الفصل السادس واربعون

452 34 0
                                    

فتح باب المنزل يدخل اليه بهدوء يتسلل الي الداخل بدون اصدار صوت حتي اصبح بالفعل في الداخل.
قابلته جدران منزله الأنيقة بألوانها المريحة  او ما كان منزله قبل اسبوعين  قبل ان تحتله ساكنة قلبه بل اذا اراد ان يكون دقيقا في التعبير فهو من اسرها داخل منزله رافضا عبورها عتبة بابه......
كأنها لا تأسره بحبها منذ سنوات فلا يستطيع الفرار منها...
من ذكرياتها...
من همساتها وكلماتها ودفئها....
انه اسير نفسه وليس اسيرها....
ملاك كانت محقة حينما اخبرته انه من يضع نفسه اجبارا داخل سجنها ويتهمها زورا بحبسه....
كارما لم تكن  تريد يوما ان يحبها ولم تحاول يوم ان تستغل حبه بقدر ما كان هو يجبرها علي استغلال هذا الحب عن طيب خاطر.....
هل عليه تركها ترحل حقا كي يصبح عادلا امام نفسه.
تعود من حيث اتت كفراق ابدي بينهم كي يحرر نفسه من حبها...
ماذا اذا لم يكن يريد التحرر...
ماذا اذا كان رغم البعد والجفاء لا زال يحبها يريد حمايتها....
هل عليه اخبارها ان اكثر ما ألمه من رحيلها هو خوفه عليها...
تلك الليالي التي مرت بينما يتلوى علي فراشه كمن ينام علي جمر مشتعل يرافق السهاد لياليه الطويلة وكل ما يفكر فيه اذا كانت  بخير ام لا.....
هل عليه اخبارها انه رغم تركها له لأحل السعي خلف حلمها الغبي الذي لا يعلم حتي متي اصبح حلمها وهو يتتبع خطاها بشغف كمدمن لا يستطيع التوقف عن تدمير نفسه بيديه..
منذ سنوات حينما اباحت لنفسها الهجر والذهاب وتركه خلفها كأنه لا شيء اكثر من عابر سبيل في حياتها لقد اقسم علي نسيانها وغضب لأيام وبعد الغضب عاد ليجلس  امام التلفاز في الشقة التي تشاركاها قديما في البلد الغربي الذي كانا يعيشان فيه يتابع برنامج المواهب الغربي المشهور المخصص للمواهب الغنائية....
كان يستمع لصوتها بينما تغني بشجن تخرج الكلمات من اعماق  قلبها كأنها تغزل حروف الأغنية لتهديها كرسالة لأحد ما رسالة من فتاة معذبة بالفراق والهجر ....
لازالت كلمات الأغنية التي اختارتها تتردد داخل اذنه... "
"
احتاج اليك واهرب منك وارحل بعدك من نفسي

في بحر يديك، افتش عنك... فتحرق امواجك شمسي

وجهك فاجأني كالأمطار، في الصيف وهب كما الاعصار

والحب فرار والبعد قرار

وانا انا

لا املك ان اختار
حبك يا لهفي تضحيه وعطاءات من غير حدود

وانا لا املك ان اعطي ودروبي امنيه ووعود
امصيري ان امشي وغدي امس...
وغدي امس و احباء و قيود؟؟
حررني رفقاً...انصرني... ساعدني كي اهجر طيفي
ساعدني كي اهجر طيفي
الحب كظلي يتبعني

يعدو بجنون من خلفي من خلفي

وانا اعصارك يعصف بي...يعصف بي

يهدر... يقطفني من صيفي
"
لقد رأي لجنة التحكيم التي ضربت بكفوفها علي الأزرار من اول كلمة قالتها بصوتها الذي حمل كم هائل من التوسل المعاناة والقوة معا في خليط عجيب ابهر من شاهده رغم ان اغلبهم لم يفهموا معاني هذه الكلمات..
لكنه فهم معناها...
ولازال حائرا اذا كانت رسالة منها ام محض اغنية قررتها  ...
ولكن هل يبلغ بها التأثر بمجرد اغنية ان تسيل دموعها الغالي يخدش بحياء اسيل وجنيها.
لمن سالت تلك القطرات الماسية التي تلألأت علي وجنتيها  تحت الأضواء....
لقد تابع بعد هذا كل مقطع غنائي لها علي صفحتها وكل حلقة من البرنامج ظهرت فيها حتي قررت فجأة الانسحاب من البرنامج بلا ادني سبب وقد كانت تأهلت بالفعل للتصفيات النهائية لكنها رحلت...
هربت بعيدا وتركت الحلم الذي هجرته لأجله تاركة قلبه يغلي غضبا وخوفا وحيرة...
لقد رحلت وقطعت اخر خيط يصله بها ...
حتي ظهرت امام باب منزله قبل عشرون ليلة...
اللقاء الأول كان صدمة مشاعره كانت تثور داخله بعنف لا قبل له علي السيطرة عليه...
لقد كان غاضب منها حد قتلها..
مشتاق اليها حد ضمها..
خائف ان تكون محض وهم حد التشبث بها  كطفل يمسك طرف امه...
الخوف والغضب حينما يمتزجان يكونان خليط مريرا قاسيا كحد سيف...
وقد طعنها بهذا الحد قدر استطاعته....
حاول وحاول ان يكون قاسيا سيئا ولكن اقسي ما فعله هو اجبارها علي المكوث هنا ضد ارادتها ورغم انه يأتيها كل يوم لأكثر من ساعتين لكنه يتعمد تجاهلها وشغل نفسه بتفحص الاشياء الناقصة في المنزل ليجلبها لها..
او يتجاهل التحدث معها حتي لو حاولت..
رغم انه لم يفوت فرصة واحدة لسرقة اي لمحة منها يتابع ذلك الكائن الشارد الضعيف الذي اصبحت عليه...
لقد اختفت القوة التي كانت تسكن عينيها واحتلهما الضعف والهوان.
وكسر عنفوانها وحل محله الهزيمة...
تبدو امام عينية كمن طعنت من الظهر...
تلك الغريزة داخله التي كانت تنتفض دوما ما ان يراها رغبة في حمايتها من الألم كانت تحتله كلما لمح تلك النظرة المستسلمة التي اصبحت تعتمدها اغلب الوقت..
كم تمني لو امتلك القوة ليسألها ما الذي قتل روحها لهذه الدرجة...
ما الذي هو قادر علي فعله ليساعدها....
هل عليه تركها ترحل؟  .
عاد لنفس السؤال بينما يتنهد بعنف ثم حرك قدميه ليقترب من غرفتها ذلك الحرم الخاص بها لعله يكحل عينيه برؤيتها حتي يشبع منها....
فليحتفظ علي الأقل بقدر منها حتي لو مجرد صورة مطبوعة داخله قبل رحيلها...
توقفت خطواته بضعف لا لن يكون قادرا علي رؤيتها والذهاب بعدها كأن شيء لم يكن.
عليه الاعتراف انه ايضا لا يستطيع سلبها رأيها في السماح بدخوله الي غرفتها رغم علمه انها نائمة الأن  بل غارقة في النوم بفعل ذلك المنوم الذي تتناوله عادة ليساعدها علي النوم بلا احلام ولا كوابيس وانها لن تشعر حتي بدخوله لكنه لم يستطع فعلها .
ظلت عينيه مثبتة علي باب حجرتها بتمني كأنه لازال يصارع رغبته في الذهاب اليها حتي اغرقته موجة جديدة من الذكريات ذكري  لأول يوم في زواجهم المزعوم حينما ادخلها الغرفة التي خصصها لها داخل منزله ثم ذهب الي غرفته يحاول السيطرة علي جسده و قلبه ومشاعره الذين يفورون كبركان حان وقت انفجاره مطالبين بحبيبة الروح.
وكأن هذا ممكنا....
وهكذا ظل كقطة علي صفيح ساخن  يتقلب بلا سبب علي الفراش يناشد النوم ويرجوه ان يخطفه من افكاره التي تهدد بكسر وعده الصادق لها بوضع حدود بينهم والتعامل  كأصدقاء سكن  حتي كادت الشمس ان تشرق وما ان غافله النوم حتي استفاق فزعا علي صوت صرخات مكتومة اصابت قلبه بسهام الرعب وهو بين اليقظة والنوم لا يدري اذا كانت حقيقية ام محض كابوس لكن مع كل ثانية تمر يتأكد انها حقيقة وتأتي من داخل شقته الصغيرة ليقفز راكضا الي الغرفة الوحيدة المسكونة بالإضافة لغرفته.
غرفة كارما...
تسمر مكانه ما ان خطت قدميه داخل الغرفة  ليجد الأخيرة كمن اصابه مس من الشيطان تنتفض علي الفراش وتتلوي كسمكة في الماء وصرخات وشهقات مكتومة تخرج منها كأن هناك من يكمم فمها والعرق يغزو جبينها مختلطا بالدموع الكثيفة التي اغرقت وجهها....
للحظات ظل متجمدا امام مشهدها الذي مزق صدره بمخالب الخوف و قلبه الذي كان متخما بحبها ضرب صدره بعنف مؤلم كأنه ينبهه ان لا وقت للصدمة انها تتألم وكأنها تحتضر تصرف عقله الذي يندفع دوما لحمايتها منذ اللحظة الأولي التي رأها فيها حتي قبل ان يحبها وامره بالتحرك باتجاهها...
لقد انتزعها انتزاعا عن الفراش الذي كانت تركله بعنف كأنها في مشاجرة عنيفة مع احد اكثر قوة منها..
ومع شهقة الاستفاقة التي اصدرها حلقها بعد ان رفعها  ليضمها الي صدره بدأت في مقاومته هو كأنها تراه العدو الذي كانت تحاربه  لكنه تمسك بها يربت عليها هامسا بكلمات مهدئة بلغته الغربية التي يستعملها دون ارادة في اي موقف انفعالي ومع كل ثانية و كل لمسة  من كفه الكبير علي رأسها وظهرها وكل ضغطة من زراعه التي تثبت جسدها المنتفض  كأنه يزرعها اكثر داخل صدره يكاد يخبئها هناك كانت تهدئ ويتسلل الأمان المفقود اليها شيء فشيء حتي اختفت شهقاتها وصراخها وتوقفت زراعيها عن المقاومة ولم يبقي سوي نحيب ضعيف بائس كان كمطرقة تضرب صدره...
كان يهدئها ويهدئ نفسه في نفس اللحظة.
لا يعلم كم مر من الوقت وهما علي نفس الجلسة وهمسه لها قد توقف ولم يبقي سوي حنان كفه التي تمر كلمسات ناعمة فوق شعرها...
:- كارما.
همس يناديها ليعلم اذا ما كانت قد نامت لكن زمجرتها الخفيضة اعلمته انها مستيقظة...
ارتسمت ابتسامة لطيفة علي وجهه فهي لم تبادر بالابتعاد عن احضانه حتي بعد ان انتهي كابوسها الفظيع وهدئ  خوفها...
لكن ابتسامته تحولت الي احباط وهي تبعده بلطف عنها وتضع بينهم مسافة مرة اخري بينما تهمس له بشكر واه كأنها تطرده بتهذيب لكنه تجاهل المعني وظل هادئ في مكانه لثواني حتي عادت بنظراتها اليه..
:- هل تراودك هذه الكوابيس دوما كارما.
هزت رأسها بنفس لكن تهرب عينيها منه اخبره عن كذبها لهذا عاد يسألها مرة اخري متجاهلا هزة رأسها الكاذبة.
:- نعم تحدث لي كثيرا اتركني بحالي يوسف رجاء اريد النوم.
كان صوتها مجروحا ومرهقا مما جعله يستسلم لتكتمها وتركها ترتاح بعد هذا الفزع رغم علمه انها لن تعود للنوم.
جلس في صالة المنزل بصمت شارد حتي مرت دقائق عليه وهو علي نفس الجلسة حتي وجدها تخرج من غرفتها بشعر مبعثر وعيون حمراء وجهها الأسمر مرهق وجسدها الضئيل مغطى بسروال طويل اسود يزينه مكعبات بيضاء وقميص بأكمام طويلة اسود برسمة مكعب كبير كانت بارعة الجمال كما هي دوما في عينيه جلست بجواره علي الأريكة الواسعة وبالطبع تركت مسافة بينهم رفعت احد سيقانها علي الأريكة تثنيه اسفلها ووضعت فوقه وسادة صغيرة واعادت رأسها الي الخلف وعيونها شاردة في السقف .
تبادلا الصمت لبعض الوقت حتي بدأت هي بالتحدث..
:- تعي نغني يوسف.
نظر اليها ابتسامة مشفقة تحتل وجهه وبدأ يستمع لصوتها بينما تردد احد الأغنيات التي لا يحفظها رغم انه استمع اليها مؤخرا بفضلها ولم تنتظر ان يشاركها الغناء من الأساس .
:- ميل على بلدي لتشوف
كيف البحر بيضحكلك
لتشم تراب بلادي
وترسم عحجاره مجدك
ميل على شاطي حيفا
وخدلك من رمله تذكار
صورة بشوارع يافا
وعلى سورا لعكا مشوار
القدس وشوارعها
وسماها اجمل مكان
ميل عنا
واسال عنا
إحنا للكرم عنوان
واذا بدك تتهنى
الناصرة بتبعث سلام
القعدة بتحلى
مية أهلا
بوجودك حلو الكلام
ميل على وادي عاره
وركوة القهوة عالنار
شرفنا حارة حارة
قلوبنا لعيونك دار
وميل على بلدي لتشوف
كيف البحر
كيف البحر بيضحكلك.
تنهيدة عميقة قطعت غنائها كأنها تتخيل تلك الأماكن التي تتغني بها واهل تلك الأماكن ثم عادت للغناء تتابع ذكر بلادها له فترسم في قلبه صورة دافئة عنها وعن جمالها رغم انه لم يشكك يوما في جمال بلادها فكرما قد خلقت من تراب تلك الأرض فتلونت بلونها الذهبي الرقيق و سكنت اغصان الزيتون عينيها.
:-لفيت بلاد لفيت
ما لقيت بجمالك ما لقيت
ولا حتى جبالك والورد
وعصافيرك بتغني
يابا ليل ليل ليل ليلي
دلعونا بلادي غنيت
وعالميجانا رديت
ودحية تغازل بالدبكة
وعتابا
لحكايا ستي حنيت
ولمتنا بساحات البيت
ورغيف الزيت وزعتر
وشجر الزيتون
ومشيت ياما وشقيت
اغلى من بلادي ما لقيت.
تقاطر الدمع من عينيها مرة اخرى مع نهاية كلماتها التي حملت لها ذكريات جميلة كالخيال لوثتها الحرب بالدماء فأصبت ذكري مريرة تزيد من غربتها وشعورها بالوحدة لقد خسرت كل هذا.
خسرت جدتها ذات الوشاح الأبيض والعباءة السوداء المطرزة يدويا بخيوط حمراء وخضراء التي كان لها ابتسامة تربت علي القلب كدواء شاف لا تقصدها في مشكلة الا وعندها الحل.
خسرت والدتها التي كانت تملك صوتا كتغريد العصافير وصوت جداول الماء في صباح ماطر.
خسرت والدها صاحب الصوت الزاعق والقلب الحنون والاسلوب الحازم.
خسرت شقيقها الاكبر الذي كان كنسخة صغيرة من والدها في الشكل والصفات والحنان الذي يغمرهم به.
خسرت شقيقتها الصغرى التي كانت كملاك جميل ناعم يدللها الرائح والغاد..
خسرت بيتها الدافئ وتلك اللمة بساحات دار جدتها.
خسرت الأرض والزيتون ورائحة بلادها.
لساعات ظلت تحكي له ذكريات كانت يوما ما سعيدة عن حياتها في بلادها...
كانت تحاول التشبث بتلك الذكريات الجميلة لعلها تطرد سواد الذكريات الأخرى ذلك اليوم الذي فقدتهم فيه تحت القصف ...
وظل هو يسمعها بانتباه واهتمام مس قلبها واشعرها لأول مرة منذ فترة طويلة انها لم تعد وحيدة فهو موجود لأجلها علي الاقل حتي الان وقد كافئت وجوده فأخرجت اه كارما التي تحفيها خلف واجهة الفتاة الحديدية المتباعدة الذي يراه الجميع .
لقد رأي يوسف قلبها وروحها المشوهة بنار الحرب والغربة.
عام كامل تشاركا فيه كل ذكرياتها وذكرياته..
تقاسما فيه المنزل والحياة والهموم والمشاكل والانفاس.
عام كشف له عن حقيقة تلك الفتاة التي احبها من بعيد الحقيقة التي اخفتها اسفل ثوب القوة والمقاومة  ...
لقد اظهرت له كارما الحقيقية الطفلة اليتيمة التي تنتفض كل يوما صارخة اثر كابوس من تلك التي تلاحقها عن الحرب...
والتي لا تنام سوي بمنوم يفصل عقلها عن استرجاع الذكريات السوداء ويترك لجسدها ساعات من الراحة..
لقد اعتقد ان هذا العام قد انشأ بينهم رابطة لن تنكسر ابدا وكان مستعدا لمحاربة الكون لأجلها لكنه كان واهما فهي لم تتأثر بما تشاركاه ولو مثقال ذرة واول ما فعلته ما ان لاح ذلك الحلم في الأفق حتي تخلت عنه بلا تردد رغم انه كان ليدعمها لو شاركته رغبتها في هذا لكنها اوضحت بحزم انها تريد الرحيل...
الفراق الأبدي بينهم ولم تنتظر حتي لتودعه.
يتمني لو كان يملك القوة التي تمكنه من نفض حبها والتخلص من علتها وسيطرتها القوية عليه.
لقد تخيل ان السنوات انسته اياها..
وانه لو رأها لن يبقي سوي الكره الذي عاش يغذي نفسه به ولكن بعد رؤيتها ضربه الشوق اليها الخوف عليها ضربه حبها كطوفان جارف وعاد نبضه يتصاعد داخل صدره كأنه يرحب بها كأنه عاد للحياة التي فقدها مع غيابها...
كل الغضب منها الكره الذي مني نفسه انه رفيقه الوحيد في هذه الحرب خانه ورحل ما ان رأي عينيها...
عشرون يوما وهو يفكر حتي اصاب رأسه صداع فتاك لا يكاد يغادره وارهاق من قلة النوم...
يفكر بكلمات ملاك الأخيرة له..
بأي حق يحاكمها ويضع نفسه القاضي والجلاد ويعطي لنفسه سببا ليكرهها..
هل فعلت حقا ما يستحق ان يكرهها لأجله..
تركته ورحلت تبحث عن حلمها بعيدا كأنه لم يكن في حياتها..
كأنه لم يقدم لها قلبه وروحه وحياته علي طبق من ذهب.
هذا هو السبب الذي كان يغذي غضبه عبر السنون ولكن هل يملك ان يلومها...
ألم تخبره ألف مرة انها لا تهتم بحبه ولا تصدقه وانه محض صديق مخلص لها لا اكثر .
انها سترحل في يوم ما الي بلادها ما ان تستطيع..
لقد كانت تردد هذا كل يوم عليه وهو يتجاهل هذا مقنعا نفسه انه قادر علي جعلها تحب الحياة معه تدمنها...
قادر علي جعلها تبقي وقد اعتقد انه نجح....
ابتسامة سخرية مريرة ارتسمت علي وجهه لقد اعتقد انه نجح في جعلها تدمن وجوده وحبه وحياتها السعيدة معه لكنه هو من كان يسقط فيها اكثر فأكثر كل يوم..
يدمنها يوما بعد يوم حتي كان رحيلها كضربة غادرة حطمت حياته.
:- يوسف.
التفت الي مصدر الصوت الذي خرج من ذكرياته واخرجه من شروده كانت هي بكل بهائها تقف امامه بعبائة حمراء يعلوها اخري من الشيفون الأبيض بكمين طويلين واسعين وحزام احمر مطرز من الخصر وشعرها البني الداكن مبعثر من حولها ووجهها الضعيف شاحب ومرهق...
ارتفع نبضه وعينيه تلتهمانها بلا ارادة لقد حاول اقناع نفسه في غيابها انها ليست اجمل فتاة في الكون فهي لا تقارن بجمال ملاك ولا بجمال الف فتاة غيرها لكنها تبقي في عينيه اجملهم حتي وهي شاحبة واهنة كما هي الان..
انه لا زال يحبها اعترف لنفسه بحزن يحبها وسوف يتخلي عنها وهذه المرة بإرادته فهو لن يأسرها داخل منزله العمر كله رغم انها ولدهشته لم تعترض ولن تقترح الرحيل منذ اجبرها علي المكوث لكنها لا تبدو سعيدة...
:- ما الذي اعادك الي كارما.
سأل بانفعال لم يقصده كأن روحه فاضت من الكتمان  حتي انه اجفلها فتراجعت خطوة للخلف وعينيها ترتفعان اليه تنظران بتوسل ضايقه..
لماذا تشعره دوما منذ عودتها انها تتوسل اليه لشيء لا يعرفه حتي؟ 
انه يكره ان يراها ضعيفة حتي امامه يكره ان تتوسل عينيها حتي له.
تنهد بتعب ثم القي بنفسه علي اقرب مقعد ووضع رأسه بين يديه بتعب وخيرة لا يعلم اين يثبت قدميه علي الأرض..
:- جيت لتسامحني يوسف.
رفع وجهه اليها حيث تقف وابتسامة ساخرة ترتسم علي وجهه رغم الألم الذي ارسله صوتها المتحشرج كمن علي وشك البكاء الي قلبه..
:- اسامحك علي ماذا كارما...  علي رحيلك.
وقف متجها الي حث تقف و هز رأسه وكتفيه بلا معني ثم قال بانفعال غاضب من نفسه اكثر منها..
:- لا حق لي في الغضب من رحيلك كارما...  انت لم تعدي يوما بالبقاء..  لكنني كنت اظن انني اعني لك شيئا حتي لو صديقا لتحترمي وجودي وتخبريني عن رحيلم بدل من الاختفاء فجأة تاركة ورقة بالية بكلمات حقيرة لا معني لها....
ضرب الحائط من خلفها عددا من المرات بعصبية فانتفضت كعصفور صغير ودموعها تسيل علي وجنتيها بينما تسمعه يتابع بقلب نازف..
:- لم اطلب منك الحب كارما لم اجبرك علي البقاء لقد طلبت الاحترام فقط ان تحترمي وجودي وحبي لك وتلك الأيام التي تشاركنا فيها ارواحنا ولم تعني لكي اي شيء...  لم تعني لك اي شيء كارما.
التفت عنها يوليها ظهره يحاول السيطرة علي انفعاله الذي يهدد بفقد السيطرة وتحطيم المنزل فوق رأسها...
لمسة رقيقة منها لظهره حطمت سيطرته التي حاول بنائها ليعود للاستدارة لها ولسانه علي وشك قذف المزيد من الحمم المشتعلة فوق رأسها الصلب لكنه توقف مع انتفاضة جسده كأن تيار كهربي مر به حينما اندفعت تختبئ داخل احضانه تضمه بقوة اليها كأنها تفر من خوفها منه اليه...
اغمض عينيه يئسا وكل ما يتمناه هو ان يرفع زراعيه ليضمها هو الأخر اليه لكنه لم يعد يريد الاستسلام...
لا يريد ان يحبها اكثر....
لا يريد ان تقتله برحيلها مرة اخري..
عجبا لما يفعله الحب بنا يصبح الشجاع جبانا خوفا من خسارة الحبيب الذي يعادل الروح في غلوها...
ويصبح القوي ضعيفا امام تلك الروح كما هو ضعيف امامها..
استسلم اخيرا لرغبة كل خلية فيه ليضمها ليه بقوة مثلها مخفضا رأسه لتستند علي رأسها يشتم عبيرها الذي ملئ رئتيه بالحياة...
:- هل عنيت لك اي شيء يوما كارما حتي لو كصديق...  هل كنت مهما في اي لحظة من لحظات حياتك ام كنت مجرد محطة ساعدتك علي الوصول..
صوته كان خفيضا هامسا بالكاد وصل الي مسامعها لكن تأثيره كان مهلكا علي روحها....
شهقة بكاء خفيضة هربت منها وهمسها لامس صدره مع انفاسها....
:- والله انك كنت كل شي يا يوسف... انت كل شي.
وبجرئة لم تكن لتمتلكها يوما طبعت قبلة دافئة علي صده الصلب قبل ان تفك تشابك زراعيها من حوله وتبتعد عن دفئه مستغلة صدمته وتأثره بتلك القبلة التي اودعتها كل ما عجزت عن البوح به...
:- انا رجعت لحتي تسامحني يوسف..... ما كان بدي اياك تكرهني.... انا اسفة للي صار زمان وللي صار اليوم.... اسفة لأني ما خبرتك بيوم اديش كنت مهم بالنسبة الي ان كنت الصديق والأهل يا يوسف.
"كنت الأرض والوطن كنت الحب والثقة كنت الحياة يا حبيبي"  اكملت الجملة الأخيرة داخلها بينما تتابع بارهاق وعينيها تمران علي ملامح وجهه التي يمتزج بها بياض بشرته مع دكنة عينيه....
:- انا كنت ضايعة حتي لقيتني يا يوسف بدونك كنت راح ضيع اكتر واكتر...  ربنا بعتك الي في وقت كان الموت امنية ناقصني الشجاعة لحتي حققها وصدقني بدونك كنت راح حققها بسرعة.... بس ما كان فينا نكمل يوسف الحياة ما بتعطينا كل شي ما كان فينا نكمل.
لقد انقذها من نفسها...
لكن ما بينهم كان مصيره الفناء.
كانت تعلم بهذا وتؤمن به منذ اللحظة الأوي التي قابلته فيها في الجامعة وتعرف عليها غصبا حاشرا نفسه داخل حياتها رغم انطوائها ورفضها تكوين اي علاقات حتي لو كانت سطحية لكنها لا تعلم متي او كيف احتوي عالمها بأكمل صانعا لها عالم واسع به اصدقاء مقربين كزهرة التي كان هو السبب في معرفتها بها والكثير غيرها ممن ساعدوها واصبحوا سند لها لفترة بفضله...
لقد شغل يوسف ايام وليال من عمرها لسنوات وقف كحارس لها  مانعا رغبتها القوية في الموت واللحاق بأهلها حتي بدون ان يعلم هذا....
تقابلت نظراتهما في معركة الضعيف فيها هو المنتصر وحديث الروح هو المهيمن حديث لا يسمعه انسان ولا يفهمه غيرهما.....
حديث انتهى بفقدان السيطرة...
لا يعلم ايهما كان الأول..
ولا متي تقابلت الشفاه بنوع اخر من الحديث حيث يرتشف كل منهم من نبع الروح مباشرة فلا حاجة للحديث...
متي تشابكت الكفوف ترسل ألف سلام مليء بالاشتياق..
متي ضاع كل الكون ولم يبقي سوي هم وتلك الغيمة العالية التي طافت بهما في رحلة لا عودة منها...
#الفصل طويل جدا اتمني رأيكم ودعمكم #
اذا عجبكم الفصل متنسوش النجمة الي تحت دي وتعليق حلو وشكرا ليكم جدا 😍🤭

كل الدروب تؤدي اليكحيث تعيش القصص. اكتشف الآن