الفصل العاشر

175 9 0
                                    

دخل فادي المنزل غاضبا وفي يده ابنه ثم أقفل الباب بعقبه فجاءت أمه مسرعة ، وعندما لم تشاهد زوجته معه شحب لونها وقالت: هل رفضت الرجوع إلى المنزل؟
أجابها وهو يضع أنس بين ذراعيها: قالت أنها لن ترجع إلي...
ضمت الطفل إليها بحب: وكيف سمحت لك بأن تأخذ منها الطفل؟
أجابها بعد أن ألقى نظرة في الأرجاء ليتأكد من غياب ابيه عن المنزل: فرت من الجميع إلى غرفتها فحملت ابني وغادرت...
شهقت والدته: أخذته دون أن تعرف !
رد بصرامة: أنا والده فليكن هذا واضحا بالنسبة لها... ثم أنا لم أخطفه، لم يعترض أحد عندما خرجت وهو في ذراعي...
هزت رأسها بريبة ورددت بهمس: سهام لن تسكت... لن تترك ابنها هنا أنا أعرفها.
رد بتحذير: إن جاءت إياك أن تفتحي لها الباب... هي لن تأخذ الطفل مهما حصل...
ردت عليه بضيق: وإن أحضرت معها الشرطة !
تذمر ثم قال: أمي لن ترافقها الشرطة فالطفل معي أنا وأنا أكون والده... ليس أمامها إلا أن تطلب الطلاق ثم تطالب بالحضانة... وإن فعلت فسأرفع عليها قضية وأتهمها بالاهمال ومعي كل الإثباتات فالطفل نجا من الموت قبل أيام، وسأشكك في صحتها النفسية وأدحض كل اتهاماتها... ليس أمامها إلا الرجوع مكرهة أو لن ترى الطفل في حياتها...
أشارت له بالسكوت عندما خرج سليم من الغرفة وهو يسير على مهل دون أن يتمكن من سماعهما.
نظر إليهما وإلى الطفل ثم قال: و... أين أمه...
أجابته هناء قبل أن يقول فادي أي شيء: مريضة... هي مريضة فقرر فادي إحضاره حتى لا يتعبها...
هز سليم رأسه ثم تابع طريقه وهو يقول: يا بني يا فادي زوجتك امرأة طيبة فلا تضيعها من بين يديك لسبب تافه...

************

دخلا معا مطعما راقيا وسحب لها كرسيا لتجلس قرب الشرفة المطلة على المدينة المتلألئة بالأنوار في ظلمة الليل. ابتسم ثم قال لها: ما رأيك في المكان حبيبتي؟
أجابته وعيونها ما تزال متعلقة بتلك الأضواء البعيدة: إنه مكان رائع محمود...
جلس هو الآخر، وعلى عكسها كانت عيونه متعلقة بها هي... يتأمل تفاصيل وجهها الرقيقة مع تلك الدهشة الواضحة في معالمها. يبدو أنها ممتنة له على تدليله لها بهذه الطريقة رغم أنه لم يكلف نفسه الكثير من أجلها، مروى ما كانت لترضى عنه لو لم يهدها بيتا فخما أو طاقما فريدا من نوعه من المجوهرات تباهي به صديقاتها وكأن ذلك هو الدليل الدامغ على حبه لها وتميزها بالنسبة إليه...
مؤخرا فقط اكتشف أن الحب لا يحتاج لأن يكون معقدا ومكلفا بتلك الطريقة، بل حتى أنه لا يحتاج إلى دليل وشهود... هو فقط دقات قلب ملتاعة تطير شوقا وحنينا للمحبوب حتى وإن كان قرب عيونه...
هذا هو بالضبط شعوره تجاهها وهي تجلس قبالته تبحر في المدى البعيد وكأن بريق الأضواء قد أبهرها... تراها كيف ستكون دهشتها لو أنه أهداها واحدة من تلك المجوهرات البراقة التي كان يغرق بها مروى !..
لا، لايريدها أن تكون عاشقة تميز مثلها... هو أحبها بسيطة كما هي ولا يريد لها أن تصاب بعدوى الماديات التي تغرق بها أسرته ككل...
نظرت إليه وهو ساهم فيها فوضعت كفها على أصابعه وشدت عليها ثم نطقت: محمود، سأصاب بالغرور... هل يترك أحدهم منظرا كهذا ويسهم فيا أنا؟
شاهدت ابتسامته تتوسع وهو على نفس الهيئة لم يحد بنظراته عنها، ثم قال: نسرين... أنا لا أرى سواك هنا...
شعرت بالسعادة تغمرها وهي تستمع لكلماته الرقيقة وتمنت لو أنه لا يسكت أبدا، لكن جانبها الحذر كان يخبرها أنه متملق يسعد برؤية السذاجة تكسو معالمها. أرادت حقا أن تتغلب على هذا الشعور المنغص لكن دون جدوى فقد تعودت دائما ألا تنال السعادة دون أن تدفع الثمن... فهل يا ترى ستتقبل ببساطة هذا الكم الهائل من المشاعر التي صبها عليها محمود دفعة واحدة !..
يبدو أنها لعنة الأيام الماضية لازالت تطاردها وشعورها الدائم بأنها منبوذة هو من يجعلها محاصرة في أوهامها لا تستطيع المضي قدما دون قيود... وربما عشرتها الطويلة مع ياقوتة وما كانت تقوله عن الرجال هو ما يجعلها لا تستطيع تصديق محمود مغمضة العينين فهي دائمة الاحتراز... وكأنها تعطيه ثلاثة أرباع قلبها وتحتفظ بالربع الباقي لها، فإن ضاعت الأرباع الثلاثة في يوم من الأيام بقي لها على الأقل ربع واحد تواصل به حياتها... تماما مثل أغنية نجوى كرم...
قال لها بعد صمت: أعتقد أننا سنسافر قريبا...
ارتفع حاجباها بدهشة: شهر عسل آخر !
ضحك وهو يجيبها: كل حياتي معك ستكون عسلا... لكنني أعتقد أننا سنعيش بمكان ما غير هذا الوطن...
بدى عليها البؤس: نغترب !
رد بقلة حيلة: قريبا سيجهز جواز سفرك... يجب أن نترك البلد في القريب العاجل...
حاولت أن تفهم سبب استعجاله بالموضوع وخمنت أنه بسبب تهديدات أسرتها لها، وقبل أن تقول أي شيء جاء النادل وهو يحمل قائمة الطعام ورحب بهما معا ثم انصرف.
وبعد انصرافه قال لها محمود: أعدك أنك لن تكوني بحاجة لأحد وأنت معي... صدقيني سأكون لك كل أهلك هناك... وستتعودين على المكان بمرور الوقت...
أومأت بنعم وهي غير مقتنعة تمامًا بالفكرة، ثم ساد الصمت التام بينهما، كان خلاله محمود يقرأ قائمة الطعام. حاولت أن تسأله عن أهله وعن حياته السابقة لكنها لم تستطع ذلك خشية أن يفهم فضولها على أنه استجواب، وأن تفسد عليهما هذه الجلسة خصوصا وهو قد تزوجها دون أن يبحث في ماضيها عن شيء...
قالت له بصوت رقيق يبدو عليه الاضطراب: هل أنت سعيد معي حقا محمود؟
هنا رفع رأسه إليها فبدأت دقات قلبها تتسارع ثم وضع قائمة الطعام جانبا وأخذ بيديها وقال بابتسامة واسعة: لم أكن أسعد قبل أن عرفتك...
وصمت قليلا ثم تابع: ثقي بي نسرين مهما حصل...
لم تفهم أنه يحضرها للأيام القادمة، ولم تكن تشك أبدا أن حياته معقدة بشكل كبير كل ما كانت تحسه في تلك اللحظة هو ألوف من طيور الحب ترفرف حولها وتهديها بتلات الورود...

أنثى بحروف شرقيةحيث تعيش القصص. اكتشف الآن