الفصل السابع

186 9 0
                                    


وضع محمود العلبة في الركن حتى تلقي بها المنظفة غدا في القمامة وعاد أدراجه إلى نسرين التي كانت ترمقه بنظرات ساخطة. وعندما اقترب منها وقبل أن يهمس لها بأي عبارة حب تنسيها استياءها همست له هي بصوت مختنق: ترى ماهي هدية زفافي منهم يا ترى؟
التفت إلى حيث كانت عيونها متعلقة بالعلبة ثم إليها: من تقصدين؟
لم ترد عليه، لكن في أعماقها كانت تعرف أنها هدية لها من أهلها فهم وحدهم من يقتفون أثرها ويرصدون حركتها، وعلى الأغلب عرفوا أنه يوم زفافها لهذا رن حامل الهدية على شقة محمود وتركها عند باب شقتها. إنها رسالة لها مفادها أن تلك هديتها لا غير.
بجرأة اقتربت من العلبة وحملتها مزيلة شرائط الزينة من حولها. فيما بقي محمود يراقبها وبذهنه صدى لألف سؤال...
صعقت فجأة وتجمدت مكانها فأسرع إليها عندما سمع ارتطام العلبة بالأرض بعد أن هوت من يدها.
لفها إليه بقلق: ما بك؟
لم تجبه بكلمة، وظلت كما هي في حالة صدمة، فحمل قطعة قماش أبيض يبدو أنها سقطت من داخل العلبة وتأملها ثم سألها بريبة: ما هذا؟
أجابته بصوت مختنق فقد رنته العذبة: ألا تعرف ما هذا !
وأخذتها من يده ملوحة بها في وجهه: إنها قطعة من كفن يا محمود...
فور سماعه لكلامها أخذ القطعة منها وألقى بكل شيء بعيدا ثم سحبها من ذراعها إلى الشقة. بدى شاحب الملامح وهو يراقب المكان متوجسا قبل أن يقفل الباب خلفه بإحكام. فيما كانت هي تجاهد نفسها حتى لا تسقط دموعها في يوم يجب أن تفرح فيه.
بدى مضطربا وهو يقترب منها ثم أمسك بذراعيها بكلتا كفيه وبلهجة صارمة ردد على مسامعها: ستخبريني من هو الخسيس الذي يسعى للتخلص منك... والآن !
تأملته بذعر، لم تعهد منه هذه المعاملة فحررت ذراعيها منه بالقوة وهي تصيح في وجهه: إنهم أهلي... أنا لم أكذب عليك في شيء أنت من أصر على ألا يسمع أي شيء عن الماضي...
عرف سريعا أنها فسرت قلقه عليها بأنه تسلط وحب سيطرة. زفر بقلة حيلة وهو يدور في المكان دون أن يحدثها خشية أن تتأزم الأمور بينهما أكثر، فحتى هو بالكاد يسيطر على أعصابه عندما يغضب...
توقف أخيرا بعيدا عنها وبقي يتأملها بعيون متفحصة، يراقب كل خلجاتها في محاولات يائسة لكبت آلامها ومدارات جراحها بعيدا عن عيونه، توقع أنها ستنهار باكية لكنه تفاجأ أن حصونها أقوى من أن يدكها أحد... أي كبرياء هذا !
أشفق عليها أخيرا وهو يعرف أنها تتحمل الكثير من أجل ألا تنهار... من أجل ألا تبكي أسرة أهدتها الموت في أجمل أيام حياتها... وهددتها بإلباسها الأبيضين في يوم واحد...
لم يكن هو يفهم السبب وراء ذلك، لكنه أقسى من أن تتحمله وحيدة، وهو أكبر من أن يتركها تواجه آلامها منفردة.
اقترب منها وفتح لها ذراعيه. تأملته وهو يقدم لها وطنا... يقدم لها ملجأ دافئًا يحتضن آلامها... ارتمت في حضنه لحظتها وسمحت لسيول قهرها أن تفيض... بكت على صدره بحرقة وربت هو على ظهرها بحنو بالغ... يؤلمه، بل يقتله أن يشاهدها تذرف دموع الأسى قبل أن يهديها أشواقه وحنينه... أن تكون أول لحظة في حياتهما دمعة ووجع...
شعرت أنها استنزفت كل طاقتها وأنها ذرفت من الدمع أكثر مما بكته في كل أيامها الماضية. ربما وجوده في حياتها هو ما جعلها تكون أنثى ضعيفة من جديد دون الحاجة لأن تلبس دروعها وتقاوم حتى آخر لحظة.
أخذها تحت ذراعه وجلسا على الأريكة وما إن استرخى عليها حتى زفر باستغفار.. إنها أمسية لم يتوقع أحداثها، فرغم أن الطارق لم يكن خطيبته السابقة إلا أنه نجح في بتر فرحتهما بامتياز.
بدى صوتها مختنقا وهي تقول: آسفة...
شدد من احتضانها وهو يطبع قبلته على جبينها: ليست غلطتك حبيبتي...
كانت تشعر ساعتها أن أبواب ماضيها قد شرعت على مصراعيها فانطلقت أشباحه من عمق جحيمه تعذبها وتطاردها... تعلم جيدا أنها لن تتخلص من معاناتها ما لم تتم المواجهة بينهما، هي والماضي بكل أطيافه... لطالما عرفت أنها ستقف في مواجهة أهلها في يوم من الأيام، لكنها لم تعرف يوما متى ستتم هذه المواجهة. تراها حانت الآن؟
ربت عليها ليلفت انتباهها فرفعت رأسها إليه، عندها قال: أنا لم أصلي لا المغرب ولا العشاء...
ردت عليه: ولا أنا...
ابتسم بود أنساها آلامها وقال: هيا إذن...

أنثى بحروف شرقيةحيث تعيش القصص. اكتشف الآن