وبعد أقل من الساعه علم كل من بالمشرحه ماحدث لجمال، فأرسل إليه الدكتور نعيم ليخبره الحقيقة .. ذهب إليه ومعه عم منصور ، هناك أخبره جمال ماحدث له بالأمس .. لم يخفِ شيئاً ، لأن حيرته وخوفه كانا هائلين ..
حكى له عن الظل الذى ظنّ أنه شاهده ، وأخبره بجثة الفتاة المفتوحة العنين، والتي ثبتت نظراتها عليه، وكانت تبتسم له .. وأخيراً تلك الطرقات التي سمعها بعد أن نام، وكان آخر ما يتذكره هو فتح الباب .. أما بعد ذلك فهذا ما لا يذكره ..
رمقه الدكتور نعيم بشيء من الشك والريبه، قبل أن يعود بمقعده للخلف، وراح يمج سيجارته ببطء وصمت، قبل أن يقول بلهجة هادئة، بطيئة، حملت الكثير من الاتهام :
-هل حدث أن سرت أثناء النوم من قبل ؟!..
وأدرك جمال أن الدكتور نعيم لا يصدقه، فارتبك .. وتكاثف العرق على جبهته، وأجاب مطرقاً رأسه لأسفل، بارتباك:
-لا يادكتور .. لم يحدث هذا لي أبداً .. إنني أنام على فراشي كالجحر.
-إذا فأنت تتعاطى شيئاً ما حتما ؟.
-شيء ما مثل ماذا يادكتور ؟.. لست أفهم ما تقصده ..
سأله جمال بحذر، وهو يخشى أن يضطر للاعتراف بأنه يتناول الحشيش أو البيرة حين يبيت بالمشرحة .. خشي أن يكلفه هذا وظيفته.
وأجابه الدكتور نعيم ببطء، وهو يميل بجزعه نحوه من فوق مكتبه :
-أتحدث عن المخدرات أو الكحوليات .. تلك الممنوعات التى تعرفها جيداً .. أي شيء من هذا القبيل .. هل تفعل يا رجل ؟..
مرة أخرى أطرق جمال برأسه للأسفل، متحاشياً أن تتلاقى عيناه بعيني الدكتور نعيم الحادتين، وهو يغمغم:
-الشيشة فقط يادكتور .. أنا لا أشرب غيرها .
هنا هزّ الدكتور نعيم كتفيه بنفاذ صبر ، وصاح بعصبية:
-إذن كيف بالله عليك وجدوك بغرفة التشريح، راقداً على منضدة أحد الجثث ؟.. أخبرنى لماذا فعلت هذا ؟.. هل كنت تتسلى مثلاً ؟.. أم أنه خاطر أحمق طرأ برأسك الغليظ هذا فجأة، ودفعك لفعل هذا ؟.
ازداد جمال توتراً ، وهو يشعر باتهام مباشر يُوجه له بين طيات كلام الدكتور نعيم، فقال ضارعاً:
-أقسم بالله أنني لا أدري كيف حدث هذا .. أنا لم أشعر بأي شيء إلا حين أفقت في الصباح .. أنا حتى لم أكن أدري أنهم وجدوني نائماً على تلك المنضدة بجوار الجثث .. لو أفقت حينها ووجدت نفسي هكذا لمت هلعاً.
ثم التفت إلى عم منصور مستنجداً به، فاكتفى الأخير بهز رأسه مؤكداً ماقاله ..
صمت الدكتور نعيم، وراح يتفحصه بنظرات نافذة كسهام تتخلل جسده؛ لتستكشف إن كان صادقا فيما يدعيه، أم أن وراءه شيء ما يخفيه، بعدها أخذ يدخن الجزء الباقي من سيجارته، وهو يطلق سحابات كثيفة من الدخان نحو سقف الحجرة، بينما راحت أنامله تعبث بقلم أنيق، يحمل شعار إحدى شركات الأدوية، مصدراً صوتاً معدنياً رتيباً.
حطم هذا الصمت مقاومة جمال، فبدا مضطرباً وخائفاً بصورة لا ادعاء فيها .. لقد كان مذعوراً بحق؛ وكان وجهه شاحباً في تلك اللحظة كالموتى .. لذا قال الدكتور نعيم في النهاية ليصرفه :
-حسناً ..يمكنك الانصراف يا جمال، عد لبيتك الأن لتنال قسطاً من الراحة، وفيما بعد سنحاول أن نفهم ماحدث.
وشكره جمال، وهو ينصرف، واستدار عم منصور الذي تابع كل ماحدث صامتاً ليرافقه، إلا أن دكتور نعيم استبقاه قائلاً :
-انتظر يا منصور .. هناك ما أرغب في التحدث فيه إليك .
-تحت أمرك يادكتور.
قالها عم منصور ،وهو يعود متقدماً نحو المكتب ،بينما انتظر الدكتور نعيم للحظات حتى غادر جمال الغرفة، فقال لعم منصور:
-هل هناك ما أخفاه عني جمال .. ربما أخبرك بشيء ما، ولم يشأ أن يخبرني به .. لا أظن أنك أنت الآخر تصدق ما قاله.
وهز عم منصور رأسه نافياً . وأجاب بهدوء:
- لقد أخبرني بما ذكره لسيادتك .. إن روايته التي حكاها لكلينا واحدة دون أي تغيير .. ولا أظن أنه كان يدعي الغيبوبة التي وجدناه عليها .. لقد فحصه الدكتور حاتم، ويمكنك أن تسأله كيف كان .
-ألا تظن أنه قد يكون قد نام من تلقاء نفسه بقاعة المشرحة دون أن يدري .. ربما كان يعاني من مرض نفسي ما .. وربما كان يسير أثناء نومه دون أن يعلم ذلك .. أشياء كهذه تحدث أحيانا.
-ربما كان هذا ماحدث، من يدري؟! .. الأمر كله عجيب، ولم يحدث من قبل .. أخشى أن أقول أن هناك أحداثاً غريبة تدور في المشرحة في الآونة الأخيره لم يكن جمال شاهدها الوحيد ..
- أحداث غريبة هاهنا بالمشرحة ؟.. هل حدث شيء ما بالمشرحة لا أدريه ؟!..
قالها الدكتور نعيم بدهشة واستنكار .. لم يجب عم منصور على الفور، بل صمت للحظة متردداً ، لكنه أمام النظرات الصارمة للدكتور نعيم تكلم، وقص عليه ماحدث لعبد الدايم من قبل..
وضاقت عينا الدكتور نعيم، وعاد يعبث بالقلم الذى يمسكه مرة أخرى مصدراً طرقات خافتة على سطح مكتبه، وعيناه تنتقلان بين وجه عم منصور المضطرب وفراغ الغرفة، قبل أن يقول مستنكراً بلهجة حادة:
-أتتكلم عن عفاريت، و أشباح جثث تلهو بالمشرحة ؟.. هل هذا ما تقصده يارجل ؟.. وهل تعتقد أن مثل هذه الخزعبلات التي تحكونها في قراكم حين يحل المساء، ليخيف بعضكم البعض قد تحدث هاهنا في كلية الطب ؟.. لو شئت رأيي في مايحدث، لأخبرتك أن رجالك حمقى ، واهمون بالتأكيد، وربما يتعاطون شيئاً ما لست أدريه .. عليك أن تبحث عن هذا، لكنني لن أقبل أن أستمع الى هذا الهراء مرة أخرى .. أخبرهم بكلامي هذا كي لا يتمادوا في أوهامهم، فينشروا هذه التُرّهات في كل مكان.
لاذ عم منصور بالصمت ولم يعقب، كان يعلم أن الدكتور نعيم لن يقبل مناقشة هذا الأمر مادام قد رفض تصديق ماحدث من البداية .. لذا فلاطائل من مجادلته، كان هو شخصياً يؤمن بالعفاريت والجان .. ألم يقل الله في كتابة الحكيم "ويخلق ما لاتعلمون"
إذا فلابد أن لله خلق كثير لا نعلم عنهم شيئاً ، بالرغم من أنهم قد يتواجدون حولنا دون أن نشعر بهم أو نراهم ..
لذا اكتفى بهز رأسه، وقال باستسلام:
-كما تشاء يا دكتور .
-منصور .. لا يجب أن يعلم أحد بما حدث .. فمع بداية الأسبوع القادم سوف يبدأ الطلاب دروسهم العملية مع الجثث، ولا أريد أن تكون هناك بلبلة ما حول المشرحة.
هز عم منصور رأسه موافقاً ، وأكمل الدكتور نعيم آمراً :
-هناك شيء أخير .. لا أريد لأحد منكم أن يبيت بالمشرحة بمفرده بعد الآن .. ليتواجد اثنان منكم كل ليلة بالمشرحة .. سيكون هذا مؤقتاً حتى أتأكد أن تلك الأوهام لم تعد تحدث .. أخبر الآخرين بذلك، وابدءوا في تنفيذ هذا الأمر من الليلة.
وتركه عم منصور ليخبر الباقيين بما جرى، وتناهى إلى مسامعه وهو يخرج من الباب ضحكة عصبية أطلقها الدكتور نعيم، هو يقول ساخراً :
-عفاريت هاهنا بالمشرحة .. في المرة القادمه سيحدثونني ربما عن لعنة الفراعنة، أو مصاصي دماء يتحركون في الليل .. يالهم من رجال !.
أنت تقرأ
ألجثة ألخامسة
Mystery / Thrillerعم منصور بصفتين رئيسيتين .. أن الرجل هو أهم شخص طوال العامين الأولين الطب إن لم يكن جميعهم.. وما وهو خازن الأسرار ..