18

276 22 0
                                    

لقد ولت الأيام الطيبة لتفسح للأيام التعيسة مكانها ..

هكذا فكر رئيس المباحث الرائد محمد وهدان ،وهو يرمق بحنق جثة الدكتور شريف الراقدة أمامه على أحد مناضد المشرحة ،وقد اكتسبت بشرتها لوناً بنياً، لايختلف عن باقي الجثث المجاورة ،وتم حفظها بالفورمالين هي الأخرى .

راقب خبراء البحث الجنائي الذين انهمكوا مرة أخرى في البحث عن أي دليل قد يقودهم إلى الفاعل ..شعر أنهم لن يصلوا لشيء هذه المرة أيضاً، تطلع إلى ساعته؛ فأدرك أن الطبيب الشرعي ،ووكيل النيابة قد تأخرا كثيراً .. كان ينتظرهما منذ ساعة أو أكثر ،ولم يأتِ أيهما بعد..

أخرج سيجارة من علبة تبغه، وراح يحركها بين أنامله للحظات، ثم وضعها بفمه وأشعلها ،وأخذ ينفث دخانها بعصبية ،وأفكار كثيرة تتصارع في عقله ؛ فشعر بالإجهاد ..

لقد اقترن به سوء الحظ هذه المرة، فَأُلقيَ في طريقه جريمتي قتل غامضتين في مكان واحد، ويفصلهما أسبوع واحد..كان أمامه شهور قليلة قبل الترقية الجديدة التي حان موعدها، لم يكن ليحتمل الآن مفاجأة من أي نوع قد تعوقه عن الحصول عليها..عليه أن يزيح هذا الغموض، وأن يصل إلى القاتل ؛ وإلا صارت ترقيته في مهب الريح ..

تكاثفت سحب الدخان الرمادية حول رأسه ،وهو يفكر، هل ولت الأيام المبهجة التي كانت قضايا القتل فيها نمطية بلا ألغاز حقيقيه..من قبل كان المتهم دائماً موجوداً ،وكان يعلم كيف يوقعه، ويدفعه لأن يعترف بارتكاب الجريمة ..لو كان القتيل شاباً ابحث عن الزوجة والعشيق ،ولو كان رجل أعمال..فحتماً هناك عشيقة ما في الخفاء أو شريك أو منافس..إنها الجرائم التي اعتادها ويعرفها، ويعرف بحدسه كيف يصل إلى الفاعل فيها دون عناء حقيقي.

لكن الأمر هاهنا يختلف..إن جريمة مزدوجة كهذه تمت بهذه الصورة الغامضة لن يصلح لها أسلوب التلفيق ..كان من السهل أن يتهم أحد عمال المشرحة بفعلها ،وبالتأكيد سينجح في إجباره على الاعتراف بفعلها ..لكن من يضمن له أن القاتل الحقيقي سيكف عن جرائمه بعدها مكتفياً بمن قتلهم..فلو لم يتوقف القاتل الحقيقي حينها، وارتكب جريمة جديدة ، فسوف يبرئ هذا المتهم الذي لفق له التهمة ..وحتما لن يكون موقفه أمام رؤسائه مقبولاً ..

وجد نفسه يلقي عقب السيجارة دون أن ينتهي منها تحت حذائه ،ويدهسها بعنف ،وهو يتمتم :

-اللعنة !

انتبه في تلك اللحظة إلى وكيل النيابة الشاب، الذي اندفع بخطوات سريعة إلى داخل المشرحة ،وقد بدت علامات الترقب على خلجاته، ثم توقف لحظة في منتصف القاعة الواسعة ،مسحت خلالها عيناه المكان المكتظ برجال الشرطة ،والمعمل الجنائي، ثم تلاقت عيناه بعيني الرائد محمد، فاتجه إليه ،وهو يقول بانفعال:

-قتيل آخر بالمشرحة؟! ..ما الذي يجري هنا بالضبط؟!.

تنهد الرائد محمد ،وأومأ برأسه مؤكداً ، ثم غمغم، وهو يشير بإصبعه، إلى جثة الدكتور شريف الراقدة على منضدة على يمينه :

- هذه المرة القتيل هو معيد بالقسم ..كان بالمشرحة بالأمس حيث كان يقوم بإعداد الجثث، ويبدو أنه لم ينهِ عمله في موعده ،فاستمر بالمشرحة بعد انصراف الجميع ،إلى إن اكتشفوا جثته في الصباح ..

اقترب الاثنان من الجثة محاذرين الاصطدام بأحد رجال البحث الجنائي الذي ركع على ركبتيه متفحصاً أرضية الحجرة بعدسة في يده..

كشف وكيل النيابة الغطاء عن وجه الجثة ،فطالعه وجه التصقت به صرخة صامتة ،وعيون جاحظة مفزوعة..ولاحظ اللون البني الذي اكتسبه، ورائحة الفورمالين القوية التي راحت تفوح منه ،فغمغم بشيء من عدم الراحة :

-ومن اكتشف الجثة هذه المرة ؟.

-أحد عمال المشرحة أيضاً ،تماماً كما حدث في المرة السابقة، كان متولي هذه المرة ،إنه أحد الاثنين اللذين احتجزناهما في المرة الماضية..

أومأ وكيل النيابة برأسه متذكراً ،ومال رأسه نحو الجثة ،وغمغم مغالباً رائحة الفورمالين القوية التي تثير أغشية أنفه المخاطية وتحرقها:

- إنه محفوظ هو الآخر بالفورمالين..يبدو أن لدينا هنا قاتل يهوى التشريح؟

- أظن أن هذا يضيق دائرة البحث عن القاتل..إنه بالتأكيد أحد العاملين هنا بقسم التشريح..ربما يكون أحد الأطباء وربما أحد العمال..فحقن الجثتين بالفورمالين هكذا ،يشير أن القاتل له خبرة بطريقة حفظ الجثث ..

أشار وكيل النيابة بإصبعه نحو باطن يد القتيل اليسرى ،وهو يقرب إصبعه من جرح قطعي عميق دون أن يلمسه، وضاقت عيناه متفحصة إياه وهتف :

-وهل لاحظت هذه الإصابة ،يبدو كجرح حديث، اعتقد أنه قد تم بفعل آلة حادة.

انحنى الرائد هشام بجواره، وهو يتطلع إلى الإصابة العميقة التى بدت حوافها غير منتظمة في ساعد القتيل الأيسر ؛بالرغم من اكتسابها لوناً داكناً بفعل الفورمالين ،وقد برزت بعض أنسجتها المتهتكة ، وقال :

-لقد رأيتها بالفعل ..لكنني لا أظنها تفسر وفاته..جرح كهذا لن يقتله أبداً.

هزّ وكيل النيابة رأسه موافقاً ، وقال، وهو يعتدل :

-لكنها ربما تدل على مقاومة القتيل لقاتله ..إن الطبيب الشرعي هو من سيخبرنا كيف تم هذا الجرح.

وانتبه حينها إلى خلو المكان من الطبيب الشرعي ،فقال بدهشة:

-لكن أين الدكتور هشام؟.. ألم يستدعه أحد ؟!.

-لقد أرسلت بالفعل في طلبه..لقد حدثتهم في مصلحة الطب الشرعي ، فأخبروني أنه في معاينة خارجية، لحادث طريق، فأرسلت إحدى سياراتنا إلى مكان الحادث لجلبه.

ضاقت عينا وكيل النيابة ،وهو يتفحص المكان متأملاً ..لاحظ الكرسي المقلوب، وأدوات التشريح المبعثرة أسفل إحدى المناضد التى عليها جثة ما، والتي انهمك بعض خبراء البحث الجنائي في تصويرها قبل أن يجمعوها بحرص محافظين على البصمات الموجودة بها ،ثم وضعوها بأكياس بلاستيكية للتحفظ عليها ..

أخرج علبة سجائره من جيبه، وتناول سيجارة منها قدّمها للرائد محمد، فتناولها شاكراً ، ثم أخرج واحدة أخرى، ووضعها في فمه، وأشعلها ،وهو يقول للرائد محمد:

-مارأيك لو إنتظرنا بالخارج قليلاً ..الرائحة هنا كريهة للغايه، وقد بدأت أشعر بالاختناق من هذا المكان .

رافقه الرائد محمد للخارج شارداً ، وتوقفا أمام باب الحديقة الخلفي للمشرحة ، فحمل إليهما بعض النسمات الباردة التي أنعشتهما، وبددت من أنفيهما رائحة الفورمالين الخانقة ..وراح كل منهما يتنفس بعمق، وارتياح لطرد الرائحة الخانقة للفورمالين من صدرهم ، وغمغم وكيل النيابة:

-إننى أتعجب من قدرة الأطباء والعمال على الحياة وسط هذه الرائحة المريعة للفرومالين ،والجثث المتحللة ..إنني أشعر بالغثيان الشديد من هذه الدقائق القليلة التي قضيتها بالداخل.

-لابد أنهم قد تعودوا عليها ..وإن كنت لا أفهم كيف يتعود إنسان على رائحة كهذه..إنها سيئة بالفعل.

-أوافقك في رأيك هذا ..ومن الصعب أن يتعود أحدنا على شيء كهذا..لابد أن الأطباء يمتلكون أنوفاً غير التي نمتلكها ليحتملوا هذا.

صمت بعدها لينتهي من سيجارته ،وعاد ليحدث الرائد محمد قائلاً :

-اعتقد أنك تتفق معي في أن قاتل هذا الطبيب والطالبة هو نفس الشخص..لا أعتقد أنه قاتل آخر.

أومأ الرائد محمد موافقاً :

-إنه حتما نفس القاتل .. لقد كرر مافعله بالمرة الأولى حرفياً هنا..أتعجب من رباطة جأشه التي تجعله يفعل جريميتن في نفس المكان في أسبوع واحد ..ألا يخشى هذا أن يفتضح أمره مثلاً؟..

-أرى أن الأكثر عجباً أن يقوم ذلك القاتل بقتل ضحاياه، وبعد ذلك يحفظ جثههم بالفورمالين..لماذا يفعل شيئا كهذا؟ .. هذا مالا أفهمه؟!...

-أخشى أنه يفعل هذا ؛ليحيرنا، ويسخر منا ..وربما كان مجنوناً ، ولهذا يقوم بتلك الأفعال الغير مبررة .

سطعت في عقل وكيل النيابة فكرة ملحة وغريبة في الوقت نفسه.. ترك عقله يقلب فيها للحظات قبل أن يعرضها على مفتش المباحث قائلاً :

-أتعلم فيما أفكر فيه الآن يا محمد بك؟

تلاقت عيناهما للحظة ،وهزّ الرائد محمد رأسه منتظراً إجابته ؛ فأكمل وكيل النيابة ببطء،كأنما يختبر وقع استنتاجه عليه:

-قاتل متسلسل..

تصلب وجه الرائد محمد بدهشة ،وردد :

:قاتل متسلسل !..قاتل متسلسل في مصر !.. لم يحدث شيء من هذا القبيل من قبل ،الحادثه الوحيدة التى نذكرها في هذا الشأن هي «رايا وسكينه»، وإن كنت لا أعدها قتلاً متسلسلاً ..كانت قتلاً من أجل السرقة.

قالها ،وراح يتذكر ما درسه من قبل في الكلية عن حوادث القتل المتسلسل ..كانت محاضرة مملة لم يشعر بأن لها أهمية ما، وخاصة أن عقله قد استبعد من البداية أن يواجه في يوم من الأيام قاتلاً كهذا ..

لكنه مازال يذكر ماقاله المحاضر عن انتشار تلك الجرائم في أحياء، وأزقة المدن الأوربية، وبخاصة في نهايات القرن التاسع عشر وبدايات القرن العشرين..القاتل فيها إما أن يكون مهتزاً نفسياً أو سادياً عنيفاً .. وضحاياه يكونون في الغالب من المومسات ،أو أطفال الشوراع ،أو العجزة المرضى ،والمشردين ..وغالباً ما يميل القاتل إلى اتباع سلوك متكرر في جرائمه .. كان مازال يذكر أسماء عدة ذكرها المحاضر كأمثلة لهؤلاء القتلة؛ مثل جاك السفاح ، و تيد بندي..لكنه نسي الآن تماماً ماذا فعلوا بالضبط ..

ومازال يرفض أن يتخيل أن تحدث جرائم كهذه في مصر ..إنها جرائم يحلو لبعض كتاب الصحف المتأنقين التحدث عنها، وقصها للقراء لإثارة دهشتهم..وزيادة توزيع جرائدهم..لكن الواقع يقول إنه لامكان لحوادث كهذه في مصر.

لكن وكيل النيابة كان مصرّاً على فكرته، فأكمل بحماس :

-إن كل مانراه هنا يقودنا نحو هذه الفكرة بالرغم من غرابتها..لدينا قتيلان في مكان واحد ،لارابط بينهما ..ولادافع واحد لقتلهما ..ثم يحدث عبث بالجثث بعد قتلها ..ألايوحي لك هذا بأننا قد نكون إزاء قاتل مختل عقلياً أو قاتل متسلسل؟.. ألا يوحي لك حقن القتلى بالفورمالين بعد موتهم أن القاتل يتبع في فعله الطقوس نفسها ..

بدت الفكرة بالرغم من غرابتها ،وعدم تقبل عقل الرائد محمد لها منطقية كثيراً ..فقال بتوتر:

-لو كان قاتلاً متسلسلاً فعلاً فنحن في ورطة .. إننا لم نواجه شيئاً كهذا من قبل ،ولاخبرة لنا في التعامل معه ..

-ستكون ورطة بالفعل ..فالقاتل هنا قد يكون أي واحد ممن حولك ..قد يكون عامل المشرحة ،وقد يكون رئيس القسم نفسه .. وغالبا من الصعب أن تتوقع من يكون أو أن توقعه ؛لأنهم غالبا ما يتميزون بثبات نفسي رهيب يبعد الشكوك عنهم تماماً ، وعليك حينها أن تنتظر مصادفة ما أو خطأ يرتكبونه كي توقعهم.. الحظ هنا هو سلاحك الأول في مواجهة قاتل كهذا.

تنهد الرائد محمد بعمق ،وحمل وجهه تعبيراً مبهماً من الحيرة والقلق ..كان يتمنى بداخله ألا يكون استنتاج وكيل النيابة صائباً ..ليس هذا وقت القضايا المعقدة الصعبة..نريد القاتل الأحمق الذي يكاد وجهه يصرخ «أنا القاتل»

حاول أن يبعد الفكرة عن عقله ،لكنها كانت ملحة كذبابة صيف لعينة..قاتل متسلسل !..أيكون هذا ما يواجهه حقا؟!..

ألجثة ألخامسةحيث تعيش القصص. اكتشف الآن