7.لستِ منطفئة

156 17 8
                                    

حملت كلوديا حقيبة سفرها على ظهرها مرتسمة ابتسامات خجولة على ثغرها، تحدق بهم بنظرة حنونة تعبر عن الشوق الذي سيصيب قلبها بمجرد ان تدير ظهرها لهم، وبعد عناق طويل لكل واحدة منهن افصحت فيه عن ما يخالجها من حب لهن راحت تسير بعيدا، قاصده اتجاه المحيط، وينتظرها هناك زورق صغير يتربع عليه رجل عجوز استأجرته ليقلها الى الجانب الآخر حيث يقبع قارب المسافرين، تنظر اليهم تارة والى ذلك الرجل بينما يلوح لها الجميع مودعين، وقفن الفتيات عند عتبة المنزل بحزن يستشعرن الفراغ الذي تركته خلفها، ها قد وجدن انفسهن غريبات بلا معيل، لا أم ولا اب، في بلدة غريبة لم يستنشقن هوائها لأكثر من يوم، ثم دخلن في استسلام، ولكن جودي ظلت واقفه على اعتاب الباب تحدق في السيدة مارينيت التي ودعت للتو الكيان الانثوي الوحيد الذي شاركها عزلتها هنا، متناسية ان من يقطن هنا فتيات ايضا..
فوضعت كفها على كتف السيدة مارينيت عاجزة عن اخراج كلمات المواساة التي لم تعتد على سماعها او النطق بها.. فتبادلا نظرات صامته
وقبل ان تبتدأ ماري الحديث سمعتا صوت ارتطام قادم من سقف منزل الاولاد فوجها نظرهما هناك في توجس شديد، ليجدا ايان قد ارتطم رأسه بالمدخنه بعد ان كان يحاول تخريب مشبك الكهرباء على مارتن، لانه منزعج من الصوت العالي لالعاب الفيديو التي استمرت منذ الصباح ومنعته من القراءة بهدوء، فتبسمت جودي بعفوية ابتسامة تعبر فيها عن سخريتها من قلة انتباهه، هو يعشق تسلق المدخنه ها؟ فلا يمكن ان تراه خارج المنزل الا في ذلك المكان
فتأففت ماري بعد ان نشفت دموعها وقالت بحسره (يمتلك ابني الأكبر جينات القردة)
فظهرت قهقهة خافتة من ثغر جودي وكأنها تعبر عن موافقتها لذلك
فسمعتاه يهسهس مع نفسه بصوت مكبوت (متى سينتهي هذا العالم)
فهمست ماري قرب اذني جودي همسات ساخرة (هذا الرجل يعيش في عالم اخر، انه غير واعي بما حوله اطلاقا، دوما ما يرتطم بالاشياء بينما يقرأ الكتب، واجده نائما في اماكن غريبة، ذات مرة رأيته نائمه في غرفة الغسيل، اخبرت نفسي بأنه كان ينوي تطبيق تجربة على محرك الغسالة، لكي اقنع نفسي بأن ولدي ذكيا وعالما واتجاهل حقيقة بأنه احمق ليس الا)

ضحكت جودي ضحكه خافته وبادلتها مارينيت الامر فانتبه ايان لهما، اخذ يرمق جودي مستغربا، وقد اعتلت نظراته ريبة مختلطه ببعض الترقب والبهجة
وكانت جودي تبادله تلك الرمقات عندما اردفت ماري (لم اخبرك بأنه يمتلك مكتبة كبيرة، وقالت كلوديا بأن لك شغفا في الكتب، بامكانك استعارة الكتب منه) ثم اعقبت كلامها بنداء توجهه اليه لتقطع تأملاته في جودي (ايااان، قدم لأمك خدمة صغيرة)

لم يكد يستوعب ندائها حتى رآها تلج الى الداخل وقد سحبت معها جودي قسرا والتي لم تجد وقتا للرفض، وقادتها الى السلم الذي يؤدي الى العلية وفي عينا جودي استغراب ممتزج بخجل..
فتحت مارينيت الباب صارخه (اييياااننن، انزل بسرعه من السقف)
قاطعتها جودي  (خالتي، هل يجب علي ذلك حقا، لا بأس معي، لم اقرأ كتبا منذ وقت طويل)
-(لهذا فقط عليك ان تعيدي شغفك في القراءة)
فأخذت جودي تحدق في المكان بفضول، تحاول ان تعرف نبذه بسيطة عن شخصية هذا الرجل الذي بادلها الحديث وسط عتمة الغابة، فلم تجد الا ما يدل على كونه رجلا فوضويا، يقرأ كتابا ثم يرمي به بشكل عبثي على كومة من الكتب القديمة التي شوهت اغلفتها اكوام من الغبار وشبكات العنكبوت، واوراق ممزقه على بعض جوانب الغرفة، وأشياء لا غاية لوجودها في مكان قد بني ليكون مرتعا للكتب، وتفوح منه رائحة الغبار والأوساخ بدلا من رائحة الكتب التي تعشقها جودي، فلا يبث فيها هذا المكان رغبة في القراءة سوى رغبة في الهرب والمغادرة، والاغتسال.
وفي هذه الأثناء نزل ايان من السقف بقفزة رشيقه اصدرت صوتا ايقظ جودي من سرحانها، فنظرا في بعضهما، هي تزدريه وتشعر بالقرف من هذه الفوضى، وهو يتبسم ساخرا ويتشوق لتنفيذ وعده لها بأنه سيبكيها، فقالت مارينيت (لقد جلبت لك ضيفه)
ثم سحبت جودي التي تأوهت بصوت منخفض واستكملت حديثها  (اعلم انك تعلم من هذه، لقد ذهبتما معا الى الغابة، لذلك لا بد من انكما تعرفتما على بعضكما)
-(اذن؟)
_(اذن، لقد تحدثنا كثيرا انا وصديقتي الجديده بشأنها، ووجدنا انها فاقده للشغف، ولا تملك شيئا تحبه، وتعلم بأنني لا اتجاهل شخصا يعاني)
-(اعلم ذلك)
فقالت جودي بجفاء (لست فاقده للشغف، لقد.استنتجتا ذلك بنفسيهما)
قهقهت مارينيت واومأ ايان رأسه ساخرا (اجل هذا واضح)
فتجاهلتها ماري وقالت (ستساعدنا في اعادة الابتسامه على وجهها الجميل، دعها تأخذ بعضا من كتبك، اعلم انك لا تحتاج اي منها ولقد قرأتها مرارا وتكرارا، الا بأس في ذلك؟)
رمق جودي بإستفهام وقال وهو يعقد يديه (اتحبين الكتب؟ ام انها وسيلة لتضييع الوقت؟)
-(لا احبها) قالتها بمكابره فنفت ماري ذلك (انها تكابر، لقد سمعت انها تربت على الكتب التي تعيرها اليها جدتها، لذلك اظن ان فعل شيء كانت تفعله بالطفولة سيسعدها قليلا)
قالت جودي بإستسلام (ولكن لماذا تفعلين ذلك من اجلي يا خالة؟ ما همك؟)
صفعت كتفها وقالت بممازحه (اتودين مني اذن ان اتجاهلك؟ لا تشعري بالاحراج يا صغيرتي)
-(كلا ولكن، لا يعني صمتي وقلة كلامي بأنني شخص يعاني، وإن كنت كذلك فجميع البشر على الأرض يمرون في اوقات صعبة؛ ولست استثناءا، لذلك يا خالتي لا ارى سببا في ان تتعبي نفسك لمحاولة فهمي، اقر بأن هذا لطف منك، واقدره كثيرا، ولكن.. عندما يكون الأمر مبالغا به)
توقفت عن الحديث بعدما وجدت نفسها عاجزة عن وصف الأمر؛ وأيان وماري يحدقان بها بصمت، واذا به يكمل عنها جملتها (عندما يكون الأمر مبالغا به، سيبدو وكأنه شفقة وتكلف، مختبئة خلف عباءة من التلطف والكرم، في محاولة لإظهار كثرة الإهتمام)
توجهت نظرتها اليه، وازدردت ريقها عندما تقدم خطوة وهو يكمل (وهذا ما لا يبحث عنه اشخاص مثلك، يتوقون لتذوق الأشياء الحقيقية، ويشككون في صدق كل شيء، حتى يكاد العالم يبدو مزيفا بأكمله، لذلك ستكونين عاجزة عن الشعور بلذة الأشياء، طالما ان هناك شك يراودك عن حقيقتها، اتعلمين ما تحتاجينه؟ انه الصدق)
ابتعدت بمثل خطوته وماري تنظر اليه تارة والى جودي، ولا تفهم عمق الحديث الذي يدور بينهما، فأستكمل وهو يرسل نظراته الواثقه الى روحها مباشرة (والصدق يبدأ منك، ثم في تعايشك مع زيف الأشياء، نظرة الى الشمس ستبدو لك صفراء اللون كلون زهور عباد الشمس، وإن اقتربتي منها ستجدينها تتوهج بلون ابيض فاقع لا صفار له، نظرة بعيدة الى القمر، سترينه ينير في الظلام الحالك بوهج ابيض لا اسوداد له، وعند اقترابك منه)
قالت ببعض الحرج (رمادي)
-(اجابة صحيحة، وشديد الظلمة، لا ينبعث منه ادنى نور)
اومأت برأسها، فدنى منها وقال (والآن، كيف يمكنك ايجاد الصدق؟)
قالت وهي تستذكر كلامه (مني؟)
-(تفحصي قلب امي بنظرة اخرى، ثم تمعني النظر واخبريني ما وجدتيه في نفسك، اما ينبع منها صدقا ام محاولة للتظاهر باللطف؟)
تبسمت مارينيت ابتسامة امومية، فقالت جودي (لا سبب لمساعدتها لي، انا اسفة)
فتبسم ايان وكأنه قد توقع ذلك، ثم قال (وما هي الطريقة الثانية؟)
قالت بتردد (بحسب ما قلته، فهي التعايش مع زيف الأشياء)
-(اذن، هل ستقبلين لطف امي الزائف؟ لعلك ستجدين فيه صدقا عندما تخوضين فيه)
القت نظرة خجلة الى ماري، ثم اليه، وافتعلت ايماءة خفيفة ايجابا فقالت ماري بسعادة (سأذهب لجلب شيئا لنشربه، دعك من كل شيء واختاري ما تحبينه يا صغيرتي)

كابيلّا | Capellaحيث تعيش القصص. اكتشف الآن