8

276 22 0
                                    

بالطبع ماحدث بعدها كان عجيباً .. في الصباح كان عبد الدايم أول من وصل، ليجد أن باب المشرحة مغلقاً من الداخل .. نادى جمال فلم يرد عليه .. تذكر ماحدث له بالأمس فتداعت آلاف الأفكار السوداء أمام عينيه، فأخذ يطرق باب المشرحة بعنف وتوتر .. لكن دون مجيب .. تسمّر بمكانه ، ولم يدر ماذا يفعل ؟.. هل يكسر الباب ؟!..

لكنه خشى أن يكون نوم جمال الثقيل، والذى اشتهر به، هو مايمنعه من فتح الباب، حينها سيكون كسر الباب ضرباً من الحماقة، ولن تجدي تبريراته حينها ..

لكن الاحتمال الآخر المخيف، أن يكون مكروهاً ما قد حدث لجمال بالداخل .. وربما كان في حاجة للمساعدة الآن ..

كان عليه أن يفعل شيئاً ما .. عليه ان يفكر بسرعة، ويقرر ما ينبغي عليه فعله ..

لم يصل عقله لقرار .. لذا استمر في طرق الباب بضربات قوية للغاية ، وارتفع صوته عالياً منادياً جمال عسى أن يجيبه ويستيقظ لو كان نائماً .. وما من مجيب لندائه ..

ومضى بعض الوقت وأتى متولي، الذي بادر بتعجب وصوت الطرقات تدوي صاخبة في ممرات الكلية الفارغة من الطلاب في تلك الساعات المبكرة من الصباح :

-لماذا تصرخ وتطرق الباب هكذا ؟.. إنني أسمع طرقاتك وصراخك هذا منذ دخلت من باب الكلية حتى هنا .. ماذا حدث يا رجل؟..

- جمال بالداخل ولا يرد .. أخشى أن يكون مكروها ما قد أصابه.

-وماذا في هذا ؟.. ربما كان يغط في نومه العميق كعادته، وربما شرب الكثير من الحشيش بالأمس .. أنت تعلم أنه يتناول هذه الأشياء اللعينة، وربما أسكرته وسلبته وعيه .. إنه خرتيت لن يؤذيه أي شيء فلا تقلق .. هيا إبتعد عن الباب، ودعني أجرب حظي ..

قالها، والتفت إلى الباب بعد أن تنحى عبد الدايم جانباً، وأخذ يطرقه بقوة، ويصيح بأعلى صوته على جمال منادياً ، لكنه لم يكن أكثر حظاً من رفيقه، فلم يجيبه غير الصمت، وقال عبد الدايم متوتراً بعد دقائق:

- أرى أن نكسر الباب الآن .. إن هذا كثير ، ولابد أن مكروهاً ما قد أصابه بالداخل .. مستحيل أن يظل نائماً بعد كل هذه الضوضاء التي قمنا بها .. ورفض متولي إقتراحه بلا تفكير، و قال معترضاً على الفور :

-إياك أن تفعل .. ربما سبب لنا هذا بعض المشاكل مع رئيس القسم ، أنت تدري كم هو عنيف وعصبي، ولسنا بحاجة لمواجهته .. أرى أن ننتظر قليلاً ، ونفكر في حل آخر .

ولم يكد يقولها، حتى ظهر عم منصور قادماً من بعيد، يسبقه دخان سيجارته .. حياهم، وهو يرمقهم بدهشة، وقال متعجباً:

-لماذا تقفون هكذا ؟..هل حدث شئ ما؟..

وأجابه متولي بسرعة، وهو يشير لباب المشرحة:

-إن جمال بالداخل، و لايستجيب لندائنا ولا لطرقنا على الباب .. يبدو أنه قد أفرط في شرب الحشيش بالأمس .. لابد أنه قد فعل هذا.

هنا تبادل عم منصور مع عبد الدايم نظرة قلقة ذات معنى، وقد تبادر إلى ذهنه ماحدث لعبد الدايم بالأمس، فأخذ يطرق هو الآخر الباب بشدة، منادياً على جمال في نفس الوقت، ولكن مرة أخرى أجابه الصمت ..

في النهاية توقف يائساً ، والتفت إليهما، وقال بتوتر:

-إنه بالفعل لايرد، أيكون مكروهاً ما قد أصابه ؟.. ماذا تقترحون أن نفعل ؟.. هيا أخبروني !.

-أرى أن نحطم الباب .. هذا هو الحل الوحيد.

أجابه عبد الدايم .. وفكر للحظة ثم وافقه مغمغاً :

- يبدو أنه لامفر من القيام بهذا ..دعونا نفعل.

إلا أن متولي أسرع مرة أخرى يقول معترضاً:

- أرى أ لا نتسرع في فعلٍ ما، وأن ننتظر قدوم أحد الأطباء من القسم ليقرر هو ماعلينا أن نقوم به، حتى لاتكون هناك مشكلة ما مع الدكتور نعيم.

- يا أحمق إن جمال بالداخل لا يرد، ولا ندري ما أصابه، وأنت تطالبنا ألا نفعل شيئاً، فقط لأنك تخشى الدكتور نعيم .. اصمت بالله عليك وإبتلع لسانك، وإلا حطمت رأسك قبل الباب، سوف نفتح هذا الباب اللعين مهما كانت العواقب.

قالها عم منصور بحزم وتوتر وبصره معلق بالباب المغلق .. وفجأة قال عبد الدايم، وحل ما يرتسم في مخيلته:

-نافذة الحمام الخلفية.

التفت إليه الاثنان، فأكمل بحماس :

- يمكننى أن أدخل خلالها .. إنها صغيرة، ولكنى أستطيع أن أحشر جسدي خلالها.

كانت فكرة جيدة، فقال له عم منصور بأمل:

- إذاً أسرع يارجل وافعلها يا ولد .. الرجل لايرد ولاندري ما اصابه بالداخل.

اختفى عبد الدايم من أمامهم، فانتظر الاثنان بترقب أن يفتح الباب ، ولم يمض أكثر من ثلاث دقائق حتى كان عبد الدايم يفتح لهما الباب من الداخل، فدلفوا المشرحة مسرعين .. لم يجدوا جمال بالغرفه .. كان بابها مفتوحا ، لكن لا أثر له ..

اتجهوا إلى قاعة التشريح، لكنه لم يكن هناك أيضاً .. وقال عم منصور بتوتر، وهو يتلفت حوله ، وعيناه تجوبان المكان:

- أين تراه قد ذهب ذلك الأحمق .. لا أثر له في كل مكان، وهو لم يتبخر بالتأكيد، إذا أين يكون ؟!..

وانتبه متولي لشيء ما، وهو ينظر إلى المناضد التى ترقد عليها الجثث، فقال ببطء وحذر:

-كم عدد الجثث بالمشرحة ؟

أجابه عم منصور ، وهو ينظر إليه بدهشة:

-إنها خمس .. لماذا تسأل؟!..

أشار متولي بيد مرتعشة إلى المناضد التي رقدت عليها الجثث، وقال بصوت مخنوق :

-لكن الجثث ها هنا ست ..

وتحولت أبصارهم على الفور إلى المناضد التي تحوي جثثاً مغطاة لتحصيها .. كانت ستاً بالفعل .. اضطربت قلوبهم بشدة، وشعر عم منصور بالحمض الحارق يتصاعد إلى فمه، ليملأ أنفه برائحته النفاذة، وهاجس مخيف يلح على عقله ..

أيكون جثمان جمال هو الجثة الجديدة السادسة ؟..

تجمدوا في أماكنهم للحظة ،دون أن يفعلوا أي شيء، إلا أن عم منصور أخرج نفسه بسرعة من جموده، وهتف فيهم، وهو يتجه إلى أقرب منضدة منه ليفحصها :

- لا تقفوا هكذا كالأصنام .. تحركوا وافحصوا كل منضدة، لنرى من أين أتت الجثة السادسة.

واندفع كل منهم إلى أقرب منضدة منه، وكشف غطاءها، ولم يكن بها غير الجثث القديمة ،فاتجهوا الى الصف الثاني ...

كان جمال راقداً بالمنضدة الآخيرة، وكان متولي من وجده، فأخذ يصرخ برعب حين كشف الغطاء، لتصطدم عيناه بوجه جمال الشاحب..

أسرع نحوه الاثنان، وكشفوا باقي الغطاء عن زميلهم، وصاح عبد الدايم بهلع :

-يا إلهى.. هل مات ؟!

لاحظ عم منصور أن صدره يعلو ويهبط ببطء ،فقال وهو يحيط جسده بذراعه ليحمله :

- إنه مازال يتنفس .. لا تتسمروا هكذا .. هيا ساعدوني لنخرجه من هنا.

أسرعوا بحمله، وإتجهوا الى حجرتهم، فأرقدوه على الفراش، وأخذ عم منصور يضربه ضربات قوية على جبهته وخديه ليفيق ،وهو ينادي عليه .. إلا أنه لم يستجب .. كان أسيراً لغيبوبة عميقة تقاوم بإصرار محاولاتهم لإخراجه من سيطرتها .. فهتف عبد الدايم بقلق :

-ألا يجب أن نذهب به إلى طوارئ المستشفى ليسعفوه؟.

كاد عم منصور أن يجيبه بالموافقة ،لولا أن ارتفع صوت من خلفهم متسائلاً :

-من الذى تريدون أن تذهبوا به إلى المستشفى ؟.. هل هناك مصاب ما هاهنا ؟..

كان الدكتور حاتم أحد المعيدين بالقسم هو الذي يسأل .. وأجابه عم منصور بلهفة، وهو يشير بيده نحو جسد جمال الساكن أمامهم:

-أنجدنا يا دكتور .. لقد وجدنا جمال فاقداً لوعيه هاهنا، وهو لا يستجيب لمحاولتنا لإفاقته ..

واندفع الدكتور حاتم نحو الجسد الهامد، وبدأ على الفور في إفاقته .. تحسس أوردته فلاحظ نبضه السريع الضعيف وتنفسه الثقيل .. فتح مقلتيه ،متأملا بؤبؤ العين للحظة.. بدا متسعا ، فقال بحيرة:

-ليأتني أحدكم بجهاز الضغط والسماعه من الحجرة الآخرى.

خرج عبد الدايم ليجلب ما طلبه، وعاد بهما في أقل من الدقيقة .. فتناولهما الدكتور حاتم منه، وأكمل فحصه،وعيونهم معلقة به بترقب وقلق ..

كانت نتيجة فحصة سلبية .. لم يجد خللا عضوياً يفسر تلك الغيبوبه .. لذا فقد أخذ يضغط على جبهته ،وصدغيه ضغطات مؤلمة حاثاً مراكز الألم في مخه على تنشيط جهازه العصبي كي يفيق، وهو يردد قائلاً:

- هيا يارجل ..كفى دلعاً ، واستيقظ .. إن كل شيء بك على مايرام.

ومضت لحظات من الترقب قبل أن يسعل جمال .. فتح عينيه بوهن ، وراح ينظر إليهم بتوتر وحيرة، محاولاً استيعاب ما يجري حوله، ثم قال بدهشة حقيقية:

-ماذا يحدث هاهنا ؟!.. ولماذا ترمقونني هكذا ؟!!..

ماذا هناك ياعم منصور؟!..

لكن أحدا منهم لم يجبه .. فقد ألجمهم القلق وأخرسهم.

ألجثة ألخامسةحيث تعيش القصص. اكتشف الآن