الفصل التاسع والثلاثون

404 24 0
                                    

قطعت رنين الهاتف حديثها مع يوسف الذي ارخي رأسه للخلف ويده تضغط جبينه مقاوما ان يتأوه ألما من هذا الصداع القاتل...
نظرت اليه بشفقة انها تشعر به...
لقد عانت مما عاناه...
لقد كانت في نفس الوضع تقريبا...
كانت تعلم تماما ان ما تريده هو المستحيل نفسه وكل سبب منطقي في الكون يأمرها بالبعد ولكن كل خلية فيها تأمرها بالبقاء فالبعد جحيم لا تستطيع احتماله...
وهي اختارت القرب...
اختارته بعد ان ادركت انها تملك القدرة والقوة علي خوض التجربة مرة اخري...
علي ان تغفر له رغم صعوبة الغفران...
لكنها ادركت انها لا تريد ترك نيران الماضي تحرق خضرة المستقبل...
حارس قد خدعها بالفعل في الماضي اي كانت اسبابه هي ستغفر لكن هذا لا يعني ان المها قد شفي  بل ان جرحه لازال مفتوحا ينزف داخلها ولن يغلق سوي بمعرفتها كل اسبابه كل حجة ومبرر من شأنه ان يهدئ من ألم قلبها وجرحه النازف.....
قد تكون المعرفة جحين لكن ظلام الجهل ووحش الحيرة اكثر قسوة ستواجهه وستعلم الأسباب وستغفر...
سوف تحاول ان تغفر...
سوف تؤجل هذه الواجهة لوقت ابعد قليلا وقت تكون قوية فيه لتسامحه فهي لا تريد البعد...
ليس مجددا....
لكن يوسف.....
يوسف قصته مختلفة...
قد يكون ما جمعها به هو الضياع والألم الذي انتجه الحب لكلاهما ورغم انها تعرف حارس تقريبا منذ وعت علي هذه الدنيا  وما سببه تركه لها كان قويا بقوة حبهة له الا ان ألمها لم يكن يقارن بذلك النوع من الحب الذي احبه يوسف لكارما ...
يوسف احب كارما حد الهوس...
اعطي حتي اخر قطرة داخله لأجل هذا الحب ...
احبها وهو يعلم منذ البداية ان طريقيهما متواز لن يتقابلا فيه ابدا....
ربط روحه بها حتي ضاع بعدما هجرته ...
ورغم انها تحب يوسف كأخ وغاضبة بالفعل من كارما لأنها كسرت قلبه وحطمت حياته تقريبا حتي لو تصنع هو  غير ذلك لكنها لا تستطيع القاء اللوم علي كارما ...
كارما لم تخدع يوسف يوما بالحب كما فعل حارس بها...
كارما لم تملك يوما القرار ....
حارس كان يملك قرار البعد ومهما كانت اسبابه مقنعة او لا لكنه كان يملك سببا كان يملك القوة ليختار....
كان يصنع لها عالم من الوهم والحياة الوردية لسنوات وهدم كل هذا في لحظة......
لكن كارما....
كارما لم تكذب....
لم تعطي ليوسف شيء ولم تعد بشيء..
لم تبني حكايات حب خرافية لأجله وتركته بعدها...
كرما فعلت ما قالته منذ البداية...
انها سترحل.....
ولا يملك يوسف ما يلومها عليه رغم ما يحاول اقناع نفسه به..
انه يريدها مذنبة ليحلل لنفسه اجبارها علي البقاء..
ليسامح نفسه علي تدميره لنفسه بحبها رغم علمه  بالنهاية جيدا...
يريد معاقبتها علي حبه هو لها...
علي كونها احتلته حتي ما عاد جزء منه صالح بدونها...
الحقيقة الوحيدة هنا ان كلاهما يستحق الشفقة...
فكرما كانت ضائعة ولا زالت قبل وبعد رحيلها عنه وهو ضاع منذ عرفها....
لا تعلم أتدعوا لهما ان يعودا معا لعل كل واحد منهما يجمع شتات الأخر....
ام تدعو ان يشفى كل منهما من الأخر لعلهما يستطيعان بناء حياة جديدة....
يستطيعا فيها ترميم ما يمكن ترميمه من ارواحهم..
اهدته ابتسامة لطيفة مشفقة  ثم حولت نظراتها الي الهاتف الذي استمر بالرنين...
انعقد حاجبيها وهي تنظر الي الشاشة التي عرضت رقما مجهولا ترددت في الاجابة او رفضها...
انها لا تجيب علي ارقام غريبة لكن شعورا داخلي غير مريح جعل رفض الإتصال قرار غير وارد ابدا....
سألها يوسف بقلق وهو يلاحظ ملامحها المترددة ......
:- ملاك في حاجه...
نظرت اليه مرة اخري ثم قالت بينما تحرك كتفيها...
:- رقم غريب....  مش عارفه ارد ولا لا  ....
تحركت في مقعدها بغير راحة ثم حسمت أمرها لتضغط ايقونة فتح المكالمة وهي تضع الهاتف علي اذنها ليصلها صوت متحشرج بدي مألوفا نوعا ما...
:- انسة ملاك...
اجلي المتحدث صوته ثم عرف عن نفسه بسرعة....
:- معاكي دكتور طارق اظن حضرتك عارفاني ...
:- اه طبعا يا دكتور اتفضل...  في حاجه حصلت...
كان صوتها قلقا مما جذب انتباه يوسف الذي يجلس بجوارها ليأتها صوت طارق من الطرف الاخر...
:- لو سمحتي من غير ما حد يعرف خاصة كامل بيه والد ورود انا عاوز حضرتك تيجيبي شوية حجات ضرورية لورود وتيجي...
بلا ارادة منها ارتجف صوتها وهي تهتف بالاسم الأخير وصوت طارق لم يكن يطمئن أبدا....
:- ممكن بسرعة وانا هفهمك علي كل حاجة ولو تقدري تكلمي واحده من البنات كمان بس لان مش هينفع حد يعرف اي حاجه دلوقتي....
اشارت ليوسف ليحضر قلما وورقة وما ان احضرهم حتي كتبت ما املاه طارق عليها لتحضره وبأيد مرتجفه اخذت الورقة وخرجت من المنزل بعد ان اخبرت والدتها بما حدث بسرعة وبألا تخبر والد ورود الذي كان لحسن الحظ في الخارج مع والدها...
التفتت الي يوسف الذي كان علي استعداد تام للحضور معاها لتعتذر...
:- انا اسفة جدا يا يوسف انا لازم اروح هكلمك تاني ادعي ان الموضوع يكون خير...
:- هاجي معاكي طيب...
هزت رأسها رفضا...
:- مش هينفع صدقني انا هعدي علي تمارا وهجيب الحاجه من علي الطريق هكلمك بعدين...
صعدت الي سيارتها وانطلقت بسرعة وضعت الهاتف في مكانه في السيارة وفتحت اتصالا مع تمارا التي اجابتها بسرعة غير متوقعة لكنها لم تهتم...
:- جهزي نفسك انا جايالك حالا....
:- في ايه يا ملاك...
:- هنروح مشوار ضروري...
:- طيب هكلم رضوان وهستناكي...
اغلقت الخط معها وذهب لأقرب متجر تستطيع منه احضار الاشياء التي اخبرها عنها طارق...
بعد ساعة كانت تقف هي وتمارا امام الغرفة التي احضرهم اليها طارق بأعين متسعة وقلب خافق فهذه التي امامهم لم تكن ابدا صديقتهم التي يعرفونها لم تكن ورود...
التفتت ملاك تنظر الي طارق الذي يقف خلفهم بصمت وكادت تسأل كادت تصرخ انه مخطأ لكن ملامحه الداكنه ونظراته المعلقة بتلك التي في الداخل وقطرة الدمع التي تترقرق داخلهما يمنعه كبريائه من تحريرها امامهم اخبرتها...
هذه التي في الداخل هي ورود او...
ما تبقي منها...
انهم فقط ستون يوما...
ستون يوما هو كل ما مر علي غيابها كيف يمكن لهذا العدد من الأيام ان يحول انسان من النقيض للنقيض..
هبطت نظراته عنها اخيرا لتسقط علي صديقتها التي يخطلت عدم التصديق مع الرعب داخل زرقة عينيها والتساؤل يغلفهم...
يعلم ما تشعر به لكنها اكثر حظا منه فما تراه الأن ونا تشعر به لكنه لن يكون مثقال ذرة  مما رآه او شعر به في تلك اللحظة التي رأها فيها ...
الرعب....
لا هذه كلمة بسيطة لما ضربه حينما وقعت عينيه عليها...
لقد شل كل شيء فيه فما عاد قادرا حتي علي التنفس ولا يعلم كيف كان ثابتا علي الأرض بينما الأرض نفسها كانت تدور به كأنه وقع في ثقب دودي...
ورود..
وردته الغالية القصيرة الجميلة صاحبة الابتسامة المدمرة والعيون الجريئة اللامعة التي تشرق كما الشمس...
وردته التي كانت تعطر الدنيا من حوله بشقاوتها وتغزوه بجنونها فيصبح اكثر منها جنونا كأنها تعيد الحياة لكل ركن فيه...
ذبلت فجأة كأن الحياة قد فارقتها...
وجه شاحب تختلط الصفرة فيه بالزرقة من كثر الكدمات فلا تعرف ان كانت الحياة لازالت تسري في دمائها ام رحلت وركت جسدا خاويا ومادة قبيحة تسيل من زاوية فمها ...
وشعرها الغجري المموج اصبح كتلة قذرة متشابكة مشعثة كأن اعصار من القذارة ضربها من خصلات شعرها لأخمص قدميها...
لكن الرعب دب دبيبه في قلبه اكثر من مظهر ملابسها الممزق...
لقد تمزق هو مع كل لمحة مكشوفة من جسدها  وكل رقعة منها  تنضح بما عانته....
لازالت غصة شائكة  تجرح حلقه وتحرق صدره مع كل نفس يأخذه رغم انها الأن افضل فملابسها البشعة الممزقة تبدلت برداء المشفي الأخضر الأكثر بشاعة لكنه علي الاقل لا يقبض روحه كما مظهرها السابق  ووجهها تم تنظيفه قدر الامكان فظهرت بعض من ملامحها..
ورغم هذا لازال مظهرها مؤلم وقاسي وكل خلية فيه لازالت ترتجف رهبة من تلك اللحظة التي توقف فيها قلبها....
تلك اللحظة التي فقد فيها نبضه هو الأخر مع كل نفضة انتفض فيها جسدها بعد صعقه بالكهرباء...
قديما حين كان بالجامعة كان جميع معلميه يعتقدون انه سيكون جراحا بسبب مهارته في ضبط النفس فلا يخشي شيء ولا يؤثر شيء علي تحكمه في الموقف ولكن كل هذا كان سراب فكل ذرة تحكم وسيطرة يملكها اختفت وفقد كل قوة في جسده فمن كانت ملقاة تصارع الموت لم تكن احد لقد كانت ورود.....
اتزانه وثباته ذهبا ادراج الرياح واطرافه ترتجف كأنه هو من اصابته الكهرباء دونها...
وضبط النفس طحن تحت جسده الذي انهار ساجدا لله ما ان استعاد قلبها الحياة....
تلك اللحظة علم انه ابدا لن يتخلي عنها لن يستطيع حتي لو اراد...
حتي لو اجتمعت كل اسباب الدنيا ضد اجتماعهما ...
حتي لو حارب نفسه لأجلها...
عاد من شروده بتلك الذكري القريبة علي سؤال تمارا الشاحب كما شحوب وجهها...
:- هي هتكون كويسة...
هز رأسه بإيجاب وفقط انها بخير لقد اكد له زميله هذا هي بخير الأن لكن المشكلة ليست الأن المشكلة الأكبر حين تستعيد وعيها...
اجلي حلقه عدة مرات ثم تحدث اخيرا يجاهد ليكون صوته عمليا وباردا لكنه خرج مرتجفا رغما عنه...
:- هتكون بخير....  ان شاء الله هتكون بخير...  ممكن بس تساعدو الممرضة...  دا يعتبر غير قانوني انكم تدخلو ليها وتساعدوها لكن انا مش واثق في حد حاليا دا غير ان.......
تنهد بعمق واكمل  ..
:- انا عارف اد ايه هتضياق لو عرفت ان حد ساعدها غيركم هي بتكره حد يشوفها ضعيفة...
تجاهل نظراتهم المشفقة والدامعة ونادي علي ممرضة صغيرة موثوقة لتلقي بالتعليمات علي ملاك وتمارا وما ان اختفتا داخل الغرفة حتي اخرج هاتفه ليحدث الضابط...
بعد عدة ساعات كان يجلس داخل غرفته وامامه الضابط بينما رحل الجميع بضغط منه حتي والدها...
:- دا معناه ان الانسة ورود مدمنة...
سأل الضابط بغلظة ليهز طارق رأسه بضيق ثم شرح موضحا...
:- لا مش ادمان بالشكل المتعارف عليه .... الدوا الي اخدته ورود دوا مصرح لعلاج حالات معينة من الصرع واكتر من مرض تاني ولأن في نسبة مهدء عالية ففي ناس بيستخدموه مع انواع من المخدر وطبعا الجرعات لو كانت بدون ارشاد طبي ممكن تؤدي للإدمان ودا الي حصل لورود حد كان بيديها الدوا دا بجرعات معينة ومظبوطة دا مش حد مبتدأ او مش فاهم...
وضع الضابط قدما فوق الأخرى وهو يستند بمرفقه علي الطاولة وقد انعقد ما بين حاجبيه ثم سأل   ...
:- وليه متكنش هي الي بتاخده...  يعني يا دكتور انت  وضحت قبل كدا انها كانت بتعاني من مشكلة نفسية وبتتعالج عندك ليه متكونش هي الي ادمنت النوع دا من الدوا من غير تدخل خارجي....
تنهد طارق وهو يحاول السيطرة علي انفعالته والرد بعملية قدر الامكان...
:- لان الدوا دا مينفعش يتصرف لحد بدون رشتة طبية يا فندم وبما اني دكتورها وانا مكتبتلهاش اي نوع من المهدئات المشابهة.....
:- امم طيب ما  يمكن هي بتروح لدكتور تاني...
:- لا....
كان نفي خاسما من طارق وعينيه ترسلان تأكيدا عنيفا علي كلامه...
لا ورود لم تذهب لغيره هو اكثر من متأكد...
تنهد الضابط وعاد بجسده للخلف باسترخاء ثم قال عاد يسأل باستفزاز....
:- من رأي يا دكتور تأكيدك مش في محله ولكن فرضا حد هو الي اداها النوع دا من الأسئلة ممكن اعرف  هيستفاده حد من انو يديها دوا زي دا طالما نسبة ادمانه مش عالية وملوش ضرر خطير...
تنهد طارق بعمق ثم بدأ بالشرح موضحا اكثر....
:- مش معني انو علاج يبقي ضرره مش خطير اخد اي علاج بدون ما يكون الشخص محتاجه هو قمة الضرر والإدمان ادمان مهما بلغت حدته حتي لو كان من السهل علاج النوع دا من الادمان....
:- برضو مش منطقي انها تتخطف بس عشان يدوها مهدئات...
:- دا مش مهدئات في اختلاف كبير بين الدوا دا وانواع المهدئات التانية يا ضياء باشا والسبب مش عشان يدوها العلاج السبب في اعراض العلاج الجانبية الي بتحصل لو اخده اي حد مش مريض..سواء اخده بغرض التعاطي او كمهدئ سريع المفعول لان اكبر عرض جانبي ليه واكتر شوعا هو الرغبة الشديدة في الانتحار حتي لو الي اخده هو طفل او مراهق ..
تنهد مرة اخري ثم تابع بثقل كأن جبل يجثم فوق صدره..
:- يعني جريمة بدون نقطة دم ولا اي نوع من انواع العنف مجرد واحدة انتحرت...
:- بس دا منجحش  ....
ابتسم طارق بسخرية....
:- اعتقد ملحقوش لانها اخدت جرعة زايدة وتقريبا الي ادهالها افتكرها ماتت لما غابت عن الوعي ومن حسن الحظ ان هو رماها قريل من الكمين وجابوها علي المستشفي ....
حل الصمت لبعض الوقت وكلاهما يطوف في دوامة من الأفكار حتي قطع ضياء الصمت عارضا افكاره...
:- دا ممكن يكون انتحار منها....
:- ممكن بس معتقدش... اظن انهم حاولو يتخلصو منها بشكل اسرع.  
هز ضياء رأسه ثم وقف ليغادر...
:- ممكن تقولي امتي ممكن نتكلم مع الانسة و....
قاطعه طارق بغلظة...
:- احنا لسه حتي منعرفش هتفوق امتي يا حضرة الظابط اظن السؤال دا مستعجل شوية...
رفع ضياء احد حاجبيه بسخرية ثم هز كتفه ورحل ليعود طارق للجلوس  بارهاق علي مقعده يسند رأسه علي المكتب بضياع وكل خلية في جسده تأن ألما...
لقد زاد الحمل علي كاهله زاد حتي فاض...
لا يعلم ايطمئن لأنها عادت اخيرا ام يرتعب اكثر لوجود من يحاول قتلها بهذه البشاعة والتدبير الدقيق..
ام يبكي ألما لحالها وما ستعانيه بعدما تعود لوعيها من محاولة سحب ذلك السم من اوردتها...
ان كل شيء يدور من حوله كدوامة سريعة تبتلعه داخلها وقوته تتلشى مع كل دورة....
فهو قوي ليتحمل اي شيء مهما كان قاسي الا انه قوته ليست كفاية ليتحمل رؤيتها ألمها ومرضها وضياعها من بين يديه بهذه الطريقة...
مبارك لك يا ابنة وهدان لقد ملكت الروح والجسد فأصابهما العلل كما اصابك....

★★★★★★★★★★★★★★★★★★★★★★★★★★★★★

كل الدروب تؤدي اليكحيث تعيش القصص. اكتشف الآن