الفصل الثاني عشر

142 8 0
                                    

الفصل الثاني عشر

فتحت بابي شقتها بأياد مرتعشة وأغلقتهما معا وكأنها توصد على وحوش تنهش قلبها خلفهما، وكأنها توصد على كل ما شاهدته قبل قليل خلف البابين وخارج حياتها.
حمدت الله أنها مازالت تحتفظ بمفاتيح شقتها في حقيبتها وليس من داع لأن تدخل شقة محمود وتفتش عنها هناك وتزيد من مرارتها مرارة وتموت قتيلة فوق كل تلك الذكريات التي تضج بها جدران الشقة التي احتوت حبهما في يوم من الأيام.
ضربت بالمزهرية الجدار تصرخ بعذاب: كاذب !...
وتهاوت أرضا وهي تغمض عينيها وتسد أذنيها أمام تلك الصور والهمسات التي اجتاحتها لتسقيها فوق العذاب عذابًا... حبه لها أصبح مصدر ألم وذل ومهانة...
كيف استطاع خيانتها بأبرد طريقة !!! مازالت كلمات الصفراء تلك ترن كالناقوس المدوي فتهتز معها أضلعها ويصرخ قلبها كمدًا "الرحمة !"... رحماك ربي، هذا عذاب لا قبل لها به !!!
سقطت أولى الدموع من عيونها بعد كل المعمعة... مسحتها بيدها المرتجفة وتأملت بريقها وهي تشعر بالذل والاستصغار، لقد نجح ذلك الرجل في كسر كل جميل بداخلها... خانها بأبشع طريقة وضحك منها في ذلك الوقت الذي كانت هي تذرف دموع الشوق الجارف... تهاوت بعدها دمعة أخرى لتسيل عيونها بأمطار شتاء بارد فيه مَحرقة قلبها... تشهق بألم وتتردد الشهقات بصدرها دون أن تمنح لنفسها لحظة سلام واحدة...
افترشت الأرض تحتها تسقيها من مآقيها و ترثي ذكرى حبيب ومنزل... ليس من السهل أن تتقبل ما رأته وسمعته، تتمنى لو أنها في كابوس ستستفيق منه بعد هنيهة...
سمعت طرقا على الباب وصوته وهو ينادي باسمها، إنه هو من قهر قلبها وألقى بها قتيلة بين براثين القدر. صرخت به بجنون تطالبه بالرحيل وقد ازداد هو إصرارًا يترجاها أن تسمعه، قال لها: لا تلقي بحكمك علي دون أن تسمعي مني، أنا أرجوك...
أجابته بصوت خنقه البكاء: ارحل ولا تعد... لا أريد أن أستمع لأكاذيبك التي لا تنتهي... هل ستخبرني أنك لم تتزوج بها؟
زفر بإحباط وهو يتحسس اللوعة بقلبها في كل كلمة تقولها، ثم حاول معها من جديد: افتحي الباب أنا أرجوك... افتحي حبيبتي...
جن جنونها وهي تتخيله يستغبي عواطفها بكلماته، صرخت به: لا تقل حبيبتي... ارحل من هنا... لا أريد سماع حتى صوتك... أيها الخائن... الكاذب...
وشهقت بعذاب حتى وصل صوت نشيجها إليه فأغمض عيونه بألم وهو يشعر بحرقة قلبها، كيف لها أن تنسى ما شاهدته وما سمتعه ! هي لن تسامحه هذا مؤكد وهو لن يغفر لنفسه أنه سبب لها كل هذا العذاب.
وضع جبينه على الباب الحديدي البارد وبقي يستمع لعذاب قلبها وهو يشتم نفسه آلاف المرات، هل كان عليه أن يقحمها في جحيمه !.. كان لديها ما يكفيها من مشاكل فلماذا حملها وزر خطاياه !

*********

في غرفة الاستقبال بمنزل أهل سهام كانت هناء جالسة ترتشف الشاي وهي تتبادل الحديث مع سامية وطبعا تتشاوران حول الوضع الذي أصبحت عليه سهام وكيف كادت تؤذي ابنها للمرة الثانية.
قالت هناء: أتمنى فقط لو أنها توافق على رؤية الدكتور... بلغني أنه ماهر في عمله...
ردت عليها سامية: إقناعها أمر صعب. لقد تحدث إليها والدها ليلة الأمس وكاد يشاجرها لكن ردها واحد... تقول أنها ليست مجنونة...
تجرعتها هناء على مضض وأخذت رشفة من فنجانها وهي تفكر في خطوتها التالية... وفجأة أبصرت سهام وهي تقف عند المدخل وعيونها ترمقها بنظرات غريبة حتى كادت تختنق بقطرات الشاي.
دخلت وجلست رفقتهما ملقية بالتحية، صمتها مريب كهدوء ما قبل العاصفة. استوت في جلستها وحدقت بهناء بثقة: كيف حالك حماتي؟
فغرت سامية فاها بريبة ما هذا التعقل والاتزان ! قبل أيام كانت تهدد بقتلها لأنها من تجعل منها مجنونة...
أجابتها هناء بتوجس: بخير...
تأملت سهام أناملها وعبثت بأظافرها قبل أن تقول: و... ماذا يقولون أيضا عن هذا الطبيب النفساني؟
حدقت هناء بسامية للحظات ثم قالت: إنه طبيب بارع في عمله...
قاطعتها سهام: متى يمكننا زيارته؟
سعلت أمها وقد تحشرجت قطرات الشاي بحلقها واحمرت عيناها حتى كادت تختنق فقدمت لها ابنتها الماء وضربت ظهرها بخفة حتى تتماسك.
قالت وهي تلتقط أنفاسها: أنا بخير... بخير...
التفتت اليها هناء من جديد وعلى وجهها علامات الدهشة: في أي وقت. طلب فقط أن نحجز عنده موعدا قبل ذهابنا... هذا كل شيء.
منحتها ابتسامة غامضة وهي تقول: اتصلي به إذن... سنذهب أنا وأنت اليوم.
بدت غير واثقة مما تقوله كنتها فحملقت بسامية متسائلة لكن هذه الأخيرة كانت محتارة مثلها ولا تفهم سر الانقلاب في موقف ابنتها بهذا الشكل بين ليلة وضحاها...
*********
كانت ما تزال تبكي في حضن ياقوتة وهي تعيد عليها للمرة العاشرة كل ما شاهدته وما سمعته. ومع كل مشهد جارح كانت تنزف دموعها ويتزلزل كيانها بقهر لا مثيل له.
لم تجد الأخرى ما تقوله سوى هدهدتها بحنو وهي تطلب منها أن تكف عن البكاء. كان عقلها في متاهة لا نهاية لها وهي تحاول أن تفهم حقيقة ما يدور بين الاثنين.
اتصل بها محمود قبل ساعات وأخبرها أن نسرين في حال سيئة وأنه عليها أن تحضر لمواساتها في الحال. حاولت أن تفهم منه ما يحصل لكنه اكتفى بالقول أنه يحبها ولم يقصد أذيتها..
شوشت هذه الكلمات عقلها وهرولت بالمجيء إلى هنا وأول من شاهدته عند وصولها هو وقفته الحزينة والمنكسرة قرب باب شقتها، بدى لها مصفرا كئيبا حتى أنه كان هزيلا ويبدو عليه الهم والغم.
قالت بقلق: ما بها نسرين؟
رد بعد شهقة عميقة: تقفل الباب ولا تريد أن ترى وجهي...
رفعت من صوتها بدهشة: ما الذي حصل بينكما ! ومتى عدت؟
حرك رأسه بحسرة وهو لا يريد أن يجيب على أي سؤال وقال باختصار: لن تعذريني لا أنت ولا هي... أعلم أنني قد ارتكبت حماقة. لكن صدقيني لم يكن أمامي حل آخر...
قالت بشحوب: طلقتها !!!
هز رأسه مستبعدا أن يحصل هذا: لم أتزوج بها لأطلقها تحت أي ظرف...
وجهت إليه أصابع الاتهام: اتخذت إذن عشيقة...
خلل أصابعه في شعره وقال بضيق: أدخلي إليها واجعليها تتوقف عن البكاء... سأجن من سماع نحيبها وأنا بعيد عنها...
استمعت لما يقول وهي تشاهد قلة حيلته وآلامه تطل من نظرات عيونه. ثم طرقت على الباب وهي تقول: نسرين... حبيبتي افتحي الباب هذه أنا...
وانتظرت الرد فلم تسمع أي كلمة ولا حتى صوت نشيجها.. ثم جاءها صوتها وهي تقول: لن أفتح له... أعلم أنه جاء بك ليتمكن من الدخول.
نظرت إليه ياقوتة فأشاح بنظره عنها ثم قالت له: ابتعد، يجب أن أدخل إليها ولا أريدك أن تتواجد هنا عندما تفتح لي الباب.
قال بتعب: يجب أن أكلمها... ربما لن تصدقني لكنني يجب أن أراها وأخبرها حقيقة ما حصل... أنا لم أخنها ولم أتخلى عنها... زواجي من مروى كان كارثة لابد من وقوعها...
ذعرت وهي تتأمله ثم قالت: تزوجت ! معقول !
وبغضب دفعته بعيدا عن باب الشقة وهي تقول: كيف لا وأنت ابنه... نسخة منه !
ثم رفعت إصبعها في وجهه متوعدة: إن لم ترحل الآن وتنسى نسرين وكل شيء يخصها سأقتلع عيونك...
وناظرته بازدراء: أعرف أمثالك... رجال لا يشبعون... يريدون كل النساء دفعة واحدة... لابد وأنك لم تتزوجها إلا لأنك علمت أنك لن تنالها بغير طريقة...
ثم تابعت بكره: لو سمحت غادر من هنا حالا أريد رؤية صديقتي...
عادت لواقعها على صوت شهقات صديقتها فراحت تمسح على رأسها بحنو ثم قالت: أعتقد أنه عليك أن تسمعي منه...
صمتت نسرين مصدومة ثم نظرت إليها ساخطة: أنا لا أريد سماع أكاذيبه... الأمر واضح ولا يحتاج لتفسير...
أجابتها ياقوتة بتعقل: لو كنت لا تعنين له شيئا ما ظل عند باب شقتك يترجاك أن تفتحي له اليوم بطوله... صحيح أنني كرهته عندما أقر بزواجه من تلك المسماة مروى، لكن عندما فكرت بمنطقية بعيدا عن العواطف، أجد أن تصرفاته تجاهك نابعة عن حب لا عن رغبة عابرة...
همت بالاحتجاج فقاطعتها وتابعت: أنا أكثر معرفة منك بهكذا أمور... من الصعب أن تجدي رجلا صادقا في مشاعره، وإن حدث ووجدته فلا يجب أن تضيعيه... أرى أن تسمعي منه ولن يضرك الأمر...
بلغت من الحنق أقصاه فلم تعلق على كلام ياقوتة وإنما اكتفت بالتحديق فيها بصرامة: أريد أن أبقى لوحدي قليلا لو سمحت...
فهمت الأخرى أنها تريد منها ترك الشقة فوقفت وهي تعدل هندامها: أعلم أنك ناقمة مني لما قلته لكنني أرجو منك أن تتعقلي وتتخذي القرار الصائب. على كل حال اتصلي بي إن احتجت أي شيء، وكفي عن البكاء لأنه لن يأتي بنتيجة...

أنثى بحروف شرقيةحيث تعيش القصص. اكتشف الآن