إهداء:
هذه الرواية مهداة لصاحبة القلب الكبير التي بنت نفسها من لا شيءلستُ ناراً... فالنار تُطفِئُها القطرات...
ولست من نور... فالنور يختفي وتليه الظلمات...
لست من ورد... فالورد خلق ليموت، وتدعسه الأقدام في الطرقات...
لست الحمام... فالحمام سجين على الشرفات...
أنا!... لا تسألني من أنا...
أنا بقايا روح...
حفنة أحاسيس...
وجحيم ذكريات...شدت أطراف ثوبها الفضفاض من حولها وتمسكت بالشال المنسدل على رأسها يستر شعرها الأسود القصير، وراحت تسرع الخطى تستقبل الرياح الهوجاء بعيون مغمضة ترمشها فقط لرؤية الطريق أمامها، فتشعر بخشونة حبيبات الرمال التي استطاعت أن تلامس سواد أحداقها العائم في بياضها الناصع.
كانت تتذمر في داخلها من فكرتها اللامعة في الخروج نهار اليوم وهي التي تعرف أن الجو متقلب، فقد تابعت أخبار الطقس ليلة البارحة وتعلم أن الرياح ستكون عاتية نهار اليوم.
بالكاد استطاعت تجاوز المرتفع سيرا على الأقدام، تصعد الدرجات المتوالية بخطى سريعة لتصل إلى الحي الذي تسكن فيه، والذي يقع أعلى منحدر صعب يشتكي أغلب ساكنيه من وعورة المسالك المؤدية إليه.
عندما دخلت العمارة التي تسكن بها تفقدت صندوق البريد، وكانت تتوقع أن تجد وصل الكهرباء والغاز وكذلك الايجار.
سحبت الوصلين بأصابعها فأوقعت ظرفا ثالثا كان تحتهما. تأملته وقد ارتفع حاجباها بدهشة: ماذا الآن؟ لقد دفعت فاتورة الهاتف والانترنت قبل أيام!
كانت ستميل بجذعها لتحمله لكنها سمعت صوت أقدام تنزل الدرج القريب فرفعت رأسها بحذر لتشاهد جارها الجديد بالبناية "محمود" وهو يملأ الفراغ أمامها بطوله الفارع. منحها ابتسامة عفوية وهو يلقي التحية: مساء الخير...
ردت عليه من بين شفاهها بصوت خفيض: مساء الخير.
انحنى إلى الأرض ورفع المغلف أمامها: هذا لك؟
التقطته على عجل وهي ترد: نعم... شكرا لك...
وأشاحت بنظرها عنه فلم تشاهد إلا جسده وهو يتنحى من أمامها وجاءها صوته وهو يقول: "طاب يومك..." قبل أن يترك العمارة مكملا وجهته إلى الخارج.
زفرت بتعب وقلة حيلة... مازالت تشعر أنها غير قادرة على التعاطي في الكلام مع الرجال بصورة طبيعية ودون أن تشعر بأنها تقترف ذنبا وترتكب خطيئة...
تراءت أمامها صورتها قبل عشرين سنة عندما كانت مراهقة في الخامسة عشرة من عمرها هي وأختها التي تصغرها ببضعة أعوام تقومان بأعمال البيت وأمهما تحذرهما من النظر عبر فتحة الباب أو النافذة، مخافة أن يطلع عليهما أحد من الجيران... تحذرهما من أن يظهر من شعرهما أو جسدهما شيء أمام الغرباء... تحذرهما من التعاطي مع الرجال بأي كلمة... ومن أين للمسكينتان في مقبرتهما تلك أن تريا رجلا غير نفر من خمس اخوة ذكور تسرعن في تلبية طلباتهم على عجل ودون نقاش حتى تتجنبن الركل والشتم...
تراقبان بعيونهما البريئة أمهما وهي تحرص على أن تلقنهما أن الرجل أرفع شأنا من المرأة وأنه عليه أن يعامل معاملة الملوك... ليس بصريح العبارة ولكن كانت مثالا حيا وهي تتقرب لوالدهما بإعلان إذعانها وولائها حتى على حساب راحتها وكرامتها، وتصبر على اضطهاده وتعنيفه لها، يهينها بلا سبب ويتفنن في تسديد ضرباته لها ليرضي غطرسته... وهي تسامحه دون أن يطلب الغفران... بل لم تكن تبدي أيما اعتراض على ما يفعله. ربما لأن أمها علمتها السمع والطاعة، وكانت تلك خصلة متوارثة في قطيع "النعاج" انتهاءًا إليها...
غزتها تلك الصور الدامية فجأة وتوالت أمامها تباعا... عنف لفظي وعنف جسدي وتأديب جماعي... لقد نالت نصيبها من عصا والدها وإخوتها بشكل قاسٍ لم ولن تنساه يوما في حياتها... آلامها وجراحها ستنزف يوما بعد يوم وقطرة بعد قطرة حتى ترقد في قبرها...
أقفلت باب شقتها بشدة خلفها وهي تصر على أسنانها وتشد على قبضة يدها بقوة حتى كادت تتلف الأظرفة الثلاثة، تحمد الله في قرارة نفسها أنها لم تتزوج حتى اليوم، فلو كان لها زوج لكانت قد أسقطت كل أسنانه بعصا من أول شجار أو محاولة فرضه لسيطرته عليها... ليس انتقاما منه ولكن انتقاما لسنواتها القاحلة في أسرتها الظالمة...
اليوم لم تعد تلك الفتاة الضعيفة التي تركن للخنوع، اليوم هي امرأة قوية بدرع من حديد، لبؤة شرسة تُهاجِم قبل أن تُهاجَم... اليوم هي مستعدة لسحق الجميع ولن تتردد في تعليم كل متملق مكانه... ليست تحب التصنع ولا تستهويها المناظر الزائفة.
إنها "نسرين سعيد" تلك البنت التي لم يكن لها من اسمها نصيب... تلك البنت التي عانت في سبيل أن تعيشى أنثى... ورغم كل ما تحملته لم تستطع أن تكون أكثر من أنثى مضطهدة بين أب وخمسة من الإخوة الذكور ينظرون إلى المرأة على أنها مخلوق أدنى منهم جميعا مرتبة... وربما كانت أمها تتحمل شيئا من المسؤولية لأنها رضت بأن تعيش على الهامش وأن تقنع ابنتيها أنهما خلقتا لتكونا مثلها...
يعتصر الألم قلبها ويغرز براثينه في سائر جسدها كلما تذكرت ما مرت به في أعوامها الماضية، ولا تصدق أنها كانت ضعيفة لتلك الدرجة... لدرجة أن تتركهم يمسحوا كينونتها ويسلبوا منها شبابها وكل دقيقة ثمينة من عمرها الذي ضاع بين المطرقة والسندان.
فتحت شبابيك الغرفة وسمحت للهواء أن يرفع ستائرها عاليا... خرجت إلى الشرفة التي كانت بالطابق الرابع ووقفت تراقب الأطفال يلعبون بالحديقة القريبة وتستمع لأصواتهم العالية. كانت تفعل هذا كل يوم... في كل مساء تستر شعرها وتخرج إلى الشرفة، انتقاما من كل أسرتها... تقف هناك وتراقب الشمس التي حرمت منها سنين طوال وهي تغيب في الأفق...
وضعت ساعديها على الحاجز وأغمضت عيونها تستنشق الهواء الذي كانت تحمله تلك الرياح العاتية العنيفة كما هي مشاعرها الآن...
وراحت تتذكر رغما عنها شيئا من تلك الأيام المريرة...
كانت تعيش في أسرة متواضعة أب يعمل براتب بسيط لإعالة أسرة كبيرة. إخوتها الثلاثة الأكبر سنا كانوا الأسوأ على الإطلاق في المعاملة، الأكبر أسامة ثم رابح وخالد. أما الأصغر سنا نبيل ووليد فلم يكونا أفضل من سابقيهم، فبمجرد اشتداد عودهما حتى سلكا النهج ذاته متناسيان حنان أختيهما ورعايتهما لهما...
أم ليس لها أي سلطة وأب يمارس اضطهاده المفرط على الجميع.
شعرت برغبة في الضحك وهي تتذكر أختها "أمل" عندما كانت جالسة في فناء البيت تراقب السماء في شروذ وتتيه في النجوم متبسمة بحالمية... يومها وقف عند رأسها الوالد العتيد بوجه عابس لا يبشر بالخير مطلقا، ونهرها بصوته الغليظ: فيما تحدقين!
ارتعشت أوصال الفتاة الصغيرة ولم تدر أي ذنب قد ارتكبته فمن الواضح أنها لا تغازل رجلا ما يختبئ خلف النجوم... إلا إن كانت تواعد ماردا من الجن!
نهرها بشدة وقد انتفض جسده مهددا بضربها: أدخلي المنزل أيتها البلهاء، سأكسر رجليك ان عدت إلى هنا...
قفزت أمل مذعورة حتى كادت تسقط أرضا وهربت كالأرنب نحو تلك الغرفة الصغيرة أين جلست ترتجف خوفا وهي لا تفهم سبب تصرف والدها ذاك... حتى نسرين نفسها لم تكن تفهم السبب وراء ما قام به والدها. لكنها اليوم تدرك تماما أنه كان في دستوره يجرم الأحلام... لا يحق لهما بأن تحلما بأي رجل ينتشلهما من غياهب الجب الذي تسكنانه... ليست تدري بما كانت تفكر أختها وهي تراقب السماء كالمعتوهة، ولكنها تجزم لو أن والدهما استطاع أن يطلع على سرها وعرف برجل ما لكان قد وأدها حية تحت الثرى!
فيما كانت هي تتذكر الماضي وتبتسم بازدرراء كان هو يراقبها بفضول. محمود الجار الجديد... منذ أن استأجر الشقة المجاورة لشقتها وهو يشاهدها كل يوم تغادر صباحا وترجع مساءا... لا يعرف ماهي وظيفتها ولكن من الواضح أنها تشغل منصبا يدر عليها المال لتستطيع دفع إيجار الشقة وفواتيرها المختلفة...
قبل أيام دخل العمارة خلفها وسار غير بعيد عنها كانت مجرد صدفة، وبما أن المصعد معطل أغلب الوقت فقد اضطرا لاستخدام السلالم، يومها تسارعت خطواتها لتسبقه وكأن سيره خلفها مباشرة أمر في غاية الازعاج لها أو ربما كانت تخاف منه، لكن مما تخاف؟.. أيعقل أنها لا تثق به رغم أنه يحاول أن يبدو لبقا كلما التقى بها!.. المشكلة أنها تتصرف معه بريبة، لا تنظر إليه، لا تحدثه، وبالكاد ترد عليه التحية...
ليس هذا تصرف امرأة مثقفة من أهل المدينة... قد يفهم تحفظها والتزامها لكنه لا يفهم سبب ارتباكها و اضطرابها كلما مر بقربها! إنها تتعامل معه بحذر وكأنها تتهمه بمحاولة التحرش كلما لاحت منه نظرة عفوية إليها...
في ذلك اليوم سبقته بأدوار وسمعها تتحدث إلى جارتيها بالطابق الثالث، وبعد تحية وأخذ ورد تابعت طريقها إلى شقتها دون مماطلة، يومها عرف أنها ليست اجتماعية، أغلب الظن أنها منعزلة تحب الوحدة... لكن الأهم من ذلك هو ما كانت تقوله عنها الاثنتان، فبمجرد ابتعادها عنهما حتى قالت الاولى: ماهي طبيعة عملها؟ من أين لها أن تدفع كل مستحقات شقتها وهي مقطوعة من شجرة، لا أهل ولا ولد... منذ أن وطئت قدمها هذه العمارة قبل سنوات لم يزرها أحد...
ردت الثانية: ربما لديها رصيد محترم بالبنك...
أجابتها الأولى: أتعرفين ما سمعته عنها... لقد رأوها بمنزل "ياقوتة" قبل بضعة أيام...
فغرت الأخرى فاها بريبة وهي ترد: لا!.... ياقوتة! أعوذ بالله.
وما إن انتبهتا لوجوده حتى صمتتا فألقى التحية بأدب وتابع طريقه والفضول يفترسه، من هي ياقوتة؟ ومالذي كانت تفعله نسرين عندها؟..
لم يستطع مقاومة فضوله... وبعد بضعة تحريات عرف أن ياقوتة هذه تدير بيوتا للدعارة بالمنطقة وقد تم القبض عليها أكثر من مرة إلا أنها كانت في كل مرة يُطلق صراحها بكفالة أو نقصان للأدلة...
لا يبدو له أن هذه الفتاة التي تهرب من رجولته بهذه الطريقة المبالغ فيها قد تكون لها صلة بعمل كهذا من قريب أو من بعيد، لكن يظل تواجدها في مكان مماثل أمر يثير الريبة، فما هو سبب تواجدها هناك!
تذكر فجأة كلمات جدته وهي تقول "لا تأمن النساء يا بني فإن كيدهن عظيم وقد شهد خالقهن عليهن بذلك..."
ليس عليه أن يحكم عليها بالنقاء لمجرد أنها أظهرت العفة المفرطة فكم من امرأة ارتدت ثوب الطهارة لتستر قبح أخلاقها!
وكأن فصيحة اللسان تلك من صنف الملائكة!!!
أنت تقرأ
أنثى بحروف شرقية
Romanceلمحبي القصص الرومانسية😍😍 بلمسة واقعية أقدم لكم رواية : انثى بحروف شرقية الرواية تحكي عن معاناة المرأة في مجتمع قاسي يمارس سياسة الكيل بمكيالين فيحاسب المرأة على كل كبيرة وصغيرة بينما يترك للرجل حرية ارتكاب الأخطاء. في مجتمع عربي وبواقعية نعيش قصص...