16

260 23 1
                                    

مر أسبوع كامل، و لم يحدث خلاله أي شيء غير طبيعي بالمشرحة .. قرر مجلس القسم لمادة التشريح خلالها ، مد فترة الدراسة النظرية للطلاب، قبل السماح لهم ببدء الدراسة العملية على الجثث بالمشرحة ..

راح الجميع خلال هذا الأسبوع يترقبون أن يحدث شيء ما بالمشرحة .. لكن بعد أن انتهى هذا الأسبوع بهدوء دون أن يعكر صفوه شيء ما ، قرر الدكتور نعيم رئيس القسم بدء إعداد الجثث للدراسة ..

كان الأمر يقتضي تشريح أجزاء بسيطة من الجثث في البداية ، وليس كما يتخيل البعض بأنه يتم تشريح الجثة بأكملها مرة واحدة ..

فمثلاً ،يدرس طلاب الفرقة الثانية الرأس والعنق ؛لذا يقتضى الأمر في البداية إظهار بعض الأعصاب والأوردة والعضلات لهم مع عدم المساس بمساراتها الأصلية ؛كي يرى الطالب بعينيه وضع ومسارات هذه الأنسجة الصحيح بالجسم ..كما يدرس طلاب الفرقة الأولى في البداية الطرفان العلويان .. وهذا يقتضي تشريح هذه الأجزاء فقط..

كان من يقوم بعملية التشريح هم المعيدون القدامى بالقسم و ليس الطلاب بالطبع..الجثث قليلة للغاية ومن العسير تعويضها لو أتلف طالب ما جزء منها، لذا لايقوم الطلاب بالتشريح إلا فيما ندر.

بداخل قاعة المشرحة إلتفّ ثلاثة معيدين حول الجثث من أجل تشريحها ..كانت عملية شاقة لاتحتمل أي خطأ..فالقاعدة هنا صارمة للغاية ؛إياك أن تمزق أو تغير من مسار أي عضلة أو عصب أو وعاء دموي ..عليك أن تكشفه، وتظهر مساره بحرص ثم تتوقف ..

كان الثلاثة هم ،الدكتور شريف ،والدكتور حاتم ،والدكتورة زينب، و راح كل منهم يعمل بمفرده على إحدى الجثث.

قال حاتم مازحاً بطريقته الساخرة التي اعتادها زملاؤه، وهو يمسح بـ كم البالطو الأبيض الخاص به حبات من العرق تفصدت - معنى تَفَصَّدَ : سَالَ عَرَقُهُ، رَشَحَ، تَقَطَّرَ - على جبهته بسبب الحر ورائحة الفورمالين الخانقة التي تحيط بهم:

- لم أتخيل حين دخلت الكلية أن ينتهي الأمر بي هكذا..كنت دوماً أرى نفسي طبيبا منهكماً بإنقاذ عشرات الأرواح في وقت واحد وحوله عشرات الممرضات ينتظرن أوامره ..والآن إنتهى بي الأمر بالعمل كصبي جزار في هذه المشرحة.

ابتسمت زينب لدعابته، وقالت دون أن تنظر اليه، وهي تبحث بعينيها عن أفضل نقطة يظهر من خلالها أحد أوردة الرأس في الجثة التي تعمل عليها:

- ومن الجزارون إذا ،مادمت أنت الصبي ؟..

- أطباؤنا العظام بالقسم بالطبع..أبناء أبي الهول ياعزيزتي .. هل ترين جزارين حولك غيرهم .. كلنا هاهنا ياصغيرة جزارين ،لكننا نختلف عن الآخرين بأننا ببدلة أنيقة ،ورباطة عنق لطيفة.

أطلقت زينب ضحكة خافتة، في حين قطب شريف حاجبيه بضيق، وقال له جاداً ، وهو يتوقف عن عمله ويلتفت نحوه :

-ألا تكف مرة واحدة عن السخرية من الأساتذة الأجلّاء هاهنا..أنت تتصرف دائماً كطالب خائب ،لايجيد إلا السخرية من معلميه ،كي يداري فشله وبلادته. رد عليه حاتم بلهجة ساخرة على الفور :

-لن أفعل ،قبل أن تكف أنت عن لعب دور الطالب المتملق لأساتذته ؛كي يصل الى مآربه..

رمقه شريف بعصبية ،وقد احتقن وجهه ،وقال بغضب، وهو يلقي بأدواته الحادة التى يعمل بها فوق المنضدة الرخامية التي أمامه :

-أنت تعلم أنني لا أتملقهم ولا مآرب لي عندهم ..إنني أحترمهم، وأقدر علمهم ،وإذا كنت تفسر الاحترام تملقاً ؛ فأنت مريض وفي مشكلة حقيقية.

- أحقاً لاتفعل ولاتتملقهم؟!..يبدو أنني قد اخطأت الحكم عليك يارجل ، وهذا يعني أن علي أن أعتذر إليك، أرجوك لا تخبرني أن علي أن أفعل.

هنا اشتعلت شياطين الغضب كلها في وجه شريف..ورمق حاتم بنظرات نارية ،وفكر للحظة أن يتشاجر معه قبل أن يتمالك نفسه، وينهض بغضب، ثم ركل مقعده بقدمه ؛فسقط بصوت مدوى ،وغادر المشرحة ،وهو يهتف بحنق:

- أنت بالفعل إنسان لا يطاق ..ويوماً ما سوف ترى أيّنا سيعلو شأنه ،ومن سيظل كما هو دائماً ولن يتغير.

كان يكره جداً أن يصف أحد ما أسلوب تعامله واحترامه الشديد لأساتذته بالقسم بالتملق والنفاق..إنهم أساتذته ومعلموه..ألم يمدحهم الله في كتابه حين قال «إنما يخشى الله من عباده العلماء»، أفلا نعطيهم نحن حقهم في الاحترام والتقدير لمكانتهم ..كان دوماً يبوح لزملائه بهذا الكلام المنمق الرائع .. لكن هل كان حقاً يؤمن بما يدعيه؟..

كان في أعماقه يدرك أنه بالفعل يتملقهم ،ويتودد إليهم لأسباب آخرها هو احترام مكانتهم العلمية كما يزعم..كان يتطلع لأن يصل إلى أعلى درجة ممكنة له في أقصر وقت ..وكان يرى أن طريق النفاق هو أقصر الطرق جميعاً ..

إنه الطريق المباشر للارتقاء منذ بداية الحياة، وحتى نهايتها ..إن تاريخنا يعج بالمنافقين منذ الفراعنة ..ألم ينافق الشعب فراعينه فعبدهم ؟..أن النفاق ليس مذموماً دائماً مادام لن يضير احد ما به ..

كان يرى أن أمثال حاتم هؤلاء حمقى يَئِدون مستقبلهم المهني بأيديهم .. من المستحيل أن ترتفع مكانتهم، بسخريتهم ومزاحهم هذا ..

لكنه كان يكره من يشعره أنه يعي مايجول بنفسه ..وكان حاتم أحد هؤلاء.. كان يحنقه تفوقه الدائم عليه ..فترتيبه في الكلية دوماً كان يسبقه ،وسرعة استيعابه كانت مثيرة لحنقه..

كان يشعر بالتعري أمامه مهما حاول أن يتسلح بأقنعة مزيفة..كان هذا سبباً حقيقاً لكراهيته له، و كان هناك سبب آخر يحاول جاهداً ألا يدركه أحد ..

كانت بينهما زينب..الدكتورة زينب الوكيل.. الفتاة التي يحلم بها ويتمناها، ويشعر أنها تنتمي لعالم حاتم ..

كان يثير جنونه أن يسخر منه حاتم أمامها .. ويود أن يمزقه بأسنانه لو لمح ابتسامة ترتسم على محياها من سخريته منه.. لذا كان دوماً ،إما أن يتشاجر معه ،أو يحدثه بأسلوب عنيف،محاولاً تسخيف دعاباته وأفكاره ..هذه المرة لم يرغب في أن يتطور الأمر إلى شجار، لذا اختار أن يغادر المشرحة، ولينتظر حتى ينتهيا من عملهما، ليعود ويكمل عمله هو الآخر..

بالداخل توقفت زينب عن عملها، واعتدلت على كرسيها، ورمقت حاتم بإعجاب، وهو منهمك في عمله ..كانت تحب سخريته ،وتهيم بلامبالاته وتعشق وسامته..

كانت مثل هذه الأشياء، تذكرها بأبطال الروايات الرومانسيين، فرسان الأزمنة البعيدة..أما شريف فكان يذكرها دوماً بالموظفين الحكومين، ذلك الصنف الذى يشعرها بالرتابة والملل،كان حاتم هو التجديد والمغامرة، وكان شريف هو الجمود والثبات ..كانا مختلفين ،ولم يكن صعبا على قلبها أن يختار بينهما ..كان فارسها هو حاتم ..

وبالرغم من هذا قالت له معاتبة فور انصراف شريف غاضبا :

-لقد كنت قاسياً معه ياحاتم ..لم يكن هناك حاجة لأن تنعته بالنفاق وتسخر منه هكذا..كان من الممكن أن تتغاضى عما قاله لك.

هزّ حاتم كتفيه باستخفاف ،وهو ينتهي من فصل طبقة من الجلد تغطي وريداً صغيراً ، وقال:

-لكنه ينافق ويتملق بالفعل ،فلماذا التجمل إذن؟!..

-لكنه زميلنا ..وبعض اللباقة في التعامل معه لن تضير.

أطلق ضحكة ساخرة دون أن يتوقف عن عمله، وهو يجيب:

-إنك محقة في هذا..أنا سأعامله بفظاظتي، و عامليه أنت بلباقتك..وهكذا يتحقق التوازن في المعاملة.

ابتسمت، وهي تدرك أنه لافائدة من محاولة إثنائه عما يفعله، فعادت لتواصل عملها ..أخدت تقطع بيديها الأنسجة بمهارة، لكن عقلها كان في كون آخر يمرح فيه .. في عوالم من الجِنان .. عوالم يرسم حدودها حاتم فقط ولا أحد غيره.. وتنهدت بصوت خافت كي لا يلحظ ما يجول بخاطرها.

ألجثة ألخامسةحيث تعيش القصص. اكتشف الآن