15

262 19 1
                                    

ابتسم الدكتور محمود، حين رأى الدكتور هشام يدلف باب حجرة مكتبه، وقال الأخير محرجاً :

-أرجو ألا أكون قد أزعجتك أو عطلتك عن عملك حين أتيت بغير ميعاد.

أجابه الدكتور محمود على الفور ،وهو يدعوه للجلوس مرحباً وابتسامة عريضة ،ومرحبةً ترتسم على وجهه:

-بل لقد اسعدتني زيارتك هذه يادكتور هشام، بل وقد كنت أنتظرها في الواقع.. لكن أخبرني في البداية ،ماذا تحب أن تشرب؟

- لو كنت مصرّاً فهي القهوة السادة.

استدعى الدكتور محمود عامل البوفيه، وأمره بإحضار فنجانين من القهوة السادة ،وما إن انصرف ،حتى سأل الدكتور هشام باهتمام:

-ما هي آخر أخبار التحقيقات بشأن مقتل طالبتنا..هل هناك من جديد.

أجابهُ الدكتور هشام بسرعة ،وكأنه ينتظر هذا السؤال :

- لقد أتيت اليوم من أجل هذا ..إنهم يطالبونني بتقرير عن سبب الوفاة .. وبالطبع من المفترض أن نشترك في إعداده معاً ..فأنت مثلي صرت مكلفاً بإعداده بصورة رسمية.

هزّ الدكتور محمود رأسه متفهماً قبل أن يقول:

- في الواقع سبب الوفاة هو سبب تأخيري في تقديم تقريري بنتيجة التشريح ..فما زلت لاأعلم كيف ماتت تلك الفتاة ،كما أنني افتقد لإجابات الألغاز الأخرى التي واجهتنا معاً حين قمنا بتشريح جثة الفتاة ..فجثتها كانت خالية من الدماء بلاسبب..ولاندري كيف تم حقنها بالفورمالين ..وكيف تم هذا في تلك الفترة القصيرة التي لاتتجاوز النصف ساعة ..لاحظ أننا لم نستفد كثيراً من تشريح الجثة ..فـ باستثناء الأنسجة المتشبعة بالفورمالين لا شيءآخر ذو بال وجدناه .غير القلب الضامر الفارغ تماماً من الدماء هو الآخر..

It was completely collapsed-

-هذا صحيح ..إنني لم أرى شيء كهذا من قبل ..بدا وكأنه بالون تم تفريغه من الهواء تماماً..تمنيت لو إحتفظت بالقلب لتتم دراسة كيف صار هكذا ..أعتقد أننا لو فعلنا لإكتشفنا ظاهرة جديدة.

-الجثة كلها تصلح للدراسة كظاهرة جديدة وليس القلب فقط يادكتور محمود ..إنها كنز حقيقي لعلماء الطب الشرعي والتشريح.

-لا أعتقد أن أهلها سيوافقون ابدا على أمر كهذا ..إن العبث بالجثث أمر مرفوض تماماً في مصر كما تعلم .

مطّ الدكتور هشام شفتيه بتوتر وغمغم:

-هذا صحيح للأسف ..لكن دعنا من هذا وأخبرني.. ماذا تقترح أن نكتب في تقريرنا ؟!

-لا أدري يابني ..حقا إنني مستاء ؛لأنني لم أقدم لك الدعم الذي كنت تتوقعه مني ..لكن القضية غامضة بالفعل بصورة لم أعهدها من قبل .. صمتا لبعض الوقت قبل أن يقول الدكتور هشام بتردد:

-أرجو ألاتسخر مني فيما سأقوله لك ..إنني أشك أننا نواجه أمراً غير مألوف في قضيتنا هذه ..أمرا أشبه باللعنات الغامضة والأمور الخارقة .فلا يوجد أي شيء منطقي في هذه القضية على الإطلاق.. والكيفية التي ماتت بها الفتاة من المستحيل علميا أن تكون فعلاً بشرياً ..ألست توافقني في هذا ؟.

رمقهُ الدكتور محمود بدهشة، وصمت مفكراً في كلماته ،وهو يهز رأسه ببط ثم قال بهدوء:

-لا أرحب في الواقع بهذه التفسيرات الخوارقية ..ودائماً أنفر منها ..لكن للأسف هذه أول مرة لا أرى البديل المنطقي عنها.

دخل عامل البوفيه في هذة اللحظة ،و وضع القهوة أمامهما ثم انصرف بصمت، فاستطرد الدكتور محمود متسائلاً ، وهو يشير بيده نحو القهوة داعياً الدكتور هشام لتناول فنجانه:

-وماذا عن البصمات والأدلة الأخرى؟..هل قادتكم إلى شيء؟

تناول الدكتور هشام فنجان قهوته، وارتشف رشفة منه ثم أجاب:

-لم تُضِف شيئاً .. فلا بصمات غريبة و جدوها ،غير بصمات العمال ، والأطباء بالقسم..إنها قضية الألغاز الكثيرة للجميع.

تناول الدكتور محمود فنجانه هو الآخر، وارتشف منه رشفة صغيرة، وسأله:

-وماذا عن المشتبه فيهم ..سمعت أنهم في البداية اشتبهوا في عاملين بالمشرحة قبل أن يطلقوا سراحهما..

-لم يصلوا معهما لشيء ..والفتاة كذلك لا أعداء لها أو لأهلها .. ولم يتهم والدها أحد ما ..

صمت بعدها للحظة؛ ليشرب بعض قهوته، وأكمل:

-رجال المباحث أيضا يتخبطون في الظلام،فلا خيط أمامهم ليمسكوا به في هذه القضية..إنها أغرب قضية رأيتها في حياتي!..

أنهى الدكتور محمود قهوته ،فوضع الفنجان أمامه ،وقال وهو يمسح فمه بمنديل ليزيل آثار القهوة عنه:

- إذاً فعلينا أن نتمهل قليلاً قبل تقديم تقريرنا..لقد نويت أن أرسل نتائج التشريح ،وبعض الصور إلى بعض أصدقائي بالخارج لآخذ مشورتهم..فربما صادفوا في عملهم شيئا كهذا لم نصادفه في عملنا هنا..وربما كانوا أكثر حظاً منا وعلموا كيف تم الأمر.

كانت فكرة جيدة ،راقت للدكتور هشام كثيراً ، فقال بحماس:

-اقتراح ممتاز..فعقول عدة تفكر في القضية خير من عقل واحد بالتأكيد ، وربما مانراه هنا للمرة الأولى ،قد صادفه غيرنا من قبل ..سوف أنتظر نتيجة مراسلاتك،وسوف أتابع التحقيقات في القضيه،فربما قادتنا جميعاً لشيء ما.

نهض بعدها لينصرف، وقال مودعاً ، وهو يمد يده مسلماً على الدكتور محمود وعلى شفتيه ابتسامة مرهقة:

-لو اكتشفت شيئا سأخبرك على الفور ..وسوف أنتظر نتائج مراسلاتك ..

نهض الدكتور محمود مودعاً ، وراقبه حتى غادر الحجرة ..ثم عاد لمقعده ثانية ،وظل صامتاً لفترة قبل أن يقول بشرود:

-أتكون حقاً لعنة ما ؟..

ألجثة ألخامسةحيث تعيش القصص. اكتشف الآن