في الصباح كانت هناك أسماء ..فتاة ذكية ..رقيقة.. وحالمة.
كانت تحلم أن تغير في يوم من الأيام التاريخ الطبي ، حيناً باكتشاف عشرات الأمراض الجديدة ،وأحياناً أخرى باختراع عشرات العقاقير التي تشفي كل الأمراض، وخاصة البلهارسيا التي كانت تنهش أكباد المصرين وأبدانهم بوحشية في ذلك الوقت ..
عشرات الأحلام التي تولد وتموت في كل لحظة، والكثير من النشاط غير المحدود ،وحماس بلاسقف يردعه ..كل هذا كان أسماء..
تفوقت في دراستها ،وكان ترتيبها الأولى دائما .. علمت أن هذا ما كان عليها أن تفعله كي تصير في يوم من الأيام، الدكتورة أسماء كما تتمنى ..
رقيقة دون ادعاء ..ملاك لايرى في الدنيا إلا الجمال فقط ..لاتفكر إلا في الحياة، ولاتعلم شيئاً عن الشيء المخيف الآخر المدعو الموت ..
رقتها جعلتها في قلق دائم من أن تفشل أحلامها أمام خشيتها من الجثث ومن المشرحة ..هي التي لم تعتد أبداً أن تتعامل مع أي شيء يمت بصلة للموت ،صار عليها لو أردات أن تنجح ،وأن تتعلم كيف تتعامل مع الموتى بجرأة وشجاعة.
كانت تموت هلعاً لو ألقى أخوها الصغير نحوها بصرصار ميت ..بل وكاد قلبها أن يتوقف يوماً ،حين اتجهت في منتصف الليل في أحد الأيام إلى الحمام لتطأ بقدميها العاريتين شيئاً ما.. نظرت إليه حينها،ولم تتبين ماهو في الضوء الشاحب ..وحين أضاءت مصباح الردهة ..اكتشفت ماهو ،فأطلقت صرخة مريعة قبل أن تفقد وعيها..
لقد كان فأراً ميت ..
كانت أمها قد وضعت من أجل اصطياده السم في بعض بواقي وجبة الدجاج التي التهموها ذلك اليوم، ولا بد أنه لم يدرك الشرك الذي نصب له فالتهم الطعام المسمم ؛ليموت على الفور..المشكلة أنه قد اختار المكان الخطأ ليموت فيه، فكادت أسماء أن ترقد بجواره ميتة من الرعب ..
أيضا لم تنسَ كيف فارقها النوم لأيام عدة، حين ماتت جدتها ودخلت إلى حجرتها لتلقي عليها النظرة الأخيرة ..أصابها الهلع حين رأت كيف شحب وجه جدتها ،وتغضن وكساه لون أزرق مخيف ..ظل هذا الوجه يطاردها في أحلامها ،ولايفارق مخيلتها لزمن طويل بعدها..
كانت طبيعتها تتصادم مع رغبتها في دراسة الطب ..حتى أن والدها حاول أن يثنيها برفق عن دراسة الطب ،ملوحاً لإمكانية أن تتجه لدراسة شيءآخر لا مكان فيه للدماء أو الموتى ..لكنها أصرت على دخول كلية الطب ، مؤكدة لنفسها ،ولكل من حولها أنها قوية ولن يرهبها شيء من هذا ..
اليوم جاءت مبكرة ..وكان هذا هو يومها الثالث في الكلية ..في اليوم الأول لم يكن هناك شيء إلا محاضرة تعريفية بنظام الدراسة في الكلية ،وبالمواد المطلوبة منها ..يوم خفيف وهدوء ماقبل العاصفة.
في اليوم الثاني كانت البداية المرعبة.. ثلاث محاضرات تمهيدية وثقيلة بحق للمواد الدراسية وباللغة الإنجليزية ..كانت هناك عشرات المصطلحات الغامضة التي لم تفهم منها شيئاً ..لكنها كانت متحمسة بالرغم من إحباط الكثيرين من حولها في نهاية اليوم ..
كل شيء صعب في بدايته ،وسأعتاد هذا مع الوقت ..هكذا طمأنت نفسها..
كانت الساعة الآن السابعة والنصف،ومازال الوقت مبكراً للغاية، فمحاضراتها لن تبدأ قبل التاسعة ..فبدت الكلية في حينها هادئة ومريحة بلاصخب أو زحام.
كانت في قرارة نفسها قد قررت أن تواجه مخاوفها اليوم .. واتخذت قرار خطيراً..ستذهب اليوم إلى المشرحة !
أخبرها بعض زملائها الأقدم سنّاً أن الجثث موجودة بها الآن بالفعل .. فقررت أن تكون مواجهتها الأولى مع الجثث بالمشرحة بمفردها..كانت ترغب في أن تختبر نفسها..هل سترتعد من مرآها؟.. أم ستحتمل الأمر ، ولن تخشاها؟..
لم تكن ترغب في أن يكون أحد ما معها في مواجهتها الأولى هذه.. خشيت أن يصدر منها شيء ما، كأن تصرخ مثلاً أو تفقد وعيها فتصير أضحوكة بين زملائها ..
لهذا لتكن مواجهتها الأولى بمفردها ،وليكن حينها ما يكون ..
لهذا جاءت اليوم مبكرة ،واتجهت بخطوات مرتبكة إلى المكان الذي أخبروها أنه المشرحة ..
من بعيد ،وقبل أن تصل إليها ،وصل لأنفها رائحة الفورمالين النفاذة .. فاضطرت أن تخرج منديلها وتغطي أنفها به.. بلغت الباب، ورمقت ببصرها اليافطة الخشبية المكتوب عليها (المشرحة) بانفعال وإثارة وتردد، قبل أن تمد يدها الرقيقة نحو الباب الزجاجي لتطرقه .. انتظرت للحظات أن يجيبها أحد ما.. وحين شعرت أن وقتاً طويلاً قد مر بعدما طرقت الباب ، دون أن يجيبها أحد، طرقت الباب مرة أخرى بقوة أكبر،وقد خشيت أن لايكون بها أحد ليدخلها ،فتنتهى مغامرتها قبل أن تبدأ..
لاحظت أن الباب استجاب لطرقاتها هذه المرة فانزاح للداخل قليلاً ..دفعته برفق ففتح باتساعه أمامها كأنما يرحب بها ويدعوها لأن تدخل ..أدخلي يافتاة ..لا شيء بالداخل لتفزعي منه ..
مدت رأسها للداخل فلم تر أحداً في الرواق الطويل .. استرقت السمع لبرهة فلم تسمع شيء.. هل يوجد أحد هنا ؟..
دلفت بعدها المكان بتردد ورهبة فلم يقابلها أحد، لاحظت أن رائحة الفورمالين قد صارت أقوى الآن ،ومثيرة لأنفها ومقلتيها بعنف ،حتى أن عينيها أخذت تحرقانها بشدة ،وبدأت دمعات ساخنة في التسرب من محجريها.. انتهت الردهة التى تسير بداخلها إلى قاعة المشرحة ..كانت مضاءة بأضواء شاحبة لمصابيح نيون كساها الغبار ،ولاحظت أن نوافذها المرتفعة مغلقة ..تطلعت الى المناضد التى ترقد فوقها الجثث المغطاة أمامها، فارتجف قلبها للحظة ،وفكرت في التراجع ،وقد زاد السكون الذى يحيط بها في رفع توترها ..
حاولت التماسك، فهمست لنفسها مشجعة ،ومغالبة رغبة هادرة بداخلها تدفعها للتراجع:
-إما الآن وإما لا للأبد ..تقدمي يا أسماء ،ولاتكوني جبانة ..ستندمين للأبد لو تراجعت الآن.
شعرت أن عبارتها لم تزدها شجاعة ،وأن قدميها قد التصقتا بالأرض أكثر الآن، دون أن تطاوعاها على التحرك للأمام خطوة واحدة..مرة أخرى حدثتها نفسها، وألحت عليها أن تعود أدراجها ،وأن تعاود الكرّ ة في وقت آخر ..ربما كان الأفضل لها أن تاتي بإحدى زميلاتها لتكون معها أول مرة ..إلا أن صوت عنادها اندفع من أعماقها صائحاً فيها بغضب :
-مما تخافين يابلهاء إنها مجرد جثث ..ماهم إلا بشر نائمون كما يقول بابا..تقدمي الآن أو اعترفي لنفسك أنك جبانة وضعيفة.
استجمعت شجاعتها ،ودفعت قدميها الملتصقتين بالأرض بإصرار للأمام دفعاُ ..واتجهت بخطوات مترددة إلى أقرب الجثث إليها ،ثم توقفت أمامها لأكثر من دقيقة محبوسة الأنفاس من الإثارة والترقب، وبأصابع رقيقة متوترة ومرتجفة، مدت يدها إلى الغطاء الذى يغطي الجثة، ثم ببطء شديد بدأت ترفعهُ وتزيحه عن الجسد المسجى أمامها..
كانت متوترة للغاية، وراح قلبها ينتفض بعنف، وشغف في قفصه الصدري ، وهي تنظر الى الجثة ..لدهشتها كانت جثة فتاة شابة..بل وكانت فتاة جميلة للغاية ..لاحظت أن لونها لم يكن يشبه كثيراً لون جدتها القاتم الذي رأته على وجهها حين ماتت..كان وجه الفتاة أمامها مازال محتفظا بنضارته ، وإن شابه بعض الشحوب ..
كان وجه فتاة نائمة لا أكثر ..أهكذا نصير حين نموت؟ ..
تأملت جمالها المبهر فشعرت بالأسى من أجلها ..كان وجه هذه الفتاة يشي بأنها لا تكبرها إلا بأعوام قليلة ..لابد أنها امتلكت في يوم من الأيام أحلاماً كأحلامها ،هل ياترى حققت بعض أحلامها ،أم أن الموت قد فاجأها قبل أن تفعل ..شعرت بالشفقة عليها ؛لأنها أتت إلى هنا لينتهي بها الحال ممزقة مشوهة تتناقلها عشرات الأيدي، وتعبث بجسدها مئات الشفرات الحادة .. تخيلت نفسها مكانها ..بالتأكيد لم تتمن أن يصير هذا مصير جسدها لو ماتت فجأة ..كان مصيراً مؤلماً ..ما الذى أتى بهذه الفتاة إلى هنا ياترى ؟!..تمنت لو تعرف.
تذكرت فجأة ما أخبرها زملاؤها القدامى أن الجثث تكتسب لوناً بنياً باهتاً كأوراق الصناديق الكارتونية، نظراً لحفظها بالفورمالين ..لم يشبه وجه هذه الفتاة الصور التي تخيلتها للجثث المحفوظة ..ربما لم يَعْدُوها بعد؟ .. وجدت نفسها تتحمس أكثر ،فمدت يدها إلى وجه الفتاة لتلمسه ..
كانت ترغب في أن تقتل الخوف بداخلها من مرأى وملمس الجثث .. وجدت نفسها تغمض عينيها بقوة، ويدها تمتد نحو وجه الفتاة الميتة لتلمسه..شعرت يداها بملمس الجلد الناعم ..كان لايخلتف كثيرا في ملمسه عن ملمس بشرتها ..وكان الجلد دافئا ..
وحين فتحت عينيها ،وجدت أن العالم قد تغير تماماً عما قبل .. كانت الجثة التي أمامها قد فتحت عينيها ،وراحت ترمقها بثبات وابتسامة ساخرة تتلاعب على شفتيها ..
كانت أسماء فتاة رقيقة ..وكان من الصعب أن يحتمل قلبها الصغير شيئاً كهذا أبدا ؛فتوقف لأول مرة عن القيام بواجبه الأزلي ولم يعد يدق ، ولم تشعر بعدها بأي شيء ..
وكان هذا من حسن حظها !
أنت تقرأ
ألجثة ألخامسة
Mystery / Thrillerعم منصور بصفتين رئيسيتين .. أن الرجل هو أهم شخص طوال العامين الأولين الطب إن لم يكن جميعهم.. وما وهو خازن الأسرار ..