الفصل السادس والعشرون

105 6 0
                                    

 

حزم الشتاء أمتعته للرحيل.. ومسحت السماء كل دموعها لتشرق شمس الأمل من جديد، وتجدد وعودها بغد أفضل وأيام لا تكدرها العتمة...

ها هي الأيام تمضي سريعا لتطوي ثلاثة أشهر من الزمن. عندما تدور عقارب الساعة فإنها تأخذ من عمر الجميع ولا تستأذن أحدا...

إنها أواخر الربيع. وهناك بأعالي الجبال، تباهي الأرض غيوم السماء ليرقص الأخضر من أثوابها مع هبوب الرياح وينشد حفيفا عذبا بلا كلمات...

كانت نسرين جالسة بمحاذات جدول صغير تنثر بتائل الورود واحدة بعد أخرى. وتتأملها وهي تجري مع المياه  نحو الأراضي المنخفضة.

لقد أمضت أياما ممتعة هنا و اعتادت على سكون المكان وصفائه، كما أن يامنة وفاروق كانا نعم الأهل لغريبين مثلهما هربا من أزقة القدر الضيقة إلى شوارع الوحدة الخالية...

اقترب منها محمود واضعا كفيه بجيوبه وهو يتأمل شرود وجهها الباسم حتى وصل قبالتها فانتبهت إليه: محمود! اعتقدت أنك توجهت إلى المدينة رفقة العم فاروق!

اقترب أكثر وتخير له مكانا ليجلس بمحاذاتها ثم همس لها وهو يضم كتفيها إليه: أحمد الله كلما رأيتك صافية البال وهادئة... لا تعرفين كم يسعدني أن تكوني مرتاحة!

أرخت رأسها على صدره: وجودك بقربي نعمة أسأل الله ألا يحرمني منها.

صمتا لبرهة يتأملان جدول الماء يجري وخرير تدفقه يداعب سمعهما. كل منهما كان شاردا في عالمه... نسرين تتطلع لمستقبل آمن، ومحمود يحاول أن يبني أفكاره ليرسي خطوته المقبلة فقد اتصل برقمه القديم المقفل الضابط وائل وأكد عليه في عدة رسائل أن يحضر للإدلاء بشهادته في المحضر. كما أن أسامة الشقيق الأكبر لنسرين قد طلبه عدة  مرات وعندما عاود الاتصال به أخبره أنه قد تحدث لكل الأسرة وأنه يجب أن تحضر نسرين بنفسها لتقابل والدها فهو أهم فرد بكل العائلة ورضاه يعني رضاهم جميعا.

ليس يدري حتى الآن كيف سيفتح معها هذا الموضوع وما قد يكون رد فعلها! عليه أن يمهد لها تمهيدا يليق بمثل هذا الحديث، خصوصا فيما يتعلق بوليد فهي حتى الآن لم تعرف بأن الشرطة احتجزته... وإن حدث وأن قررت مسامحته سيتحتم عليهم العودة للعاصمة من أجل التنازل على القضية...

زفر بإعياء فابتعدت عنه لتنظر إلى وجهه المهموم ثم داعبت بأصابعها وجنته مرورا بذقنه وهي تهمس له بحب: ما يتعبك يا قلبي؟

قبل أصابعها التي دنت من شفاهه وتنهد: لا شيء... لا تشغلي بالك.

ثم تلمس بطنها الصغير بحنو: هل يكبر صغيري؟

ضحكت بحماسة، فأكثر ما يسعدها هو ذلك الشعور الجميل الذي بات ينتابها، عواطف جياشة تسمى الأمومة... فالمرأة لا تصبح أما عندما تلد صغيرها، ولكنها تصبح كذلك ما إن تحمله في أحشائها... لقد أضحت هذه الكومة الصغيرة النابضة في عمق أحشائها خيطا من خيوط السعادة وسببا من أسباب التشبث بالحياة حتى آخر رمق.

أنثى بحروف شرقيةحيث تعيش القصص. اكتشف الآن