تأملها بود وأنفاسه تتسارع. صوتها العذب الخافت يبعث في نفسه قشعريرة غريبة. قرب رأسه منها وكأنه سيسر لها بشيء من الحمل الذي أثقل كاهله... كان سينطقها وينتهي من كل آلامه شعر برغبة عارمة في أن يبوح لها بما يختلج في صدره وينتهي من هذا الجنون الذي بدأ يعتريه إن لم يكن بقبول واضح منها فربما سيفيق منه على صفعة مدوية تطبع فيها أناملها الناعمة على وجنته.
لا يهم... المهم أنه سينام الليلة خالي الوفاض هانئ البال.
كانت هي تراقب بريق عيونه وهو يقترب منها على مهل حتى أصبح قبالتها. شهقت شهقة واحدة وشحبت بعدها وهي ترى وجهه يملأ الفراغ أمامها. ازدردت ريقها وهي ترقبه بذهول. حتى نطق أخيرا وعيونه متعلقة بها: تصبحين على خير...
تراجعت بخطوة إلى الوراء ولم يخفى عليه الارتباك الذي تسبب به لها فقد ارتجفت كل أطرافها رغم محاولاتها اليائسة في كبح التوتر الذي أصابها.
هل " تصبحين على خير" خاصته تحتاج لكل تلك الحميمية؟ لم تفهم حقيقة ما يجري لكنها وكالعادة أسرعت الخطوات باتجاه باب شقتها وهي ترد عليه بنبرة جهدت لتجعلها متماسكة وعملية: وأنت من أهله سيد محمود.
بعد أن توارت عن أنظاره وأغلقت البابين معا شد هو على شعره ثم مسح على رأسه بخيبة... لم يستطع أن ينطقها.. خاف من ردة فعلها. ستحطمه إن قابلت مشاعره تلك بالرفض... ستحطم كل آماله وهو في غنى عن مصائب جديدة، لذلك قرر التريث وأخذ الأمور بروية لن يستعجلها في مبادلته نفس المشاعر سيأخذها على مهل ولن يصارحها بشيء حتى يتأكد من أنها لن ترفضه.
عندما انتهت من إقفال الباب الداخلية سمحت لنفسها بأن تتهاوى على أقرب أريكة وأرخت رأسها عليها مغمضة العيون وهي تسحب الهواء لرئتيها بتأن كبير....
زفرت أخيرا وهي تشعر بالوهن. ما باله محمود قبل قليل؟ مالذي كان يعتزم القيام به قبل أن يغير من رأيه في آخر لحظة. تتذكر لفحات أنفاسه القريبة... تنتابها القشعريرة كلما فكرت أنه كان على مقربة شديدة منها لأول مرة في حياته. فهو حتى يوم إصابتها لم يقترب منها بذلك الشكل المريب.
رطبت شفاهها التي تيبست من فرط الصدمة وأنفاسها لا تزال مضطربة. هل تجاهل مقابلتهما الأخيرة في بيتها وتحذيراتها له بالتدخل في شؤون حياتها؟... كانت تتوقعه مستاءًا منها وسيرفض حتى التحدث إليها...
مدت يدها لوجهها تتلمس وجنتيها الملتهبتين، ليست الحمى هذا مؤكد ! ضمت ذراعاها من حولها ورفعت قدميها على الأريكة محتضنة نفسها مع ابتسامة بالكاد شقت شفتيها...
ما أروعه محمود، رجل لم تتوقع أن تقع في شراكه بهذه السهولة... تعلم جيدا أنه يعني لها الكثير مهما ادعت غير ذلك... لكن أكثر ما يخيفها فيه هو جهلها التام به... من أين جاء؟ وكيف عاش حياته؟ من هم أهله؟ وهل هو رجل صالح مثلما يتمناه قلبها؟
هزت كتفيها في لا مبالات... محمود رجل أكثر من رائع وجميع أهل العمارة يشهدون له بهذا... يحترم كبارهم، يلاعب صغارهم، ويساعد محتاجهم... مالذي قد يعيب رجلا مثله؟
تذكرت اهتمامه بها وعطفه عليها... إنه درع الأمان الذي طالما بحثت عنه في دنيا الذئاب... درع الأمان الذي عبثا بحثت عنه... لتجده اليوم هنا بقربها على كبر...
همست لنفسها وعيونها ساهمة ترسم نظرة حسرة: مالذي سيقدمه لك الآن وأنت في الخامسة والثلاثين؟... كنتِ أحوج إليه وأنت أصغر، لكنك لم تجدي يوما رجلا يشبهه... غريبة هي الحياة !...
عادت بها ذكرياتها لذلك الصباح المشمس، يوم دخلت منزل بعض أقارب ياقوتة. بعد رحلة شاقة من البلدة إلى العاصمة على متن القطار.
كان خاويا يملؤه الغبار. يومها باشرت السعال فور أن بدأت ياقوتة بنزع الملاآت عن آثاثه وترتيب المكان.
تساعدتا معا في تنظيفه وتلميعه ثم قصدتا السوق لشراء بعض اللوازم والطعام. وبعدها جلستا للغداء في أحد المطاعم البسيطة بالمنطقة.
كانت نسرين تتفحص بعيونها المكان وتتبع حركة المرور الكثيفة والأبنية الشاهقة والمحلات... بدت لها حياة غريبة لم تعرفها من قبل بعيدا عن سكون بلدتهم وهدوئها المعتاد.
يومها نظرت إليها جليستها بحنو وقالت: اليوم سنبدأ معا حياة جديدة...
أجل، كانت حياة جديدة تلك التي بدأتها نسرين بعيدا عن كل أسرتها القامعة. أول شيء قامتا به معا هو البحث عن عمل. تمكنت نسرين من إيجاد وظيفة في أحد المطاعم القريبة من الحي أين كانت تتوجه كل صباح لتنظيف الأطباق ولا تعود إلا في المساء منهكة حد الوجع، لكنها كانت سعيدة بكسب رزقها والاعتماد على نفسها... رغم أنها كانت مجرد وظيفة عابرة بلا تعاقد ودون أية شروط بحيث يمكن لصاحب المحل طردها في أي لحظة وبدون تعويض... كانت يومها قاصر والقانون لا يسمح بتشغيل الأطفال القصر، لكنها في أمس الحاجة للمال والواقع يفرض عليها هذه التنازلات...
على عكسها كانت ياقوتة تجني الكثير... لم تكن تعرف حقيقة عملها لكنها لاحظت غيابها المتواصل عن المنزل خصوصا بالليل، حيث كانت توصيها بإيصاد الأبواب والنوافذ وألا تفتح لأحد مهما كان، تركت لها رقم هاتف لتتصل بها إذا حصل أي مشكل وكانت تكتفي بتوديعها بحب وتنصرف.
لم تتجرأ نسرين يوما عن سؤالها إلى أين تذهب... لم تكن في حاجة لتسأل فقد كانت تشاهد شكل ثيابها المبالغ فيها بطريقة مبتذلة، كما أنها استرقت النظر إليها بعد مغادرتها المنزل من شقوق النافذة بضع مرات واستطاعت أن تشاهد السيارات الفارهة التي كانت تقف بعيدا عن المنزل كي تقلها... أي دليل تحتاجه بعد لتفهم ما يدور حولها... تأكدت حينها من صحة الشائعات التي كانت تدور حول سمعتها وأخلاقها بالبلدة وعرفت أنها لم تأت من العدم...
ما كان يبعث الطمأنينة حقا في أعماقها هو عدم تعاطي ياقوتة في هذه المواضيع معها... لم تصرح لها يوما بحقيقة عملها ولم تقص عليها من أخباره شيئا... وكأنها كانت تستر عنها الأمر رغم علمها المسبق بذكاء نسرين وفطنتها. بل أكثر من ذلك، ياقوتة حرصت على إيجاد مدرسة إعدادية تزاول فيها نسرين دراستها رغم سنها المتقدمة عن باقي زملائها وكانت تشجعها على رسم خط واضح لها في الحياة، دائما ما كانت تقول لها: أنت في مواجهة مبكرة مع الحياة فإما أن تكوني أو لا تكوني... أنت في مواجهة بلا سلاح... وإن كنت تريدين الصمود فتسلحي بالعلم حتى تبقي في الطليعة...
وكثيرا ما كان صوتها يختنق بغصة عند ترديدها لهذه الكلمات... وكأنها نصيحة لنفسها في وقت متأخر جدا...
*******
جاء الصباح، استيقظت مبكرا اليوم وجلست في المطبخ تشرب قهوتها وهي تتفرج على أشعة الشمس التي تخللت ستائر النافذة بقربها. كانت متفائلة جدا... فكرت مطولا ليلة أمس وقررت إعطاء الضوء الأخضر لمحمود... ستطرق عليه الباب قبل أن يغادر. ستعتذر إليه عن تصرفها الأحمق بلباقة وتصالحه... ربما سيكون لتصرفها هذا ردة فعل واضحة من قبله... إن كان يرغب بها حقا عليه أن يكون واضحا ويلتزم بالقوانين والخطوط المتعارف عليها في مثل هذه الأمور وإلا فستضطر لشطبه من كل حياتها لأنه وببساطة لا ينقصها رجل متلاعب يقلب عليها حياتها رأسا على عقب...
ارتشفت آخر القطرات من كوبها ونظرت إلى ساعة الحائط... مضت عشرون دقيقة حتى الآن منذ أن سمعت صوت جلبة في شقته... وإن كان ذلك موعد استيقاظه فمؤكد سيخرج بعد دقائق...
فتحت باب شقتها وقبل أن تضع قدمها خارجا تحرك مقبض الباب القريبة فأحست بقلبها يهبط بين ضلوعها ، لقد سبقها ولم يمنحها حتى فرصة لالتقاط أنفاسها والعد حتى الثلاثة قبل أن ترن عليه الجرس... ستلتقيه الآن على هذا القرب وسيتغلغل عطره المميز إلى داخلها رغما عنها، ستشعر بلفحة الهواء التي تثير كل حواسها عندما يمر بخطواته المتسارعة، ولن يكون في وسعها فعل شيء لتلك المشاعر الغبية التي تنتابها وتشعر بالضيق منها، إذ أنها اكتشفت أنها خارجة عن سيطرتها تماما... هي التي ضبطت حياتها بشكل متسلسل ومدروس جعلها تقاوم وتحافظ على الصدارة خلال كل تلك السنوات.
بعد برهة خرجت نفس الفتاة الشقراء التي شاهدتها عند باب شقته من قبل وهي تحدثه بهمس لم يصل مسامعها، إلا أنه أثار الريبة داخلها. ثم ختمت تلك الكلمات بابتسامة دلال جعلتها تشعر بانقباض في معدتها، وقبل أن تغادر اقتربت منه وقبلته... لم تكن تعرف أين حطت بشفاهها، على خده أم على شفاهه. فقد كان متواريا داخل الرواق بحيث لا هو رآها ولا هي ميزته... لكنها شعرت بماء بارد ينسكب عليها حتى أنها ارتجفت وهي على وقفتها تلك، لم تصدق عينيها وحاولت أن تعلل ما شاهدته على أن المرأة تحدث مجهولا وقد لا يكون محمود هو الواقف إليها.
بعد ابتعادها بخطوات في ملابسها الغالية وقبل أن تمر بجوارها لم تنس أن تمنحها ابتسامة مودة لم ترد عليها نسرين بسبب تجمد كل عضلاتها من هول ما شاهدته.
أطل محمود خلفها وكأنه أبى إلا أن يشيعها بعينيه وهي تختفي نزولا على تلك الدرجات، ونسرين تحدق فيه بتيه... وكأنه تعمد أن يكسر كل تلك الأكاذيب التي اخترعتها لتخدع عقلها وتوهم نفسها...أطل عليها ببساطة كصفعة مدوية تحطها أمام الأمر الواقع...
محمود لديه حبيبة !!!
نظر إليها بدهشة عندما لاحظ وجودها على الباب. خرجت بتوقيت خاطئ وستفسر الأمور بطريقة سيئة... إنه متهم، عرف هذا من لمعة عيونها... ونظرة العتاب ما بين أهدابها.
ازدرد ريقه بتيه... الموضوع متشعب وسيطول شرحه... من أين يبدأ يا ترى؟ "عليك اللعنة يا مروى !" هذا ماستطاع ترديده من بين أسنانه وهو يحاول إيجاد كلمة واحدة يخمد بها تلك النيران التي أطلت من عيون نسرين... فقط لو كانت تعرف بماضيه وتفاصيله المعقدة، لكان ما شاهدته الآن أمرا هينا يسهل شرحه... لكن الآن الله وحده يعلم أي أفكار تتلاعب بعقلها...
استجمع قواه وابتسم في وجهها كعادته حتى لا يفضحه اضطرابه أكثر: كيف أصبحت؟
ابتسامته الخائنة أربكتها، فتجمعت الدموع بعينيها في لحظة عجز لم تعرف مثلها في حياتها... لم ترد عليه بكلمة وأسرعت في دخول الشقة وإقفال الباب خلفها...
أسندت ظهرها عليه وهي تضع كفها على شفاهها لتكتم شهقات كانت تحس بها لظى على فوهة بركان...
في أي مأزق وقعت يالله !... كانت في عمى تام عن حجم تلك الأحاسيس التي يراكمها قلبها في صمت... لم تستطع أن تتماسك وتهاوت أرضا وعقلها يرسم لها خيالات لحبيبين عاشقين أمضيا وقتا مسليا بالداخل، في الوقت الذي كانت هي تبذل فيه جهدها لإعطاء الضوء الأخضر له حتى يحدد ما يريده منها بالضبط...
لم تفهم لماذا كانت تشعر أنه مهتم بها... هي كأنثى فطنة وحادة الذكاء لم تخف عنها تلك الرغبة التي كانت تطل من نظراته مع كل خطوة يقترب فيها منها... هل كانت غبية؟ أم أن ما عاشته في سنواتها القاحلة جعلها تخطئ تفسير الأمور؟.. هل سيترك فتاة بتلك الجاذبية الساحرة والإغراء ويهيم حبا بها هي التي لم يكن لها وجود في حياته قبل شهور؟
شعرت بنيران تلتهب داخلها... إنها الغيرة تتآكلها وتدق عظامها في وقت أبكر بكثير مما كانت تتوقعه... سمعت طرقاته على الباب وهو يقول: نسرين... نسرين أنت بخير؟
ترديده لاسمها بصوته القلق في اهتمام صادق جعلها تكره نفسها أكثر، لربما كان اهتمامه بالآخرين صفة مميزة له لا يخص بها شخصا معينا وهي التي قادتها أفكارها للسير على هذا المنحى المخالف ! حاولت استجماع قواها ولملمت بقايا كرامتها وهي تأبى أن تكون فاشلة من الطراز الأول. حاولت أن تستحضر صلابتها المعهودة وهمست له من خلف الباب: أنا بخير... أشعر بدوار وأريد أن أنام.
لم يغفل تلك الرجفة في صوتها والتي خانتها في كلمتها الأخيرة، فرد عليها بقلق: افتحي الباب... من فضلك..
بالنسبة إليها الموت متكومة هناك عند الباب أهون عليها من أن تفتح له ليشاهد انكسارها... أهون بكثير من أن يحس بلوعة قلبها عليه...
مسحت دموعها بأكمام ثوبها بعنف وحاولت الوقوف وهي تضع يدها على موضع جرحها... لم تنتبه لنزيفه ولم تشعر أن الدماء غطت أصابعها... مسحت وجنتيها وفتحت النافذة الصغيرة بالباب الحديدي وبفرط كبر نظرت إليه وكأنها ليست الكسيرة التي كانت عليها قبل قليل: سيد محمود... أنا بخير، يمكنك الانصراف...
بقي مشدوها إليها للحظات يعاين ملامحها فيما تفاجأت هي من تحديقته تلك. ليسألها بريبة: ما به وجهك؟
لم تفهم قصده، فنظرت إلى مقبض الباب اللماع لتظهر لها آثار دماء على وجهها... تأملت أصابعها المرتعشة من فرط ارتباكها وكانت مطلية بالدماء. قال لها بقلق: أنت تنزفين مجددا يا نسرين؟
أصبح اهتمامه بها أمرا يفقدها أعصابها... أصبحت الآن تشعر بأنه مخادع لعوب، فصاحت به بفرط غيض والعبرة تخنقها: ما يصيبني يخصني وحدي... حذرتك ألا تقتحم حياتي... غادر وحسب...
وأغلقت تلك النافذة الوحيدة بينهما بشدة فأقفلت معها في وجهه كل المنافذ للتواصل معها. طرق على الباب بقوة أكثر من مرة وهو يطلب منها أن تفتح له، لكنها سارت مبتعدة تذرف دموع قهرها واختبأت بغرفتها أين استلقت على سريرها ووضعت وسادة على رأسها تسد بها أذنيها حتى لا تسمع صوته الذي لم يكف عن مناداتها باسمها وهو يلح عليها في أن تفتح الباب وقد ازداد قلقه عليها بعد أن شاهد تلك الدماء تغطي ملامح وجهها...
أغمضت جفنيها بتعب، وكأنها تريد الدخول في غيبوبة لتنساه... كانت تشعر برغبة ملحة في النوم... تريد أن تدخل عالما آخر تنسى فيه واقعها المر للحظات...
أنت تقرأ
أنثى بحروف شرقية
Romanceلمحبي القصص الرومانسية😍😍 بلمسة واقعية أقدم لكم رواية : انثى بحروف شرقية الرواية تحكي عن معاناة المرأة في مجتمع قاسي يمارس سياسة الكيل بمكيالين فيحاسب المرأة على كل كبيرة وصغيرة بينما يترك للرجل حرية ارتكاب الأخطاء. في مجتمع عربي وبواقعية نعيش قصص...