17

247 24 1
                                    

اطمئن شريف إلى خلو المشرحة من حاتم وزينب، قبل أن يعود إليها ثانية ..كان يشعر حينها بضيق شديد ،وتمنى لو غادر المكان بأكمله ..لكنه لم يكن قد أنهى عمله بعد ،فلم يكن أمامه إلا أن يعود ثانية ..

اتجه إلى جثة الفتاة..كانت هي التالية بعد أن أنهى العمل بجثة رجل مشنوق..جمع حاجياته وأدواته من حول تلك الجثة التي أنهاها، واتجه إلى جثة الفتاة ..

سمع خطوات أقدام خلفه، فالتفت إلى صاحبها ..كان جمال عامل المشرحة أو البرميل المتحرك؛ كما يحب أن يدعوه بين زملائه ..قال له بشيء من الحزم والتعالي، كما اعتاد أن يعامل كل العمال:

-لماذا تقف خلفي هكذا ..هل تريد شيئاً ما ؟!

أجابه جمال بسرعة، وهو يمسح عن جبهته عرقاً احتشد عليها:

-إنها الثالثة والنصف يادكتور..

أخد شريف في ترتيب أدواته على المنضدة التي أمامه بجوار الجثة، وهو يقول ببرود:

-وهل يعني هذا أمراً ما مهما ؟

-إنه موعد انصرافنا ،ولم يبقَ إلا حضرتك ،وأنا هنا بالمشرحة.

-لتنتظر قليلاً ..إنها نصف ساعة فقط، وسأنتهي بعدها لنغادر سوياً.

رد عليه جمال بإحراج بعد سبّه في سره :

- إن أتوبيس الساعة الرابعة الذي يقل الموظفين من الكلية ، سوف يتحرك بعد قليل ،وأرغب في أن أستقله .فجئت لأستئذنك أن أنصرف لألحق به.

لم يجبه شريف على الفور ،كما اعتاد أن يفعل حين يطالبه أحد العمال أو الطلاب بشيء ما ...كان يعجبه دوماً أن يشعرهم أنه الرجل المهم صاحب القرارات ،حتى لو كان الأمر تافهاً ..كأن يأتيه أحد الطلاب مثلاً راغباً في تغيير مجموعته لمجموعة أخرى..حينها كان يتأخر في اتخاذ قراره ؛كي يوحي لمن أمامه أن مايطلبه منه أمر جلل يستحق التأمل والتفكير، قبل أن يقرر.

لذا قال بعد فترة جاوزت الدقائق الثلاث، متشاغلاً خلالها بتجهيز أدواته، وجمال يراقبه بضيق وتململ، ولايكف عن سبابه في أعماقه:

-حسناً يمكنك أن تنصرف ،وسأتولى أنا إغلاق الباب خلفي بعد أن أنتهي من هذه الجثة.

-ولكن الدكتور نعيم أمر ألا يمكث أحد بالمشرحة بمفرده أبداً.

-لا شأن لك بما أمر به الدكتور نعيم..اذهب الآن ولاتضيع وقتي.

قالها بصرامة فانصرف جمال محرجاً حانقاً عليه، متسائلاً في نفسه عن السبب الذي يجعل البشر يتعالون على بعضهم البعض ..إنها وضاعة الأصل، والغرور ..من المستحيل أن يتصرف بتلك الطريقة الخشنة أحد من أصل طيب ..هكذا كان يرى السبب ..

لكنه بعد ثوان كان قد نسي كل شيء ..فما كان يهمه حينها هو أن يلحق بأتوبيس الكلية، وأن يجد به مقعداً شاغراً ،كي لايضطر للوقوف فيه حتى يصل إلى بيته.

أما شريف فقد واصل عمله، كشف الغطاء البلاستيكي عن الجثة التي أمامه، فطالعه وجه الفتاة بملاحة لم يطمسها الموت، ولاحجبها الفورمالين ..جميلة للغاية و فاتنة صاحبة تلك الجثة..

تطلع إلى ملامحها الدقيقة وتنهد..كانت تمثل الجمال الذي يحلم بأن يقتنيه يوما ما حين يتزوج ..ويخشى دائماً ألا يظفر به لدمامته التي لاتخفى عليه ..

لكنه سرعان ما نفض تلك الأفكار التي راودته عن عقله، و امتدت يده إلى كفها الأيسر ليبدأ عمله، وبلا تردد مزق الجلد الداكن قليلاً بتأثير الفورمالين، كاشفاً عن أنسجته وأوردته بمهارة حقيقية.. اقترب من الوريد الأزرق الداكن ،وحاول أن يحدد مساره بعينيه، ثم أخذ يفصل طبقة الشحوم الخفيفة من حوله محاولاً أ لا يصيبه.

لكنه دون أن يشعر فوجئ بالمشرط الحاد الذى يعمل به يخترق الوريد فيمزقه .. كان خطأ معتاداً وكثيراً ما يحدث ، وإن لم يتمنَ أن يحدث معه ..

اخترق المشرط الوريد؛ فاندفعت منه على الفور الدماء الحمراء القانية .. دافئة ، سائلة ولزجة .. لوثت يده التي يعمل بها، وتسرب بعضها إلى الأرضية مكوناً بقعة من الدماء راحت تتسع ببطء ..تطلع إلى الوريد بذهول، وهو يغمغم متراجعاً بظهره للخلف:

-دماء طازجة..أي عبث هذا؟!...

كان من المستحيل أن تتواجد دماء طازجة في أي جثة بالمشرحة..فالدماء سريعاً ما تتجلط فور الوفاة ..هذا ماتعلمه ،ورآه دوما ..

فمن أين جاءت هذه الدماء الطازجة الدافئة التي تنساب بغزارة الآن؟..

حانت منه إلتفاتةٌ إلى وجه الجثة فارتعد..

كان وجهها حيئذ مُربَّداً وممتلأ بالغضب ..كانت ترمقه بعينين براقتين انقعدت حواجبهما المرسومة بدقة في غضب، و تقلصت العضلات حول فمها بصورة ذكرته بوجه أمه حين كانت تقسو عليه وتعاقبه.

دقات قلبه تحولت لطبول إفريقية تقرع صدره بلارقيب وضاقت أنفاسه فشعر بالإختناق..تراجع بظهره للخلف، وحاول أن ينهض من مقعده مبتعداً ، فخذلته قدميه فهوى مع المقعد أرضاً .. شعر حينها بألم حاد بذراعه الأيسر؛ حيث اخترقه المشرط الذي كان يحمله بيده الأخرى ..

لم يبالِ بإصابته، ولا بدمائه التي انهمرت بغزارة من ساعده ، وهو يحدق بعيون جاحظة مذعورة للجثة التي دبت فيها الحياة فجأة، لم تعد جثة الآن، وزال من جسدها كل أثر للموت .. نهضت من رقدتها وأخذت ترمقه بابتسامة ساخرة..لاحظ برعب أن ذلك اللون الداكن المميز للجثث المحنطة قد زال عن بشرتها الآن..

لاحظ صدرها العاري الذي اختفى عنه تغضنه ، فاستدار و صار مثيراً بصورة لاتقاوم ..

طالما حلم في يقظته من قبل بامرأة تمتلك صدراً مثله ..لكن مثل تلك الأفكار لم تراوده في هذه اللحظه ،لقد أذهب الهلع عقله، وذكرياته، وأحلام يقظته ..صرخ وهو يرتطم بمنضدة اعترضت طريقه، وهو يتراجع بظهره، فسقط أرضاً مرة أخرى ..

أراد أن يتلو آية الكرسي، فلم يتذكرها،كأنما تبخرت فجأة من عقله .. استمرت الفتاة في التقدم نحوه ،وأخذ يتراجع بظهره زاحفاً ، كأنما يخشى أن يوليها ظهره فتنقض عليه من الخلف ..حانت منه إلتفاتة إلى يدها التي قام يتشريحها منذ قليل فوجدها سليمة لا أثر لمبضعه فيها..

وفوجئ بها تقول بصوت رخيم، وهي تمد نحوه يدها كأنما تدعوه إليها:

-لا تخف أيها الصغير الجميل..اقترب مني ولاتخف..وأعدك ألا تشعر بشيء..

هذه المرة انطلقت صرخاته المكتومة، فاستدار ،واندفع نحو باب المشرحة ليجده مغلقاً ، إزداد رعبه ،وقد أيقن أنه قد صار حبيساً معها في المشرحة بمفردهما..فأخد يطرق الباب بجنون عسى أن يسمعه أحد ما بالخارج فيأتي لنجدته ..ومن خلفه وصله صوتها قريباً من أذنه كثيراً ،قائلاً :

-كلكم حمقى.. هكذا أنتم أيها البشر..أنتم حمقى بالفعل.

شعر بأنفاسها الحارة تصطدم برقبته من الخلف..انتشر في الفراغ عبق أنثوى مثير..استدار بيأس؛ ليجدها خلفه تماماً ، ويديها تمتدان نحوه..حاول أن يدفعها بعيداً عنه بيديه، لكن يديه خانتاه فلم تستجيبا له..أحاطت وجهه بأنامل رقيقة حانية ،وهي تقول بصوت مخيف،وابتسامتها المخيفة تتسع في وجهها كله:

-لقد صرت لي الآن ياصغير..توقف عن المقاومة ،ولاتخشى شيئاً..سينتهى الأمر سريعاً فلاتقلق.

هذه المرة قررت مراكز المخ العلوية، أن وقت الإغماء قد حان ..فهوى على الأرض مغشياً عليه .. للأبد.

ألجثة ألخامسةحيث تعيش القصص. اكتشف الآن