلك ... سأقتلك لو كان آخر ما أفعله في حياتي ... أتسمعني يا قيد ؟؟
عندما امتدت يده لتستل مسدسه المعلق في حزامه ... حدث كل شيء مرة واحدة ... عندما اختفى الجمود فجأة من وجه لقمان الطويل .. ليحل معه مزيج من الغضب .. والحقد .. والكراهية .. وهو يقول :- اسمي لقمان ..
أدرك فجأة بأنه لم يعد واقفا ... بأنه ملقى على الأرض ... يداه تمسكان بحنجرته بينما صوت حيوان يختنق يصدر من مكان قريب ... ليدرك متأخرا بأنه كان صوته هو ... وأن يداه الممسكتان بعنقه كانتا تحاولان أيقاف نافورة الدماء التي تفجرت مرة واحدة لتغمر كل شيء ... الظلام بدأ يلفه ... والخوف اجتاحه وهو يدرك بأنه كان يغرق ... لقد كان يغرق في لجة سوداء لا قرار لها ... بعينين لا تريان ... في حين تلاشت الأصوات من حوله .. وجد نفسه ينظر إلى تلك الزاوية ... حيث ظهر خيال امرأة باتت له مألوفة لوهلة ... قبل أن تختفي عن ناظريه ... وينتهي كل شيء ..
أنت تقرأ
وقيدي اذا اكتوى(مكتملة)
Romanceالجزء الثاني من سلسلة في الغرام قصاصا بقلم المبدعة blue me حقوق الملكية محفوظة للمبدعة blue me