7

322 21 0
                                    

وفي المساء اتجه جمال للمشرحة كي يبيت فيها .. كان هذا من أيام الأسبوع الممتعة له .. اليوم لن يكون مضطراً لأن يمكث طوال الليل بجوار جمالات زوجته ..

ويا لها من ليلة سعيدة إذا تستحق الإحتفال بها!

كان أحمقاً غبياً حين تزوجها، هكذا إعتاد أن يتحدث عن نفسه .. وهاهو يدفع في كل يوم ثمن حماقته تلك طوال ثمانية أعوام؛ هي عمر زواجه بها .. قبل زواجه سمع الكثير عن الزواج ومتاعبه ومشاكله، وتبارى رفاقه الذين صارت المقهى ملجأهم الدائم بعد العمل. هرباً من الزوجة والعيال في قص الحكايات والأهوال التي لاقوها في زواجهم .. كانوا يتحدثون إليه عن الحجيم الذي بانتظارهم دوماً بالبيت، لكنه لم يصدقهم حينها أبداً ، ليس لأنه أريب .. لكن لأنه حمار، وبإذنين طويلتين .. فهكذا كان يرى نفسه.

كان يرى أنهم يبالغون في قصصهم هذه حتماً .. وكان يعجب من قولهم أن الزواج لاتستمر حلاوته أكثر من شهرين أو ثلاثة أشهر على الأكثر ، إلى أن تبدأ بطن الزوجة في الاستدارة، معلنة عمن ينمو بداخلها .. حينها تنتهي حلاوته ولذته، لتبدأ متاعبه ومعاناته ..

فهناك الحمل، وما أدراك كيف تتعامل النساء معه كأعجوبة تستحق الكثير من الاهتمام والرعاية من الزوج .. ستبدأ زيارات لاتنتهي للأطباء، حيث تضطر فيها لانتظار دورك أحياناً لساعات طويلة .. وهناك أتعاب الطبيب، والوصفة الطبيبة التي تلتهم في كل مرة جزءاً لابأس به من راتبك .. عليك أيها الرجل الصغير أن تحتمل كل هذا صابراً آملاً ، أن ينتهي كل هذا الهراء بعد الولادة ..

كانوا يبالغون بلاشك ويهزلون .. هكذا كان يحدث نفسه، ومازالوا يحدثونه عن متاعبهم بعد ولادة الأطفال .. كانوا يقولون له بعد أن تسبح عقولهم في كون آخر، بفعل الحشيش والدخان والبيرة أحياناً ..

-ستدرك يا جمال كم كنت مغفلاً حين ظننت أن الولادة ستكون هى النهاية .. فبعد الولادة صار عليك أن تتوارى .. فقد جاء من سيصير جل اهتمام زوجتك للأبد .. وستتحول أنت بعدها لأبي العيال، وهذا ليس تشريفاً لو كنت حصيفاً .. بل يعني أن تعمل وتعمل كالحمار بلاتوقف؛ كي توفر لهم مايحتاجونه .. ومايحتاجونه لاينتهي أبداً .

عليك أن تتنازل عن رفاهيات كثيرة اعتدت عليها؛ لأن البيت صار أولى بكل قرش في جيبك .. ولا تنتظر في المقابل أن توليك زوجتك اهتماماً خاصاً ؛ تقديراً لما تقدمه، وماتنازلت عنه .. فالإسطوانة موجودة تجيد أبجدياتها كل النساء .. ستنكد عليك حياتك، وستندب حظها لزواجها ممن لايرحم .. ستصرخ دوما في وجهك: (إنت عليّ والعيال) .. طبعاً مع الوقت ستتعود على كل هذا، وستتعلم الهروب .. ولن تعدم حينها مقهى ما، تجلس فيها كغيرك هرباً من هذا الجحيم ..

صورة قاتمة بها الكثير من السوداوية .. هكذا كان جمال يفكر قبل أن يتزوج في ما يسمعه ممن سبقوه بالزواج .. لم يذكر أحدهم أبدا الزوجة التي تجيد الطهي ..

الطعام !!.. العشق الأول والأخير لقلبه! ..

فقط أريدها تجيد الطهي .. وحينها ستكون الحياة مبهجة بحق ..

وحين خطب جمالات كان الكثيرون يتحدثون عن براعتها في الطهي .. كانت أكذوبة استطاعت أمها نشرها في محيطها لإقناع أحد المغفلين، بأن يدق باب بيتها لخطبة ابنتها جمالات .. وكان جمال ذلك المغفل كما يحلو له أن يقول عن نفسه .. بالطبع وبعد الزواج اكتشف أن أطنان الطعام الشهي، التي التهمها أثناء الخطوبة ؛والتي زعمت حماته أن جمالات هي من قامت بإعدادها، كانت حماته هي التي تطهوه في الواقع..

إكتشف أن جمالات لاتجيد الطهي على الإطلاق، ولانفس لها في الطعام .. والأكثر إبهاجاً أنها كانت من هواة النكد طوال الوقت، وكانت كذلك سليطة اللسان، ولاتتورع عن سبه أمام الجميع .. كانت زوجة تفوح بالبهجة بحق !..ويالها من بهجة !..

وكان من الممكن أن يطلقها لولا الأولاد .. فقد كانت كالعادة قد أجادت اللعبة الأزلية لجميع السيدات، فقيدته بها بأن أنجبت منه أربعة أطفال في أربعة أعوام متتالية .. هكذا صار الانفصال عنها مستحيلاً ، وتحول أضحى المقعد الذي اتخذه في أحد زوايا المقهى بأول الشارع الذي يقطن فيه، حلاً لا بأس به للهروب منها، ومن سلاطة لسانها ..

كان يظل بالمقهى كل يوم حتى بعد منتصف الليل، إلى أن يطمئن أنها قد نامت، فيعود الى البيت، ليرقد بجوارها في صمت؛ سائلاً الله ألا يوقظها شيء .. ويظل يرقب شخيرها وتنفسها الثقيل مفكراً إن كان عليه أن يضع على وجها وسادة ما، ويجلس فوقها ليرتاح منها .. كانت أفكاراً ، لكنها ممتعة .. وتمنى لو كان أقل جبناً ليتمكن من تنفذيها.

لهذا كانت الأيام التي يبيت فيها بالمشرحة من الأيام التي يحبها .. إنها بضع ساعات من الليل، لايفعل فيها غير النوم والأكل، ليتسلم في المقابل أجراً لابأس به آخر الشهر .. كان هذا مريحاً.

وكان يعد نفسه لهذا اليوم .. يحضر معه الكثير من الطعام، وكذلك الراديو الصغير الذي يجلبه من البيت ليؤنسه .. ولابأس أحياناً بقرش حشيش أو زجاجة من البيرة .. أشياء لن يعلم بها أحد، لأنه يخفي آثارها في الصباح قبل أن يأتي الجميع،لكنها تؤنس وحدته ..

في هذه الليلة تناول عشاءه، وأعد بعدها كوباً من الشاي، ولف سيجارة محشوة بالحشيش، ثم خرج بعدها الى الباحة الخلفية للمشرحة حيث الحديقة الصغيرة .. وحرص قبل خروجه على رفع صوت المذياع حتى يصل إلى مسامعه .. جلس على الكرسي الخشبي ، وراح يرشف الشاي، والسيجارة معاً باستمتاع، وهو يتأمل السماء المظلمة من فوقه بنجومها اللامعة، شاعراً برضا شديد عن نفسه ..

وتعالى صوت أم كلثوم في المذياع :

"ياحبيبى ..الليل وسماه ونجومه وقمر..قمره وسهره ..وأنت وأنا ..ياحبيبى أنا ..ياحياتى أنا ..كلنا في الحب سوا ..والهوا ..آه منه الهوا ..سهران الهوا ..يسقينا الهنا"

شعر بانتشاء يدغدغ مشاعره؛ كأنما تغني الست الآن من أجله هو ، وصاح بجذل :

-الله .. الله عليك ياست ..

الحياة أحيانا تكون جميلة بحق .. من قال غير هذا ؟! .. هكذا فكر.

وحانت منه بعد حين التفاتة نحو باب المشرحة، فرأى أن هناك من يقف خلفه متوارياً خلف الزجاج الملون ..

ظل بشري واضح من خلف الباب الزجاجي !..

تدلى فكه الأسفل في بلاهة، واختلج قلبه .. أغمض عينيه للحظة ، ودعكهما بشدة، ولما فتحهما اختفى ذلك الظل الغريب .. ومرت دقائق ثقيلة من الترقب قبل أن يسكن اضطرابه، وراح يفكر .. إنه تأثير الحشيش الذي شربه الآن .. لاشك في هذا .. إنه الحشيش بلاريب !..

وأخذ يختلس النظرات إلى الباب بشك من حين لآخر، لكنه لم يلحظ أي شيء غير طبيعي .. وبعد قليل تناسى الأمر باعتباره أوهام اختلقها عقله بتأثير الحشيش .. ومرة أخرى تعالى صوته مردداً خلف أم كلثوم:

"ياحبيبى .. يلا نعيش في عيون الليل .. ونقول للشمس .. تعالى تعالى .. بعد سنة .. مش قبل سنة .. دى ليلة حب حلوة .. بألف ليلة وليلة.."

هنا شعر بالحاجة لقضاء الحاجة، فقام بتثاقل متجهاً للحمام.

وحين دخل المشرحة لاحظ أن قاعة التشريح صارت مضاءة .. لا يذكر أنه دخل هناك، أو أنه أضاء مصابيحها .. لكنه طرح هذا جانباً ، ودلف إلى الحمام حيث قضى حاجته .. وعندما خرج اتجه إلى القاعة ليغلق النور .. لكنه قبل أن يفعل تطلع لحظة إلى الجثث الراقدة على مناضدها ..

كانت إحدى هذه الجثث دون غطاء .. واتجه إليها ببطء دون أن يعير الأمر اهتماماً .. ربما عمل أحد الأطباء عليها، ونسى تغطيتها .. وحين وصل إلى الجثة وجدها جثة الفتاة وهي ترمقه بعينين، متسعتين براقتين، ورأى بسمة ما ترتسم على شفتيها، بدت وكأن الحياة قد عادت لها، وإنها قد تصرخ في وجهه بعد قليل ..

اضطرب قلبه بشدة، وغامت الدنيا في عينيه ، وترنحت قدماه، حتى كاد أن يسقط، فأمسك بسرعة بقائم حديدي، بجواره كي لايقع ..

لايجب أن يفقد الوعي الآن .. هكذا حدّث نفسه .. يجب ان اخرج من هنا ..

وغادر المشرحة مترنحاً ، دون أن يلتفت إلى جثة الفتاة مرة أخرى، أو يغطيها .. وما إن وصل إلى حجرته حتى غير مؤشر الراديو الصغير إلى إذاعة القرآن الكريم، وتعالى صوت الشيخ المنشاوي بآيات كان يتلوها من سورة البقرة، وبعد حين هدأ روعه قليلاً ..

استلقى بعدها على الفراش، دون أن يفارقه اضطرابه، ودون أن تختفي من خياله عينا الفتاة البراقتين وبسمتها المخيفة .. إنها ميتة ولابد أنه يتوهم ما رآه .. وراح يحاول أن يقنع عقله بهذا.

دوما تشعره هذه الجثة منذ رآها أول مرة بالتوتر .. وكان يشعر بخوف مبهم حين ينظر إليها، أو يسير بجوارها .. لم يدرِ سر هذا، وإن لم يبح بهذا لأحد .. حاول أن يتشاغل بشيء آخر ، كي لا يفكر بالعينين اللتين كانتا تحدقان فيه بثبات، لكنه فشل ..

لكنه بعد حين شعر بخدر لذيذ يغزو عقله تدريجياً، و رويداً رويداً غلبه النعاس، فنام وتعالى شخيره صاخباً .

و في الثالثة صباحا وجد نفسه مستيقظاً منتبهاً، ونيران هائلة تستعر في أحشائه .. كان العرق الغزير يحتشد الأن على جسده، حتى كاد أن يغرقه، وكانت أنفاسه مضطربة لاهثة ..

وكان هناك من يطرق الباب !

كان أبلهاً بالتاكيد .. لأنه فعل أشيا ء كثيرة شديدة الحماقة في الواقع.

أولها - أنه نسي حذره .. فحين تكون بمفردك في المشرحة، وتعلم أنه لا أحد غيرك بها، ثم تسمع طرقات بعد منتصف الليل بباب حجرتك الداخلي، فعليك حينها أن تتوتر أو تفزع، أو حتى تتريث قبل أن تقدم على فعل أي شيء .. لكنه لم يفعل أي من تلك الخيارات ..

ثانيا - عندما تشم هذه الرائحة العطرية المثيرة، تفوح بشدة من خلال الباب، وتملأ فتحتي أنفك متسللة بيسر نحو عقلك لتخدره، فعليك أن تنتبه .. إن هذا عطر أنثوي مثير، لو كان يفهم في الروائح الأنثوية .. لكنه لم يكن يفهم فيها كثيراً ، فزوجته جمالات حين ترغب في التعطر من أجله، كانت تصب على جسدها الكيروسين أو الخل .. فمن أين له أن يميّز الفارق ..

ثالثا - وحين تسأل عن من يطرق الباب، دون أن يكون الجواب أكثر من همهمات الغامضة، وأصوات خافتة غير مفهومة، فعليك أن تكون أكثر حيطة وتعقلاً ، ولاتفتح الباب أبداً ، إلا بعد أن تطمئن وتعلم من الطارق ..  لكنه لم يفعل شيء مما سبق، وكان أرعناً، ففتح الباب بلاتفكير ..

وبالتأكيد لم يدرِ ماحدث له بعد ذلك .. وآخر ماشعر به كان العطر الأنثوي القوي .. وبعدها لا شيء ..

ألجثة ألخامسةحيث تعيش القصص. اكتشف الآن