وقف امام باب غرفتها يتنفس بعمق كأنه يستعد لحرب.
حرب مؤلمة عنيفة يخوضها كل يوم فيصاب فيها بجرح جديد ويخرج منها بقلب عليل فليس هناك وجع اكثر من وجع اب علي ابنائه وهي الأن وحيدته.
ابنته الغالية الوحيدة.
عليه ان يكون اكثر شجاعة وقوة في مواجهة البلاء.
عليه ان يصبر حتي يجازيه الله خيرا ويشفيها.
عليه ان يدعي ان رؤيتها تجلس كتمثال شمعي او تنام كجثة مفتوحة العينين لا يقتله...
عليه ان يحدثها ولا يتوقع اجابة.
عليه ان يتمسك بأمل شفائها وعودتها للحياة في يوم ما قريب.....
عليه ان يدخل الغرفة الأن كمحارب باسل يضع اجمل ابتسامة علي وجهه ويجلس علي المقعد بجوار الفراش ليحدثها كما امره طارق الطبيب الذي يعالجها والذي اخبره بثقة انها تسمعهم ويجب ان يحدثوها كل يوم ويشعروها انهم بجوارها...ورغم ان هذه الاستجابة كان في العادة لطارق وملاك فقط لكنه لم ييأس فيعود كل يوم ليخوض الحرب ضد ابنته لعله ينتصر يومو ويحصل هو الأخر علي استجابة منها يحدثها عن اي شيء تفاصيل يومه ذكرياتهم القديمة معا ذكرياته مع ورود الكبيرة اي شيء ثم تنتهي الحرب اما بصمتها المهيب كأنها لا تشعر بحضوره من الأساس او بنظرة ضائعة هي كل رد الفعل الذي تملكه حاليا لا شيء غيره.
لقد كانت هذه الحرب من تخطيط الطبيب الشاب جارها ذاك والذي يبدي اهتماما ملحوظا لها ورعاية خاصة اكثر بكثير من مجرد طبيب لمريضته او جار لجارته اهتمام جعله يفرغ وقتا كل يوم لأجلها بل ويتفق معه ومع الفتيات الثلاثة علي ان يحضرو علي الأقل واحدة كل يوم لتتحدث معها في اي شيء وعن كل شيء.
انه يريدها ان تشعر بوجودهم بحبهم واهتمامهم كما اخبره، والحق يقال لقد كانت طريقته فعالة وذلك الوقت الذي ينفقه عليها كل يوم اتي ببعض ثماره فهي بدأت تقبل تناول الطعام علي الاقل.
نفس عميق اخر ثم رسم ابتسامة شاحبة علي وجهه ودخل الي الغرفة يبحث بعينيها عنها لكن عينيه استقبلت وجه اخر .
وجه يسكن حنايا قلبه...
وجه اسمر بملامح حادة كأنها مرسومة علي لوحة وابتسامة مشعة تغلف قلبه بدفئها..
ابتسامة لم تفشل يوما في اغراقه اكثر واكثر في حب صاحبتها....
تحولت ملامحه الحزينة لأخري تموجت السعادة عليها... الفرحة تلون عينيه وابتسامته اصبحت حقيقية وحروف اسمها تخرج من بين شفتيه كتنهيدة راحة..
:- ورود.
:- تروحلك فدوة.
قالتها بهمس اخترق قلبه يزلزل كيانه ويعيد تشكيل قطعه المشتتة ويبعث الراحة في كل جنباته.
تقدم اليها بخطا كأنها تتسابق حتي تصل اليها رغم قرب المسافة وابتسامتها الدافئة الواسعة تستقبله كما زراعيها المفتوحان لأجله.
زفر الهواء الذي يملئ صدره ليستنشق هواء اخر معبق برائحتها بدفئها الذي احاطه كما احاطته زراعيها سيبقي طفلها طوال العمر.
ستبقي ورود هي واحته العذبة التي يرتوي منها كلما ضنّت عليه الحياة تطيب جراح روحه برؤيتها وستطيب نفسه بحضورها ويهفو قلبه لنغمة صوتها الذي تشدو به كما الطيور المغردة مسكن طيورها قلبه.
:- اشتقتلك يا غالي ما قدرت اصبر لترجع خليت قاسم يجيبني علي بلدك لكحل عيوني بشوفتك يا بعد عمري.
:- والله ما يكفي الشوق عشان يوصف حالتي يا وردتي.
ربت علي ظهرها بنعومة تلك الحركة البسيطة التي تبثها حنان عظيما يزيد من حبه لها اكثر فأكثر بل كل ما يفعله لها يزيد من حبه الذي اتخم قلبها.
وكيف لا تحبه بعد العمر عمرا وهو الذي تري نفسها في عينيه اجمل نساء الكون ملكة لا يقترب من عرشها احد.
كيف لا تحبه وهو يهدهدها ويدللها كطفلة رغم انها علي مشارف الخمسين من العمر ولها من الولد رجلين تفخر بهم كل قبيلتها.
كيف لا تحبه وهو يعطيها التفهم والمديح والاحتواء ويستمع لشكواها وعصبيتها وحزنها وفرحتها وثرثرتها ويتحملها بكل تلك العيوب التي تتخم روحها.
قبلت كتفه قبلة رقيقة كأنها تشكره لأنه في حياتها لأنه اعاد الأنثي التي بداخلها لتعتلي العرش بعدما حطمها البقية......
لم يكن زواجها الأول شيء تفخر به او قد تفكر بتكراره ابدا بل انها كانت قد اقسمت علي ان تكتفي باولادها قاسم وعثمان الذين رزقت بهم وتعيش لهم حتي توافيها المنية حتي عاد هو الي حياتها في صدفة من صنع القدر.
كأن الله يجازيها خيرا به بعدما عانت الويلات وصبرت.
ستظل تشكر الله علي فضله ونعمه طالما كان لها نفس يتردد داخل صدرها فالرجال الثلاثة في حياتها هم اغلي واعز النعم...
ابتعدت عن زوجها مسافة صغيرة تهديه ابتسامة واسعة اظهرت ذلك الشق الطولي العميق عند خدها الأيسر.
:- وعند بحر وجنتك ضاعت دروبي فمثل جمال خدك ما شافت عيوني.
تخضبت وجنتيها بحمرة الخجل التي لم تفقدها رغم مرور سنوات طوال علي زواجهم لازال غزله لها يعيدها مراهقة صغيرة خجول يترنح قلبها مع كل تشبيه يطلقه علي جزء منها فهو الوحيد الذي يري غمازة خدها اليتيمة كبحر ساحر كما تجود به كلماته.
:- شوفتيها.
اعادت انتباهها اليه حيث اشار الي ابنته التي تقبع خلفهم ونظراتها تقع عليهم مشوشة ضائعة.
هزت رأسها له وهي تجيبه بحب وعينيها تنتقلان من ملامحه الي ملامح ابنته.
:- بتشبهك.
امتلئت عينيها بحب وهي تتابع بنفس الابتسامة..
:- لها من حب جلبي نصيب عشانها بتشبهك ان شاء الرحمن هتكون بخير صدقني وقريب كمان.
اهدي زوجته الواثقة الحنونة ابتسامة واسعة ثم احضر مقعد اخر في طرف الغرفة ليضعه بجوار المقعد المجاور لفراش ابنته وجس واجلس ورود الكبري ينقل عينيه بين اجمل وردتين في عمره واغلي نساء العالم في نظره ومن امتلكتا قلبه مناصفة فلا مكان لسواهما....
ابتسم لورود الصغيرة وقد تحولت حربه اليومية لشيء ممتع وهو يعرفها علي ورود الكبيرة ويقص العديد من الذكريات التي شاركته ورود في القائها ورغم جمود الأصغر عمرا بينهم ونظراتها الشاردة الا ان انفعال صغيرا بدأ يمر علي وجهها مع مرور الدقائق.
انفعال كان حربا أخري تقودها ابنته ولا يعلم ايهم عنها شيئا.
••••••••••••••••••••••••••••••••••••••••••••••••••••••••••••••••••••••••
تسللت الاصوات اليها عبر ذلك الظلام الذي هي فيه فتطلعت حولها تحاول رؤية صاحب الهمسات المتداخل تحاول تحديد الصوت ومصدره لكن لا شيء سوي الظلام هو كل ما قابلها.
انها خائفة تختنق داخل ظلام معتم وقد فقدت صوتها الذي يأبي الخروج لتنادي شخص ما ليساعدها..
خائفة من ضياعها وصدي صوت الناس من حولها يتردد مخيفا يشعرها بالرهبة كأنها فقدت كل حواسها الا السمع المشوش وتقف في منتصف تجمهر لا تعلم اين تذهب او كيف تتصرف او كيف تطلب المساعدة.
عاد الهمس اعلي هذه المرة واكثر وضوحا والصوت يتضح لها صوت عزيز شاركها الكثير من الحديث، الضحك، الشجار، والمشاكسات.
صوت عزيز احاط بها كشرنقة دافئة وسط سقيع مظلم يحارب عنها الظلام ويتسلل اليها باعثا الراحة بين جنبات صدرها يهدهد الخافق بين ضلوعها لعله يهدئ من رعبه.
حاولت التحدث..
حاولت الصراخ.
حاولت ان تناديه حتي همسا لكن صوتها ابى ان يطيعها فظل عالقا داخل حنجرتها وعينيها تبحثان عنه ولكن لا شيء سوى الظلام يحيطها...
احتضنت نفسها تستمع لصوته حتي تسلل النعاس الي عينيها لتغفو علي نغمات صوته العميق وكلماته المشجعة.
انها قوية ستحارب الظلام وتحطمه وتعود الا النور مرة أخري لكن حينما تستيقظ من النوم...
لقد سرق منها النوم صوته...
حينما عادت الي الظلام البارد المخيف بعدما كان النوم يخطفها داخل وادي من الحلم الذي اقترف فيه صوته بملامحه الحبيبة، وجدت ان صوته اختفي وعاد الرعب يموج بين جنباتها انها ليست شجاعة وقوية كما قال انها...
عادت الأصوات مرة أخري لكن هذه المرة كانت تتضح شيئا فشيئا صوت ملاك الناعم الذي يبدو كغناء منغم وكلماتها الدافئة التي كانت تلقيها لساعات بدون ملل حتي انها غنت لها ذات مرة...
وصوت حياة التي كانت تثرثر لها الكثير من الأحداث وحتي انها شاركتها همسا نوع الجنين الذي تحمله واخبرتها انه سر تخبئه عن اياد وتمارا وملاك وسيف...
وتمارا التي كانت تمازحها تارة وتثرثر تارة..
لأيام ظلت تنتظر تلك اللحظات التي تستمع فيها لأصواتهم الحبيبة التي تحيط بها وسط الظلام فتحول سقيعه لدفء ناعم وتقلل من تلك الرهبة التي بداخلها .
طارق وصوته الرنان المشجع وكلماته التي يداعب بها وعيها ورغبتها في كسر قيود الظلام لتتحرر حتي تتمكن من رؤيته.
وصوت والدها الذي فقدته منذ سنوات ولا تعلم هل هو حقيقة ام محض خيال منها لكنها تسمعه لكثير من الوقت يشجعها ويحكي لها الذكريات هل هو محض خيال بالفعل؟.
لقد كانت تحارب كل يوم حتي تستطيع العودة اليهم والهروب من الظلام من الخوف....
لكن اليوم كان مختلفا لقد بدأ بزيارة من طارق الذي بثها الكثير من التشجيع ومن بعده ملاك والذي لم يكن هذا يومها لكن صوتها الكئيب الذي تسلل اليها اعلمها ان ملاك ليست بخير ومع كل كلمة تحكيها ملاك كان شيء من ذلك الظلام يتصدع لقد كان قلبها ووعيها يثوران لأجل صديقتها التي شاركتها مأسيها وكانت داعما لها دوما لقد ارادت ان تراها تواسيها تضمها ايها وتخبرها ان كل شيء سيكون بخير ارادت ان تعود من هذا الظلام لأجل ملاك.
ملاك التي كانت معها كلما احتاجتها .....
تمنت لو تستطيع اخراج صوتها من كهفه لعلها تواسيها لكن الصمت ظل يخيم عليها والظلام يتكاسف مع مقاومتها كأنه يزيد الخناق حولها حتي لا تهرب وتفلته وزاد الشعور بالعجز والرفض لوضعها .
ومع رحيل ملاك اتاها صوت غريب اعاد الخوف الي قلبها صوت امرأة غريبة تلاه صوت والدها ومحادثة طويلة بينه وبين المرأة الغريبة محادثة كان يوجهها لها صوته يصل اليها محملا برياح الذكريات السعيدة..
لقد كان سعيدا مع زوجته تلك والعجيب ان هذا اسعدها وزاد من تلك القوة التي ماجت داخلها علي هيئة رفض للمكوث في الظلام اكثر خاصة مع رحيل اصواتهم وحلول الصمت من حولها...
انها لا تريد البقاء وحيدة...
انها تختنق تريد الخروج من هنا شعرت كأنها تركض في الظلام تضرب الجدران بعنف وهي تحاول كسر الظلام الذي يحيط بروحها مع تسلل الاصوات بعيدا عنها لتبقي داخل عتمتها وصمتها تحاول الصراخ غضبا وقهرا وخوفا تحاول ان يخرج صوتها للعلن لعلهم يعودوا اليها ولا يتركوها داخل هذا الظلام المرعب بمفردها لكنها محض محاولة لم تنتج سوي ألم جسدي حاد كأنها ضربت الجدران الحقيقية .
كانت تنتفض امام اعينهم كأنها تحتضر وكل خلية فيها ترتجف كأن تيار كهربيا يسري عبر خلاياها .
كان والدها ينادي الأطباء بسرعة وجسده يشارك ابنته انتفاضتها حتي وان اختلفت الاسباب بينما ظلت ورود الاكبر سنا بجوارها متسعة العينين برعب لا تدري ما الذي يمكنها فعله ...
لكن قلب الأم داخلها ابى ان تظل صامتة متباعدة فاقتربت من فراش الأخري تمرر كفها ببطأ علي رأسها تتمني لو تهدئها ولو قليلا وقد ألمها قلبها لأجلها ولأجل زوجها الذي شحب لونه وامتلئت قسماته بالرعب لأجل ابنته.
حضر الطبيب بسرعة واخرجهم من الغرفة ظل يقطع الممر ذهابا وايابا بينما هاتفه علي اذنه يتصل بالوحيد الذي يمكنه ان يأتي ويطمئنه..
وعلي الرغم من تأخر الوقت لكن لم تمر عدة دقائق حتي حضر يركض عبر الممر متجها الي غرفة ورود وقلبه علي وشك التوقف رعبا وما ان وصل الي الغرفة التي يقف امامها كامل شاحب الوجه وبجواره امرأة انيقة جميلة الملامح تربت علي كتفه وعينيها تترقرقان بدموع التأثر..
هتف بحدة لم يقصدها نتاج للرعب الذي يتخلله.
:- ورود مالها...
اشار والدها للباب الذي خرج منه الطبيب بصمت وهو لا يعلم حتي ما يمكنه قوله او كيف يسأل الطبيب عن حالها كأن لسانه يأبي التحرك لكن طارق تحرك يحدث الطبيب بسرعة ليستفهم منه سريعا قبل ان يدخل الغرفة وقد بدت ملامحه أكثر ارتياحا مما جعل زفرة حارة تخرج من بين شفتي كامل كأنه ارتاح اخيرا مع وجود طارق ليلقي بنفسه علي المقعد من خلفه ولازالت زوجته الحبيبة تجاوره تطمئنه وتطمئن عليه وعينيها تنتقل بينه وبين الباب المغلق امامهم ولسانها يلهج بالدعاء (سلم يا رب سلم)
••••••••••••••••••••••••••••••••••••••••••••••••••••••••••••••••••••••••
تجاهل الطبيب المنزعج منه لزج نفسه في شؤون مريضته منذ حضرت الي هنا حدج الطبيب بنظرة غاضبة وهو يغلق الباب من خلفه كأنه يخبره انها ليست مريضته هو الا علي اوراق المشفي القانونية وانه موكل من والدها للاعتناء بها وحتي لو لم يكن والدها موافق لم يكن ليتركها ابدا تحت رحمة احد مرة اخري ليس بعد ما اعترفت به تلك الممرضة القذرة التي كانت تحتجزها انه لن يأمن احدا عليها ويقف مكتوف اليدين منتظرا النتيجة انه سيظل معها علي درب الشفاء خطوة بخطوة حتي تعود اقوي مما كانت ومن بعدها سيعتذر منها يطلب السماح...
سيطلب منها ان تقبل حبه وتتقبله داخل حياتها فحياته لم تعد حياة تطاق بدونها......
انه يتحكم في كل خلية في جسده بصعوبة كلما رأها هنا شاردة باردة ومتباعدة...
تنغزه بشرته ليضمها الي احضانه يبعث فيها الدفئ الذي يعلم انها تفتقده...
هز رأسه يبعد هزه الافكار عنه وعينيه تتسابق للبحث عنها وخفقات قلبه القلقة تناديها رغما عنه تنتفض داخل صدره كطائر مذبوح...
وقعت عينيه عليها عند ذلك الركن من الفراش متكورة حول نفسها تضرب بجسدها ظهر الفراش كلما حاول احدي الممرضات الاقتراب منها تزحف بجسدها بعيدا عينيها تناظرهم باتساع و تنطق ملامحه بكل آيات الرعب كأنها تري شياطين بدل من الممرضات بثوبهم الأزرق الأنيق.
حتي مع بعد المسافة بينهم كان يشعر بجسدها المنتفض الذي يتحرك بصعوبة كلما امتدت يد الممرضة اليها تمنعها من ضرب ظهرها بالفراش كأنها ايادي الموت ممتدة اليها لتقبض روحها وليس لتساعدها كان يعلم ما تشعر به وتفكر به كيف لم يلاحظ ذلك الطبيب الغبي انها تعاني من نوبة خوف والسبب ماثل تماما امامها .
هدر بهم طالبا الخروج منهم بحزم وكل ذرة ذوق يتحلي بها كانت مختبئة بعيدا جدا فالمهم بالنسبة له في هذه اللحظة هو ان تشعر ورود بالأمان...
انتبهت لصوته فارتفعت عيناها اليه وانين طويل يخرج منها كأن النجدة قد حضرت لانقاذها اخيرا وعينيه تنظر اليه بلهفة كأنها تخاف ان يكون وهم لكن مع كل خطوة يقترب بها من الفراش وكل كلمة غاضبة يوجهها للمرضات المعترضات علي المغادرة كانت تخبرها تنه حقيقة...
انه ليس خيال غزلته مخيلتها صوته لم يكن عقلها الباطن...
انها ليست وحدها هنا ليست في تلك الغرفة من جديد.
نظرت له كبيرة الممرضات باعتراض لكنه كان اكثر حزما مما تستطيع معه المجادلة...
:- لو سمت اطلعي برة انتي وهما واطلبي من انسة ملاك او مدام تمارا يدخلوا اول ما يجوا....
عاندته الممرضة الكبيرة بينهم بغلظة...
:- لو سحمت يا دكتور حضرتك مش من حقك تدخل هنا و متحاولش تقرب منها لو سمحت يا دكتور هي بتحاول تأذي نفسها اول ما حد يقرب منها حتي.....
توقفت الممرضة الكبيرة عن الكلام وقد اتسعت عينيها حينما تحركت ورود محركة جسدها المنتفض المتشنج تحاول الخروج من الفراش لتكون اقرب لطارق كأنها طفلة صغيرة تستقبل والدها بعد طول غياب لكن جسدها لم يساعدها علي الوقوف او التحرك فكادت تقع عن الفراش خاصة وهي تحاول تفادي ايدي الممرضات التي امتدت للمساعدة لكنه اقترب منها يتشبث بها حتي لا تقع يضمها الي صدره في غفلة عنه وعن الزمن كأن عقله قد تعطل للحظة ثم عاد للعمل كدولاب دوار انها بين زراعيه رأيها محفور داخل تجويف عنقه الصلب تتنفس بلهاث كأنها كانت تركض لألاف الأميال زراعيها تتشبث به اكثر من اللازم حتي ان اظافرها غير المقصوصة قد جرحت بشرة عنقه بدون قصد منها تنهيدة طويلة خرجت من بين شفتيه كأنه اخيرا يستطيع التنفس بعدما كان علي وشك الغرق تسللت رائحتها المليئة بالمطهرات والعقاقير والتي لم تكن هناك رائحة اجمل منها لأنفه بهذه اللحظة فهي مخلوطة بقربها بسلامتها بوجودها.....
كل سيء فيها كان جميلا حتي ولو لون بالمرض فهو ايضا ملون بالحياة...
هي لازالت تتنفس...
هي امام عينيه وبين زراعيه.
لماذا يبدو هذا كحلم لا يصدق.
كأنه لامس النجوم.
لكن هل تقارن النجوم بها؟..
هل تملك النجوم شعرا نحاسيا بدي كحلقات صغيرة فوق رأسها بشكل مضحك داعب خياله في حلم اكبر (ماذا لو امتلك طفلة بنفس تلك الخصلات اللولبية).
حسنا هذا يبدو اروع حتي من ان يكون حلما..
ابتسم بدفئ وقد اختفي كل من حوله فلم يشعر بالممرضات وهن يرحلن عن الغرفة ولا بتلك الانفاس التي كانت تستنشقها المختبئة داخل احضانه تطرب برائحته رائحة المشفي والمرض والممرضات والأدوية تطرد بها الذكريات....
وجوده كان كراحة تتسلل اليها تحت الجلد..
دفء غير مبرر يزحف بخفة ليغمرها...
يكسر حدود الجليد والخوف والظلام يبقيها في الوعي في الواقع...
هي هنا بعيدا عن الغرفة الأخري....
لقد بدت كأنها تحاول التمسك بالحياة عن طريقه كفيها تحيطان عنقه واناملها تحفر ظهره فوق القماش الناعم القطني لقميصه وهو تمسك بها بالمقابل لا يدري هل يهدئ انتفاضتها ام يهدئ قلبه انها بخير....
احتلها الهدوء شيئا فشيء كأنها تخرج من دوامة كانت تصارع فيها من اجل البقاء وما ان اصبحت سالمة علي ارض الشاطئ حتي تركت العنان لمشاعرها لتنهار وقد ظهر انهيارها علي هيئة صرخة...
صرخة طويلة مجروحة متألمة كأنها تتعرض للذبح...
ذبح علي يد شقيقتها...
تلك التي يسري دمها في شراينها...
لقد سلمتها بلا اي رحمة لقتلة...
ويا ليتها قتلتها بسرعة وانتهي الأمر لقد كانت ميتة بطيئة مؤلمة ومعذبة..
لقد كانت تحشرها في زاوية الاكتئاب والعزلة لتقتل نفسها بنفسها...
لقد اصابتها بالجنون....
صرختها كانت خفيضة رغم انها جرحت حلقها صرخة لم تتجاوز حدود الغرفة المغلقة لكنها حرقت قله هو بنيران من الحقد والرغبة في الانتقام...
اراد قتل جيهان ألف مرة لما فعلته بها...
اراد ان يحرق قلب كل من تشبب لها فيما هي فيه كما احترق قلبه لأجلها كأن وجعها ينتقل اليه كصدى لا نقص فيه....
صدي تردد بين قلبيهما بخفقات كاحتضار عصفور صغير......
لم يعلم انه كان يشدد من ضمها الي احضانه ولا انها كانت تتمسك به اكثر بينما قطرات الدموع تسيل من عينيها لتسقي بشرة كتفه ولم يشعر بتلك الكلمات الدافئة الداعمة التي تخرج من فمه بتلقائية كأنها اكثر شيء منطقي في الكون مرسلة غيمة من الراحة والأمان الي عقلها المرهق وقلبها الممزق...
:- انا هنا... انتي بخير يا وردتي اهدي انا معاكي.... كل حاجة هتكون بخير... انتي معايا... مفيش حاجة تخوف... عيطي... خرجي كل الي في قلبك.
تحول الصراخ الشبيه بصوت بصرصور الحقل الي شهقات عالية مع نحيب طال كتمانه داخل قلبها فأصبح كالجمر الذي يتغذي عليه كانت تردد اسمه من بين نحيبها كأنها تتوسل اليه تركها تبكي محترما لحظات ضعفها يشاركها الدعم بتربيتة ناعمة علي ظهرها حتي هدئت واصبحت انفاسها رتيبة نوعا ما وصوتها يخرج اخيرا من حلقها مبحوح غير مسموع لأحد غيره كأنه يخرج من كهف سحيق...
:- ابعدهم عني يا طارق ابعدهم عني..... متخليهمش يموتوني .. مش عاوزة اموت .. ابعدهم عني مش عاوزة اخد ادوية تاني مش عاوزة اموت ..
:- مفيش حد هيقدر يقرب منك خلاص يا ورود انا هنا معاكي محدش هيقدر يقربلك.
هدهدها كطفل صغير بين زراعيه يشاركها همس لا يسمعه غيرها..
:- وحشتيني.. وحشتيني اوي.. انتي كويسة دلوقتي يا ورود انتي قدرتي ترجعي تاني انتي قوية... محدش هيقدر يأذيكي تاني..
همست اسمه من بين شهقاتها بتوسل ضعيف مزق نياط قلبه قبل ان تتابع بخوف وكل حرف يخرج منها مرتجف منتحب ضائع كصاحبته...
:-مش عاوزة انام مش عاوزة ارجع للضلمة تاني.. مش عاوزة ارجع للضلمة انا خايفة... متخليهومش يدوني ادوية تاني متخليهومش يجبسوني في الضلمة.
:- مفيش حد هيديكي حاجه... مفيش حد هيبعدك عني متحافيش انا معاكي.
كان هذا كل ما همسه لها قبل ان يبعدها عنه يجبر عينيها المفتوحتين علي اتساع خوفا من الظلام خلف الجفون ان تنظرا له وما ان وقعت عينيه علي وجهها الجميل رغم الدموع التي تشوهه والجفون الحمراء المتورمة والشعر المبعثر ابتسم لها ابتسامة مرتجفة وقلبه يخفق بعنف داخل صدره لأجلها تأثرا بحزنها وحسنها معا.
:- خرجني من هنا انا حاسة اني هتخنق لو فضلت هنا عشان خاطري ابعدني عنهم .
:- هخرجك حاضر متخافيش محدش هيقرب منك ولا يأذيكي تاني يا ورود انتي نجحتي تخرجي من الضلمة ومش هترجعيلها تاني هتنامي وهتقومي وهتكوني زي الأول واحسن.... انتي شجاعة وعظيمة وقوية يا وردتي انا جنبك ومعاكي والبنات وباباكي وكل الي بيحبوكي معاكي خلاص الي فات كان كابوس وانتهي.... سامعاني انتهي خلاص.
:- انتهي؟!
همست بنعومة كأنها لا تصدق لكنه اكدها لها وابتسامته تتسع...
:- انتهي يا وردتي.
هزت رأسها له كأنها توافقه علي كلماته وقطرات الدمع تتناثر من بين جفنيها عينيها مثبتتان عند خضرة عينيه تغمرها بحنان وثبات تبث فيها قوة وشجاعة عينيه تحميانها ابتسامة شاحبة صغيرة زينت طرف شفتيها فاثارت جنون نبضاته وشفتيه تتسعان بابتسامة هائمة لأجلها عادت تسند رأسها الي كتفه لكن هذه المرة اغمضت عينيها وانفها يستنشق عطره ليبعد عنها رائحة المشفي التي تخنقها ودفئه يبعد عنها السقيع الذي غلف روحها هو محق لقد عادت...
انفاسها اصبحت منتظمة ورقيقة وقد سقطت في النوم.
•••••••••••••••••••••••••••••••••••••••••••••••••••••••••
"
أنت تقرأ
كل الدروب تؤدي اليك
Romance"مكتملة" واطاعت امر عينيه تركض اليه تلقي بنفسها بين احضانه.. تحتضنه بكل ما اوتيت من قوة تستنشق رائحته العطرة كأنها تختزنه داخلها وصوته يصلها دافئا حنونا شجي... :- انا المبتلى بالبعد يا غالية... وما تهوي نفسي غير القرب... ولكن الحياة لا تعطي للف...