شعر عبد الدايم أن ساقيه عاجزتان عن حمله ،فاستند بيده على الحائط المجاور له كي لا يسقط، كان يخشى دائماً كل ما يمت للسلطة بصلة ، وكان يهاب الشرطة بشدة.. خشى أن يتم توريطه بصورة ما في جريمة القتل هذه ..وظلت الأفكار السوداء تراوده ،بينما كان يقف في الردهة الطويلة لمبنى النيابة في انتظار الإدلاء بأقوله في جريمة قتل الطالبة ..
انتبه إلى صوت يناديه باسمه ..كان الجندي الواقف على باب وكيل النيابة يدعوه للدخول ، فتحرك بأ قدام لينة كأعواد المكرونة نحو الحجرة..
لم يدعوه وكيل النيابة للجلوس ،بل تركه واقفاً ، وعيناه الضيقتان الحادتان ترمقانه بنظرات نافذة حادّة، لدقيقة أو أكثر ،ثم إلتقط سيجارة من علبة كانت أمامه على المكتب ،وأشعلها بولاعة أنيقة ،ثم بدأ ينفث دخانها ببطء دون أن يرفع عينيه عنه ..
تصاعد التوتر بداخل عبد الدايم حتى أن حبّات من العرق البارد بدأت في الاحتشاد على جبينه..هل يقصد وكيل النيابة أن يحطم أعصابه بصمته الطويل هذا ،ونظراته المليئة بالاتهام ؟ ..لو أن هذا مأربه، فقد نجح.
في النهاية بدأ وكيل النيابة في توجيه الأسئلة ..بدأ بأسئلة روتينية عن اسمه، ومحل إقامته وعن عمله بالمشرحة وغيرها ..أخذ عبد الدايم يجيب عليه بثبات محاولاً ألا يتلعثم ، أو يرتبك..
لايجب أن يبدو مضطرباً أو مريباً في إجاباته .. وإلا شكوا فيه وارتابوا في أمره...
بعد ذلك سأله وكيل النيابة :
-حسناً ؟ أخبرني الآن كيف اكتشفت الجثة ومتى ؟
ابتلع عبد الدايم ريقه بسرعة ،وقد شعر أن مرحلة الأسئلة الصعبة قد حانت؛ فأجاب محاولاً أن يكون دقيقاً ومحدداً :
- لقد حدث هذا في الصباح ..كانت الساعة الثامنة تقريباً ..وصلت للمشرحة ،ووجدت بابها مفتوحاً ..اتجهت في البداية إلى حجرتنا ،فلم أجد بها عم منصور أو متولي ، توقعت أن يكونا بالداخل لشأن ما، فاتجهت لقاعة التشريح ، وهناك رأيت جثة الفتاة راقدة على إحدى طاولات التشريح..كانت على أول طاولة في قاعة التشريح ولم يكن فوقها ملاءة أو غطاء ما ..لقد كانت واضحة تماماً ولم يكن من العسير ألا ألحظها.
-ألم تشكّ أنها إحدى جثث المشرحة وخاصة انها كانت محفوظة بالفورمالين ولاتختلف كثيراً عن باقي الجثث التي حولها؟
-لم يكن هذا ممكناً ..أنا اعرف الجثث الخمس الموجودة بالمشرحة ..كما أنّ هذه الجثة كانت مازالت بكامل ملابسها والجثث الأخرى عارية تماماً ..كان من العسير أن أخطأها،وألا أدرك أنها لاتنتمي للمكان.
-وهل لاحظت حينها أي شيء غير طبيعي في المشرحة، شيئ ما في غير مكانه مثلاً..أشياء مبعثرة بجوار الجثة..أتذكر شيء من هذا
-لا ..لقد كان كل شيء في مكانه ..الشيء الوحيد الغريب هو تلك الفتاة .. أقصد جثتها..كانت على طاولة المفترض أنها كانت فارغة .
-وماذا عن جثة الفتاة محفوظة بالفورمالين ،هل وجدت بجوار الجثة أي شيء يدل على حقنها بالفورمالين..محاقن مثلاً ..آنية ..سوائل ..أشياء كهذه.
حاول عبد الدايم أن يتذكر..كانت ذاكرته قوية منظمة طالما إفتخر بها..كان من اليسير عليه أن يتذكر أي شيء حدث له ،حتى لو كان هذا منذ زمن بعيد ،ولهذا استطاع أن يستحضر بسهولة من ذاكرته، كيف وجد الفتاة ..لم يكن بجوارها أي شيء فقال بعدها واثقاً :
-كلا ..لم يكن هناك شيء من هذا..كانت تلك الجثة راقدة على المنضدة ..ولاشيء بجوارها على الإطلاق.
-وماذا فعلت حين وجدت الجثة ؟
-أسرعت حينها إلى أمن الكلية لأخبره ،كي يتصل بالشرطة،واتصلت بالدكتور نعيم لأخبره.
هزّ وكيل النيابة رأسه بتفهم، وصمت للحظات أخذ خلالها يعبث في ولاعة سجائره دون أن يخفض عينيه عن عبد الدايم الذي أخذ يتحاشى نظراته .. بعد هنيهة عاد وكيل النيابة لأسئلته وهو يقرأ إسمين من ورقه أمامه :
-لقد ذكرت أن منصور ،ومتولي لم يكونا بالمشرحة حين أتيت ..أكان طبيعياً أن يغادرا المشرحة، ويتركانها مفتوحة هكذا ؟
-الطبيعي ألا نغادر المشرحة قبل أن نتأكد من إحكام إغلاقها .. وكان من المفترض أن يكونا بالداخل حين ذهبت ..لقد قضيا ليلتهما بها ليحرسانها ، لكني لم أجدهما حين جئتها..
-إذا فقد تركا المشرحة قبل أن تأتي ،ولابد أن سبباً ما قد دفعهم لذلك .. برأيك ماذا قد يكون قد حدث؟.
-لست أدري ..
صمت وكيل النيابة مرة أخرى ،واستمر بالعبث بالولاعة الحديدية لفترة ،ثم نظر إلى عيني عبد الدايم مباشرة ،وقال ببطء:
-في الآونة الأخيرة هل حدث شيء ما غير طبيعي بالمشرحة، لك أو لأحد زملائك ..هل لاحظت أمراً ما غير طبيعي في المشرحة ،أو رأيت غريباً ما يحوم حول المشرحة.
هنا ارتفعت نبضات قلبه أكثر ..تردد عبد الدايم للحظة، وفكر ..هل يخبره ماحدث له بالمشرحة، أم يكتمه في نفسه.. لكنه في النهاية حسم أمره، وقصّ عليه ماحدث له.
ارتسمت ابتسامة استخفاف على وجه وكيل النيابة ،وقال ساخراً :
- لقد أفدتنا كثيراً ياعبد الدايم بقصتك هذه ..على العموم إننا نتوقع منك أن تبادر بإبلاغنا بأي شيء تراه أو تسمعه ،وتظن أنه قد يفيدنا في هذه القضية ..أليس كذلك؟ وعده أن يفعل ،ولأنه لم يكن هناك ما يدينه فقد أمر وكيل النيابة ،بإخلاء سبيله..
بعدها تم التحقيق مع حارسي أمن البوابة ..لم يضيفا الكثير ،فقط ذكر الأول أنها قد أتت في الصباح بعد السابعة بقليل وذكر الآخر، وكان هو المسؤول عن الباب الخلفي للكلية، أشار إلى أن عم منصور ومتولي قد غادرا الكلية بعد صلاة الفجر مباشرة ،ولم يرهما يعودان مرة أخرى..وأضاف الحارس أنهما بديا في عجلة من أمرهما، وكانا مرتبكين للغاية ؛بدت المعلومة مهمة وخطيرة ، فوجد نفسه يفكر إن كان منصور ومتولي قد فعلاها..أم أن هناك أمرا آخر قد دفعهما إلى ترك المشرحة في وقت مبكر كهذا ..
انتبه للرائد محمد وهدان الذي دخل عليه في تلك اللحظة .. رحب به، و أشار إليه بالجلوس ،وهو يقول له:
-أتمنى أن يكون الحظ قد حالفك، وتوصلت إلى شيء ما.
أجاب الرائد محمد بإجهاد وإبتسامة باهته تزين شفتيه:
-لا شيء على الاطلاق..لا أصدقاء لها بالكليه ..وقد تعرف عليها حارس الأمن بالكلية حين عرضت عليه صورتها ،وأخبرني أنها كانت أول من أتى في الصباح من الطلاب ..كان هذا بين السابعة والسابعة والنصف صباحاً تقريباً.
-لقد اخبرني بهذا بالفعل ،والجريمة قد اكتشفت في حوالي الثامنة ..إذن فقد تمت الجريمة في مدة لاتتجاوز النصف ساعة ..ألاتجد أن هذا عسير التصديق.
-إنه كذلك بالفعل..إننا نتحدث عن جريمة قتل ،يقوم فيها القاتل بحفظ الجثة بالفورمالين بعد قتلها ،ويقوم بعدها بإزالة آثار الجريمة، ثم يعيد كل شيء كما كان في المكان.. من المستحيل أن تتم جريمة كهذا مهما كانت مهارة القاتل، أو حتى عددهم لو كانوا عدة أشخاص في نصف الساعة..أمر كهذا بحاجة لعدة ساعات على الأقل كي يتم بهذه الصورة التي رأيناها.
-إنه أمر محير بالفعل..و واجبنا ان نكشف سر كل هذا الغموض.
قالها وكيل النيابة بإحباط،وخيّم الصمت للحظات بينهما،بعدها عاد ليقول :
-وماذا عن أهل الفتاة ؟..هل أخبروك بشيء ما قد يفيدنا ؟..
-حالهم في منتهى السوء ..الأم منهارة للغاية ،والأب كذلك ، إلا إنني استطعت التحدث إليه.
رمقه وكيل النيابة الشاب باهتمام وانتظر أن يكمل،فاستطرد الرائد محمد:
-هو يؤكد أن ابنته قد غادرت المنزل في السادسة والنصف بصحبته ، حيث يقوم بتوصيلها بسيارته إلى الكلية كل يوم ، وقد وصلوا إلى الكلية قبل السابعة بدقائق ،فتركها أمام باب الكلية قبل أن ينصرف.
-إن هذا يؤكد رواية الشهود ،ويؤكد توقيتنا المحدد للجريمة ..لكن ألم يخبرك لماذا جاءت مبكرة هذا اليوم؟.
-يظن أنها ربما أرادت حجز مقعد في الصفوف الأمامية في مدرج المحاضرات.. لقد أخبرته قبلها أن المدرج يكون مزدحماً للغاية ويجب أن يأتي الطالب الذي يبغي مقعداً متقدماً مبكراً قليلاً.
-هذا محتمل .. لكن علينا أن نعلم هل ذهبت إلى المشرحة من تلقاء نفسها أم أن هناك من دفعها لذلك ..ألم تعلم منه إن كان يشك في أحد ما قد يفعل هذا ..أو اعداء له قد يقومون بأمر كهذا ؟..
-إنه لايصدق أن هذا قد حدث لإبنته..إنه لايتهم أحداً وذكر مراراً أنه لا أعداء له ..
- وماذا عن عاملا المشرحة اللذين غادراها دون سبب مقنع تلك الليلة .. ألم تصلوا إليهما بعد؟
-هناك من ذهب لإحضارهما ..لكن هل تعتقد أنهما قد يكونا الفاعلين؟
-لقد غادرا المشرحة قبل حدوث الجريمة بوقت طويل، وهذا يبعد الشبهة عنهما..لكني أظن أن لديهما ما قد يفيدنا في قضيتنا هذه ..عليهما أن يفسرا لنا لماذا غادرا المشرحة هكذا وكأنهما يفران من شيء ما بِهِمَا ..ربما رأيا شيئاً ما قد يفيدنا أن نعلمه في قضيتنا تلك ..
أنت تقرأ
ألجثة ألخامسة
Mystery / Thrillerعم منصور بصفتين رئيسيتين .. أن الرجل هو أهم شخص طوال العامين الأولين الطب إن لم يكن جميعهم.. وما وهو خازن الأسرار ..