10

299 22 0
                                    

بدأ نظام المبيت الجديد في نفس الليلة .. واتفقوا أن يكون عم منصور ومتولي في الليلة الأولى ..

لم يتذمر أحد منهم من الأيام الإضافية التي سوف يبيتونها في المشرحة .. فأمام ما يحدث خاف كل منهم مما جرى، وأخذ يبحث عن الصحبة في مواجهة أمر مبهم كهذا.

وفي المساء جاء عم منصور مبكراً ، لم تكن الساعة قد تجاوزت السادسة حين كان بها، أخبره متولي أنه سيتأخر قليلا ؛ لينهي بعض أموره فلم يعترض .. وظل بمفرده بالحجرة راقدا على الفراش يدخن ويجرع أكواباً كثيرة من الشاي كعادته، ويسمع الراديو ، حتى جاء متولي حين قاربت الساعة العاشرة..

كان قد جلب معه من بيته بعض الأواني التي تحوي أرزاً و "كوسة" مطبوخة ولحم .. شعر عم منصور بالدهشة الحقيقية، وهو يرى هذا الكرم الغير معتاد من متولي، وقد عهده بخيلاً.. وقال متولي بمرح ،وهو يفرغ ما تحويه الآنية في بعض الأطباق الموجودة بالحجرة :

-لا أظن أنك تناولت طعاماً منزلياً منذ زمن طويل .. لذا قررت أن أذكرك به هذا اليوم ثانية .. أتمنى أن يعجبك.

وابتسم عم منصور بامتنان، وهو يجلس على الأرض المكسوة بحصيرة قديمة .. كان ما قاله متولي صحيحاً تماماً .. فنادراً ما عاد يتمتع بمثل هذ الوجبات المعدّة في  المنزل، منذ انتقل للعيش بالقاهرة .. كما أنه ليس بالطباخ الماهر، فكان يلجأ للوجبات الجاهزة الرخيصة؛ كي يسد رمقه .. وإكتفى بتناول الطعام المنزلي في الأجازات التي يعود فيها لبلدته.

ففي كل عام، وبعد انتهاء الدراسة كان يغادر القاهرة لشهر كامل عائدا لبلدته بالمنيا .. فهناك أخوته البنات المتزوجات، اللاتي يتفنن حينها في إعداد كل ما يعلمن أنه يشتهيه من طعام، بل ويزودونه بالكثير منه قبل عودته للقاهرة، ليكفيه لبضعة أيام أخرى، قبل أن يعود ثانية للطعام الرديء الذي يشتريه.

وقال وهو يلوك بفمه الطعام الشهي، وقد راقت له رائحته الذكية وطعمه الحلو:

-يمكنك أن تشكر زوجتك من أجلي .. إنها بارعة في طهيها كثيراً .. أنت محظوظ في كل شيء يارجل.

-بالهناء والشفاء ياعم منصور ..لكن أخبرني أيها الكهل .. لماذا لم تتزوج حتى الآن ؟.. ألم تحاول أن تقترن بواحدة من قبل ؟..

سؤال تكرر كثيراً على مسامعه، فضحك ببساطة، وأجاب بعد أن مضغ قطعة لحم كان يأكلها :

-لأنه لاتوجد من تقبل أن تتزوج غولاً مثلس .. ألا ترى كيف أبدو يارجل .. إننى أبدو كالغول والعمالقة، والنساء يخشين من هو مثلس حتماً ،إلا لو كان بها عيب ما؛ لتقبلني من أجله، وهذا ما لن يروقني..إذاً فلا حاجة لي بهن ولاحظ لهن معي ..معادلة بسيطة ومريحه كما ترى..

وضحك متولي بصورة صاخبة، وقال وهو يزدرد ملعقة من الأرز مخلوطة بصلصة الكوسة :

-لو كانت هذه مشكلتك فلا مشكلة إذن .. اترك الأمر لي، وسأزوجك من ترضى بك هكذا .. انت تبالغ في النفور من نفسك كثيراً، والأمر لا يسير هكذا أبداً.

-امرأة من طرفك أنت .. الله الغني يارجل .. لن يكون هذا أبداً.

-إذا فأنت الذي لا يريد .. فكر في الأمر .. إن أمامي عروساً تناسبك، و أنا أجزم أنها سوف تروق لك كثيراً. إنها كاللوز المقشور.

- ومن قال لك أني أريد الزواج. أو أفكر فيه .. إنني أحب حياتي هكذا ، ولا أرغب في تغييرها .. كما أنني لا أحب اللوز .

- صدقني ياعم منصور، أنت مخطئ في تفكيرك هذا، وستندم حتماً حين يتقدم العمر بك، ولا تجد من يكون بجانبك حينها ليرعاك .. إننا نتزوج كي نجد من يؤنس وحدتنا، ثم ننجب الأبناء، كي ندخرهم إلى أن نحتاج اليهم في شيخوختنا وعجزنا.

-حينها لن أعدم من يساعدني من أولاد الحلال .. إنهم في كل مكان فلا تقلق بشأني.

وانتهيا من العشاء، فأشعل عم منصور سيجارة جديدة ، بينما قام متولي بجمع الأطباق ليغسلها .. وتولى عم منصور إعداد الشاي ..ثم إتجها بعدها للحديقة الخلفية ..

حملا معهما الشيشة، وطبق فخاري مليء بالفحم المشتعل، وأكواب الشاي الأسود الشبيه بالحبر.

ظلا يدخنان، ويثرثران حتى انتصف الليل ..فجمعا أغراضهما، وعادا ثانية للمشرحة استعداداً للنوم .. وقال عم منصور مقترحاً :

-مارأيك لو فتشنا المكان قبل أن ننام؟..لا أريد أن نفاجأ بشئ ما.

رحب متولي بالفكرة ،ففتشا المشرحة بأكملها ،لكنهما لم يعثرا على ماقد يريبهما ..أغلقا بعدها الباب الخارجي للمشرحة بإحكام، وكذلك باب حجرتيهما..ثم رقد عم منصور على الفراش الذي كان صغيراً لايتسع لكليهما معا ، بينما رقد متولي على حصيرة فرشها على الأرض.

بعد ساعتين،شعر متولي بمثانته ممتلئة، فنهض واتجه إلى الحمام مترنحاً شبه نائم .. انتهى ،فعاد بعيون ناعسة شبه مغلقة ؛ليكتشف أن باب الحجرة مغلقاً .. أمسك مقبضه وأدراه ،ودفعه بقوة لكنه لم يتحرك ..

هنا طار النوم من عينيه تماماً ،وهو يحاول دون جدوى فتح الباب الذي صمد أمام محاولاته ،ولم يهتز..وبينما راح يدفعه بعصبية، شعر بأن هناك من يراقبه من الخلف..

كان إحساساً مبهماً لكنه استجاب له، والتفت بتوتر نحو البقعة المظلمة في نهاية رواق المشرحة ،كان هناك بالفعل من يقبع في الظلام منتصباً ، ساكناً دون حراك..

كان هذا نهاية التوتر والتعقل ،وبداية الجنون عنده، فأطلق صرخات توقظ الموتى، وهو يستغيث وينادي عم منصور بهستريا ،ويداه تطرقان الباب ، وتحاولان فتحه بفزع وعنف، دون أن يفارق عينيه ذلك الشيء المتدثر بالظلام ..

استيقظ عم منصور على صرخاته ،وكاد أن يتعثر ،وهو يندفع نحو الباب المغلق ليرى ما هنالك..فوجئ هو الآخر بالباب المغلق.. وحاول أن يفتحه فلم يفلح ،فتصلب أمامه يرمقه بحيرة ..

كان المزلاج غير مغلق ..فكيف يقاوم ذلك الباب اللعين فتحه إذا ؟..

بالخارج ارتفع عويل متولي وصرخاته ، وهو يتضرع إلى عم منصور ،ويرجوه أن يفتح له الباب ،فزاد عم منصور من محاولاته الشرسة كي يفتح الباب، وقد قرر أن يفتحه بأي طريقة حتى لو حطمه ..

تراجع للخلف قبل أن يندفع نحو الباب بكتفه ليحطمه ..لم يتأثر الباب بمحاولته فتراجع ثانية ليعيد الكرة، وهو يصيح في متولي:

- ماذا هناك يامتولي .. ما الذى يجري عندك ..لماذا تصرخ هكذا؟..

بصعوبة فهم مايقوله متولي من بين صراخه الذي استمر صاخباً ليوقظ الموتى.

-أنجدني ياعم منصور.. إنه هناك في الظلام..إنه ينظر إليّ ..افتح الباب أرجوك ،وانجدني..

-من هذا يا متولي؟ ..لاتصمت يارجل ،وأجبني..تحدث،وأخبرني من هذا؟

لكن متولي أخذ يصرخ دون أن يجيبه هذه المرة .. تحرك ذلك الشيء المخيف مغادراً ظلمته، وإتجه نحوه ..فانهار متولي برعب بجوار الباب يائساً من محاولة فتحه ، لكنه استمر يصرخ منادياً عم منصور سائلاً نجدته بيأس حقيقي ..

توترت عضلات عم منصور أكثر وصرخات متولي الفزعة تصله عبر الباب المغلق دون أن يستطيع نجدته، ظل الباب صامداً كوتد مثبت بالصخر دون أن يتحرك قيد أنملة بالرغم من محاولاته الجدية لتحطيمه ،بدا كأن قوة شيطانية تتلبسه فتزيده صلابه ..

فى النهايه تحول صراخ متولي لنحيب مكتوم ..أخذ يرتعد، وهو يلاحظ شبح ذلك الكائن يتقدم نحوه بإصرار وهدوء .. بدأت الدنيا في الإظلام أمام عينيه ..و دخل ذلك الشيء دائرة الضوء ،فعرف من يكون ..

كانت فتاة .. الفتاة التى جلب جثتها منذ أيام ..لابد أن هذا شبحها وقد أتى لينتقم منه ..إنه وقت الحساب والإنتقام إذا ،فمرحبا بالفزع.

ارتسمت ابتسامة ساخرة ،ومخيفة على شفتيها، وبدت عيناها متوهجتين مشتعلتين كجمرتين ،بينما تطاير من خلفها شعرها الأسود الطويل كأنما يحركه تيار خفي من الهواء للخلف ..وكانت تتحرك بانسيبابية غريبة كأنما تسبح في الهواء.

أراد أن يصرخ فيها أن تبتعد عنه وتتركه ،لكن صوته خذله ، فلم يخرج من فمه إلا عواء غير مفهوم..وطمس الرعب حاسة الشم في أنفه، فلم يشم رائحة العطر الأنثوي الذي عبق شذاه الفراغ حوله..

ظلت تقترب بتؤدة - تؤدة أي رزانة وتَأَنٍّ وتمهُّل تكلّم بكلِّ تُؤَدَةٍ ورويَّة - ورتابه حتى صارت أمامه تماماً ،وألجمه الرعب ،فأصابه شلل مؤقت فلم يتحرك ..هنا امتدت يدها نحوه ،وابتسامتها الساخرة المرتسمة على وجهها تزداد اتساعاً ، فلم تعد مراكز وعيه قادرة على إبقاءه يقظاً أطول من هذا الوقت ، ففقد الوعي ..

في نفس اللحظة زالت مقاومة الباب فجأة أمام محاولات عم منصور المستميتة ،ففتح مرة واحدة كاد معها عم منصور أن يسقط أرضاً ..

رأى حينها متولي راقداً أمام الباب شاحباً ، وفاقداً لوعيه.. فحصه بتوتر ، وهو يناديه، ويهز جسده بعنف ليفيق .. كانت أنفاس متولي ضعيفة مضطربة،وجبهته تتصبب عرقاً بارداً ،وجسده متخشباً.

بعد لحظات استجاب متولي لمحاولات عم منصور الحثيثة لإفاقته ، ففتح عينيه ببطء .. ثم هزّ رأسه بعنف متلفتاً حوله كأنما يتيقن أن الخطر قد زال .. نظر بعدها إلى عم منصور ،ثم انهار مرة واحدة باكياً وهو يحتضنه..

ساعده عم منصور كي ينهض ،ثم أرقده على الفراش ..وراقبه وهو يبكي، ويرتعد من الفزع الذي لاقاه منذ قليل .

حاول عم منصور أن يخمن ما الذي شاهده متولي ،وأرعبه هكذا؟..ولم يرغب في أن يسأله الأن ،وهو يراه منهاراً أمامه هكذاً، فانتظر إلى أن يهدأ قليلاً من اضطرابه وبكائه.

بعد فترة ليست بالقصيرة هدأ روعه..وبكلمات مضطربة متقطعه، حكى ماحدث ..

أقسم بعدها ألا يكمل ليلته في هذا المكان، حتى لو كان في الأمر طرده من عمله و إقالته ..

لذا فقد قررا أن يتركا المشرحة سوياً الآن ،ولتذهب كل الجثث التي بها إلى الجحيم ..

قرر عم منصور أن يذهب في الصباح إلى الدكتور نعيم ليخبره ماحدث..ولو أراد حراسة المشرحة ؛فليبحث عن آخرين غيرهم ،فلن يجسر أيهم بعد الآن على المبيت ثانية بها مهما كان الوعيد أو الترغيب ..

غادرا المشرحة لكنهما تركا الباب الخارجي دون أن يهتموا بغلقه.

كان خطأ كبيراً ، أدركاه فيما بعد..

ألجثة ألخامسةحيث تعيش القصص. اكتشف الآن