12

275 22 0
                                    

فتح عبد الدايم المشرحة في الصباح ،وبينما كان يبحث بقلق عن زملائه بها اكتشف جثة أسماء ..وفي أقل من الساعة امتلأت المشرحة بالعشرات من رجال الشرطة بأزيائهم المميزة ،وخبراء المعمل الجنائي بحثاً عن دليل ما يرشدهم للفاعل..

كان هناك عميد الكلية ووكيلاه، وبالطبع كان معهم الدكتور نعيم ،وبعض أساتذة القسم، وبعض أساتذة الأقسام الأخرى وقد ألهب الحادث فضولهم..

طالبة بالفرقة الأولى تُقْتَل بالمشرحة ..

كانت التفاصيل محيرة ومبهمة ومثيرة ..وجد عبد الدايم جثتها على أحد مناضد المشرحة، وكانت بكامل ثيابها ..لكن المخيف هاهنا أن جلدها قد اكتسب اللون البني المميز للجثث المحفوظة ،وقد تصاعدت منها رائحة الفورمالين قوية طازجة تماماً ..

انهمك رئيس المباحث في حوار جانبي في أحد الأركان مع عبد الدايم وجمال ، بينما انهمك خبراء البحث الجنائي في رفع البصمات ،والبحث عن أي أدلة قد تكون مفيدة لكشف غموض القضية ..وحول الجثة انهمك الطبيب الشرعي هو الآخر في فحص الجثة ،ويشاركه في هذا الدكتور محمود عبدالفتاح رئيس قسم الطب الشرعي بالكلية ..

بدأ الاثنان في إجراءات الفحص الظاهري المبدئي على الجثة قبل أن يقول الطبيب الشرعي -الدكتور هشام -للدكتور محمود بتوتر وهو ينتصب قائماً لِيُعَدّل من وضع نظارته:

-لا أفهم أى شيء في هذه الجثة .. إنها محيرة بحق.

أجابه الدكتور محمود بتؤدة ، ووقار وهو يفحص بمثابرة يدي الفتاة وذراعيها :

-أرى ألا نتعجل في إبداء آرائنا الآن..مازال أمامنا وقت طويل قبل أن يطالبنا أحد بتفسير ما حدث مع هذه المسكينة..الأمر لم ينته بعد تنهد الدكتور هشام بحيرة ،وغمغم، وهو يشبك أصابعه أمامه :

-إنها مسكينة بالفعل ..مسكينة ومحيرة ..لا آثار عنف أو مقاومة ظاهرة على جسدها ..لا إصابات ظاهرة ..لا كدمات بأي مكان .. كافة الأوردة والشرايين الظاهرية سليمة ،إذن كيف تم حقنها بكل هذا الفورمالين ،ومتى وجد القاتل الوقت الكافي ليفعل ذلك؟..

هنا أعاد الدكتور محمود ذراعي الفتاة إلى مكانهما برفق، ثم نهض ،وقال :

-أظن أن اكتشاف سر تلك الألغاز التى طرحتها الأن يحتاج منا إجراءات دقيقة أثناء التشريح ..ولهذا أرجو ألايضايقك أن أتقدم بطلب رسمي للمشاركة في إجراءات تشريحها.

أجابه الطبيب الشرعي على الفور :

- ولماذا يضايقني مشاركتك يا دكتور محمود ..إن معاونتك لي في قضية كهذه مفيد للغاية ..أنت أحد العلماء القليلين في مجالنا هذا ،ويشرفني دوماً أن أعمل معك .

ارتسمت ابتسامة مريحة ،ممتنة على وجه الدكتور محمود وغمغم بتواضع :

-أرجو ألا تعد الأمر تشكيكاً في قدراتك - حاشا لله - إنه الفضول العلمي لا أكثر، بالإضافة لكون الفقيدة إحدى طالباتنا. إنني أريد أن أعلم كيف، ومتى ،ولماذا تم حقن هذه الفتاة بالفورمالين ؟..هناك هاجس بداخلي يصر أن مقتل هذه الفتاة ليس جريمة قتل بسيطة..أشعر أن هناك شيئاً أكبر يختفي خلف قتل هذه الفتاة .

حينئذ اقترب الدكتور نعيم منهماً ،كان منزعجاً بشدة ،وقال وهو ينفث دخان سيجارة بعصبية واضحة لم يستطع كتمانها:

- هل توصلتم لشيء ما ؟

أجابه الدكتور محمود :

-ليس بعد.. فكما ترى لا آثار عنف ظاهرة، ولاسبب مباشر للوفاة..مازال علينا أن نقوم بالتشريح ،لنرى إن كان هناك تلف داخلى أم لا ..كما أن علينا ألا ننسى المخدرات والسموم وغيرها .. ولهذا أخشى أننا لن نصل لشيء ما، قبل أن نتنهي من عملية تشريحها ،وفحص أنسجتها وتحليل مكوناتها ودمائها..الامر ليس واضحاً او بسيطاً أبداً هذه المره.

- وماذا عن الفورمالين ..هل عرفتم كيف تم حقنها به هكذا؟

-ليس لدي إجابه لسؤالك هذا في هذه اللحظة ،لكننا حتما سنعرف.. اطمئن يا دكتور نعيم..إنها مسألة وقت لاأكثر .

زادت تلك الإجابات المبهمة من توتره ،فابتعد دون أن يعقب وظل ينفث دخانه بعصبية، وهو يتمتم بحنق وصوت خافت:

-طالبة تُقْتَل في المشرحة ..كأن هذا ماكان ينقصنا !..ياله من عام !

فوجئ بعميد الكلية يتجه نحوه مع مفتش المباحث ،ووكيل النيابة الشاب الذي وصل لتوه هو الآخر ،وقال العميد بعد أن قدمهم لبعضهم البعض :

-لقد اتفقنا جميعا على كتمان الأمر عن الجميع ،وبخاصة الطلاب والصحافة ..لانريد أن نثير الذعر في نفوس الطلاب أو أهاليهم..كما لانريد أن تصيب الكلية تلك الفرقعات الإعلامية للصحفيين..

هزّ الدكتور نعيم رأسه متفهماً ، وهو يقول:

-إن هذا أفضل حتماً ..حسنا فعلتم.

هنا قال وكيل النيابة الشاب موجهاً سؤاله للدكتور نعيم وعيناه الضيقتان النافذتان لاتكفان عن التنقل، والبحث في كل مكان بالمشرحة :

-أخبرني يادكتور نعيم ..من كان أول من اكتشف الجثة ؟

أجاب الدكتور نعيم ،وهو يشير بيده نحو عبد الدايم الذي انكمش في أحد الأركان مذهولاً قلقاً ،بصحبة جمال وهما يراقبان مايجري حولهما بتوجس وترقب:

- إنه عبد الدايم أحد عمال المشرحة هاهنا ..لقد وجدها في الصباح.

-وكيف علمتم أن الجثة لإحدى طالبات الكلية ؟..

-لقد وجدنا حقيبتها بجوارها ،وحين فتشناها عثرنا على بطاقتها الشخصيه ، وبطاقة التحاقها بالكلية ..كانت هناك بعد الصور الفوتوغرافية لها .. أترغب في التحدث إلى عبد الدايم؛ ليقص عليك بنفسه ماحدث؟

-لا داعي لهذا الآن..سيتم التحقيق مع الجميع في النيابة فيما بعد.. قالها باقتضاب، ثم التفت إلى رئيس المباحث، وسأله :

-هل انتهى رجال المعمل الجنائي من عملهم هاهنا.

لاحظ رئيس المباحث بعض التراخي في رجال البحث الجنائي مما يوحي بأنهم قد إنتهوا من عملهم ،فغمغم وهو يهز رأسه الضخم:

-أظن أنهم قد انتهوا الآن ؟..

-وماذا عن سبب الوفاة ..هل علمتم كيف قتلت تلك الفتاة ؟..

-لقد تحدث إليّ الدكتور هشام – طبيبنا الشرعي  – في هذا منذ لحظات ، وقد أخبرني أنه لايعلم سبب الوفاة حتى الآن ..أظن أنه سيؤجل إجابته لحين انتهائه من تشريح الجثة.

هزّ وكيل النيابة رأسه بحركات مبهمة قبل أن يلتفت نحو الدكتور نعيم الذي كان يراقب مايحدث بضيق وعصبية ،وقال له:

-أخبرني يادكتور نعيم ..لماذا برأيك تم حقن هذه الجثة بالفورمالين ..هل تظن أن القاتل قد رغب في إخفاء أدلة ما بفعله هذا .

أجاب الدكتور نعيم، وهو يهز كتفيه بحيرة :

-وما أدراني ؟.. إنني لم أقابل شيئا كهذا في حياتي كلها ..ربما كان مختلاً ولهذا فعل ذلك ..لكن كيف فعلها ،ومتى وجد الوقت المناسب لذلك فهذا مايحيرنى للغاية..إن حقن الجثث بالفورمالين أمر ليس بالهين ويحتاح للجهد والوقت.

-وهل يمكن لشخص واحد أن يقوم بالامر بمفرده دون معاونة ما؟..

-هذا ممكن بالطبع ،لكن سيتطلب هذا منه الكثير من الوقت..هناك إجراءات لابد أن تتبع وهناك الجهد وهناك الوقت ..إنه أمر صعب لو شئت رأيي.

رمقه وكيل النيابهة الشاب محاولاً استيعاب الإجابة ،وخيم الصمت بينهم ، وساد سكون غريب في أرجاء المشرحة كلها، كأنما اتفق الجميع على السكوت ،وكل منهم يسبح في خواطره..قبل أن يعاود وكيل النيابة حديثه إلى رئيس المباحث الضخم الجثة :

-هل بعثتم يا محمد - رئيس المباحث - من يخبر أهلها ويأتي بهم ؟

-لقد أرسلنا إليهم بالفعل أحد أمناء الشرطة بإحدى سياراتنا لجلبهم إلى هنا..مازال علينا ان نعرف منهم الكثير من الأشياء الغامضة أهمها متى أتت الى الكلية ،هل أتت هذا الصباح ،أم كانت هاهنا منذ الأمس؟..

- حسنا ..أرى أن تجري تحرياتك لتعلم إن كان لتلك الطالبة أصدقاء هاهنا أم لا؟..ومن هم لو وجدوا؟ ..وهل كان بصحبتها أحد ما حين أتت إلى هنا أم كانت بمفردها ..ولاتنسَ أن تتحرى عن عمال المشرحة جميعهم، ولتنظر إن كان هناك مايريب في أحدهم أم لا؟.

أومأ رئيس المباحث محمد وهدان برأسه ،وهو يغمغم:

-سأتأكد من تنفيذ هذا يا وائل بك.

تحرك وكيل النيابة بعدها في أرجاء المشرحة مرة أخرى، وأخذ يطالع الجثث الراقدة على مناضدها، وهو يغالب الغثيان الذي يسببه له رائحة الفورمالين ، وحاول بعقله رسم تصور مقبول لما جرى ..لكنه فشل ..فالمكان بالرغم من كل الأشخاص الموجودين به، يبدو بريئاً تماماً ولا شيء في غير موضعه ..

وجد نفسه يتساءل إن كانت الفتاة قد قتلت في مكان آخر ،ثم قام القاتل بجلبها للمشرحة بعد ذلك ،كان احتمالاً قائماً ..خطر بباله شيء ما ،فعاد إلى الدكتور نعيم وسأله:

-هل تدري يادكتور ،لماذا جاءت تلك الفتاة بمفردها إلى المشرحة؟

-لا أدري..أنت تعلم الطلاب ،وشططهم وإندفاعهم..لا أحد يعلم أبداً ما الذى يدور برءوسهم..ربما أردات أن ترى الجثث ..أو ربما راهنت شخص ما على أن تدخل المشرحة بمفردها إثباتاً لشجاعتها ..إننا دوماً نقابل من الطلاب أشياء مثل هذه.

-وهل اعتدتم ترك المشرحة مفتوحة دون أحد ما يحرسها ليدلفها من يشاء.

- كلا بالطبع ..ففي كل ليلة على أحد العمال المبيت بها، انتبه وكيل النيابة بشدة لما ذكره الدكتور نعيم ،فقال باهتمام:

-و منْ مِنْ العمال كان هاهنا بالأمس ؟

شعر الدكتور نعيم بالتوتر يتصاعد في جوفه، فتنهد بقوة وأجاب ببطء:

-المفترض أن كبير العمال، ويدعى منصور، وعامل آخر يدعى متولي ،هما من كانا بالمشرحة بالأمس.

-وأين هم الآن..إنني لم أرى أي منهما هاهنا.

-لست أدري .. فحين جئنا إلى هنا لم يكونا بالمشرحة..لقد ذكر عبد الدايم أنه وجد باب المشرحة مفتوحاً ،ولم يعثر علي أيهما حين أتى في الصباح.

التمعت عينا وكيل النيابة الشاب ، وغمغم لنفسه ببطء:

-إن هذا يغير الأمر تماماً ..يجب أن نعلم أين هما الآن ؟

ألجثة ألخامسةحيث تعيش القصص. اكتشف الآن