الفصل الرابع

241 12 0
                                    

نامت على خيوط من وهج القمر واستفاقت على أخرى من شعاع الشمس. بدت منهكة كئيبة، لم تهنأ في نومها لحظة واحدة فقد باتت تصارع أشباحها الليل بطوله.
من كابوس لكابوس أصر الجميع أن يعذبوها، وحتى محمود لم يتخلف عن الركب وكان له من ذلك نصيب... شاهدته يسير في أرض فلاة قاحلة حافيًا وقد أحرقت الرمضاء قدميه وهو في كل مرة يبتعد عنها أكثر... كانت تسمع ضحكات امرأة متشفية دون أن ترى وجهها وهي تنعتها بالفاشلة وتكررها على مسامعها مررا...
في طريقها إلى المطبخ، دفعت باب غرفتها بشدة حتى ارتطمت والحائط وهي تتمتم بفرط غيض وأنفها شامخ في السماء: فليرحل... وكأنني بحاجة إليه....
وعبست بوجهها تحاذر في سيرها ويدها على جرحها: من هو أصلاً!..
سمعت فجأة صوت باب شقته ينفتح وعرفت أنه قد خرج، حاولت أن تتجاهل خفقات قلبها المتسارعة ووخزة الألم التي ضربت أحشاءها فجأة... عميقة هي ردة فعلها، فقط لمجرد إحساسها بوجوده رغم أن بينهما أسوار تحجبها عنه وعن نظراته...
يا إلهي، نظراته...
غطت وجهها بكفيها وهي تشعر بالهلاك... هذا هلاكها أي والله!.. من كان يعتقد أنها ستسحر برجل لا تعرف عنه غير صورة وإسم!... تعبت من مُمَارات شعورها والتظاهر باللامبالات... ستكون حمقاء إن استمرت في خداع نفسها، لوجوده في حياتها معنى... وهي لن تنكر أنها ترغب حقا في التلصص عليه من خلف شق الباب علها تسترق منه نظرات على عجل...
فتحت البراد وأخرجت بعض العصير... ستبرد قلبها المستعر قبل أن تفكر في تناول الفطور... أخذت كأسها الممتلئ وسارت به حتى النافذة... وقفت تتأمل الشارع خلف الستائر الشفافة وأبطأ هو في الخروج حتى كادت تصرخ به "أين أنت!"
سار مبتعدا باتجاه الموقف وأخرج حمالة مفاتيحه يرن على سيارته. انحنت شفاهها لترسم ابتسامة دون مقدمات... أسر قلبها وعيونها وهامت فيه للحظات. تعلم أنه لم يترك لها من قلبها شيئا وتخاف من هذا الشعور... ماذا لو ضاع منها وأضاع معه قلبها...

*******

وصلت سهام متأخرة كالعادة على أمها ووقفت عند ناصية الشارع معها تتحدثان. بدت سهام مرتبكة وهي تسألها: أحضرت النقود؟
أجابتها باستياء: رفض خالك أن يديّنني المزيد.
صرت على أسنانها: تبا... كيف سندفع ثمن باقي الترياق الآن؟
هدأتها أمها وهي تربت على كتفها: لا تقلقي يابنتي... سنتحدث إلى الشيخ... يبدو صالحا وقد يقبل أن يديننا إياه.
بدت سهام متوجسة: لا أعتقد أمي...
سحبتها أمها خلفها وهي تقول: لنحاول لا ضير من المحاولة.
البارحة عندما زارتها والدتها أحضرت لها قارورة دواء نتن الرائحة وطلبت منها أن تحتفظ به بعيدا عن الأعين فخبأته في درجها السفلي وأقفلت عليه بالمفتاح. قالت أن الشيخ طلب منها أن تدفع المزيد مقابل القارورة الثانية، وأكد لها أن أخذ الدوائين معا يعطي نتيجة فعالة بعشر أضعاف... بالطبع الأم الرؤوم لن تفوت فرصة كهذه، وأخذت على عاتقها مهمة اقناع ابنتها... سهام لم يبق في حوزتها فلس واحد ولم تستطع قبول العرض لكن سامية أقنعتها أنها ستتدبر المبلغ، وعلى ما يبدو هذا لم يحدث...
دخلت الاثنتان على الشيخ وهما تفكران كيف تقنعانه بأن يدينهما الدواء. ظلتا صامتتين حتى خرج من روحانياته وأولاهما اهتمامه. فبدأت سامية تشرح له وهي تستعطفه و تترجاه. استمع إليهما حتى صمتتا معا ولم يتبق لهما ما يقولانه سوى انتظار حكمه...
حدق بسهام طويلا وعيناه الجريئة تمسح على جسدها. ثم طلب من أمها أن تنصرف.
لم تجد سامية بدا من الخروج دون حتى أن تبحث عن السبب، فهذا الشيخ المحترم لا يقول شيئا إلا لحكمة ما... هذه هي الكلمات التي همست بها في أذن ابنتها قبل أن تتركها وحيدة معه في ريبتها.
خرجت إلى الشارع لتتخلص من ضوضاء النساء وحواراتهن الشيقة ووقفت قرب الجدار لتتحدث إلى زوجها على الهاتف. لقد اتصل مرتين ولم تتمكن من الرد عليه، أخبرته أنها عند الطبيبة وقد تتأخر... كانت في كل مرة تتحجج بحجج واهية لتترك المنزل دون أن يعرف بما تفعله وابنتها... لكنه هذه المرة تتبعها وكان خلف كشك السجائر ينظر إليها وهي تطلق أكاذيبها. تمنى في تلك اللحظة أن يخرج إليها ويجرها من شعرها في الشارع انتقاما منها. لكنه فضل أن يتركها ترجع للمنزل أولا فأقفل الهاتف وسبقها إلى هناك.
بعد لحظات من انصرافه وقبل أن تعود للداخل خرجت ابنتها غاضبة وقد طفح بها الكيل. بدت مندهشة وهي ترى ثورة غضبها: مابك يابنتي؟
هدرت فيها بانفعال: إلى المنزل يا أمي... لا أريد رؤية هذا الدجال مجددا...
شهقت سامية: ليس دجالا يا بنتي... إنه شيخ مبارك...
ردت بانفعال أكبر: أعلم يا أمي هو شيخ محترم لا يقول شيئا إلا لحكمة ما!
قاطعتها : مالذي حصل؟
صمتت سهام وهي تحدق بأمها للحظات ثم أجابتها: اقتضت حكمته بتعرية جسدي...
ضربت بكفها على صدرها وشهقت شهقة واحدة. بينما تابعت سهام بغضب: ذلك الشيخ الأجرب لم يستحي وهو يقول لي إخلعي ثيابك يا بنتي واجلسي وسط الدار حتى أطوف عليك وأطرد عنك لعنة السحر ... قد يكون هذا بديلا لقارورة الدواء الذي لم تتمكني من دفع ثمنه...
استجمعت طاقتها وتابعت: بالبداية قال أن فادي هو من يعاني من السحر، والآن يقول أنه سيفك عني لعنة السحر... أرأيت أمي كم هو كاذب!!!
تمتمت سامية ببعض الكلمات المبهمة فالدهشة عقدت لسانها... بينما تابعت سهام: شيخك المبارك يا أمي ليس سوى نصاب، دجال... إنه يأكل أموال المغفلين أمثالنا... أمي هذا الرجل ليس سوى مشعوذ لعين...
ردت أمها بانكسار: ولكنك قلت أن ما أعطاك إياه قد أفادك وهدأت الأمور بينك وبين زوجك... لقد تحسنت علاقتكما أليس كذلك؟
ردت سهام باستياء: وما أدراني أنه لم يكن سحرا... ربما جعلني أسحر زوجي ليحبني وأوهمني أنه يتعافى من سحر قد يكون غير موجود في الأصل يا أمي...
طأطأت رأسها بانكسار وهي تتمتم: ذهب كل ما فعلناه أدراج الرياح...
أمسكت بها ابنتها وسحبتها خلفها حتى ترجعا إلى المنزل وكلاهما في انكسار شديد... لقد خسرتا كل ما تملكانه من مال ومدخرات من أجل لا شيء... تلاعب بهما ذلك الشيخ العجوز واستغل سذاجتهما ليسلبهما كل شيء. هذه هي نهاية المغفلين الذين يصدقون كل ما يسمعونه دون تشغيل عقولهم. فلو فكرت أي منهما ولو قليلا لأدركت أن الله هو الرازق وهو الذي يكشف الضر ويقلب الحال من النقيض إلى النقيض... كانت تكفيها دعوة لحوحة من قلب صادق في ظلمة الليل ودمعة قهر تبثها لمن بيده ملكوت كل شيء...
أقمنا نصف دنيانا
على حكمٍ وأمثال
وشيدنا مزاراتٍ ..
لألف .. وألف دجال ..
وكالببغاء .. رددنا
مواعظ ألف محتال ..
قصدنا شيخ حارتنا
ليرزقنا بأطفال
فأدخلنا لحجرته
وقام بنزع جبته
وباركنا
وضاجعنا
وعند الباب ، طالبنا
بدفع ثلاث ليراتٍ
لصنع حجابه البالي ..
وعدنا مثلما جئنا
بلا ولد .. ولا مال
نزار قباني

أنثى بحروف شرقيةحيث تعيش القصص. اكتشف الآن