اجل، ان اولاد السيدة ماري (اخويون) بعض الشيء، لا يولون للعالم ادنى اهتمام، وخضوعا لبيئتهم لم تخطر يوما في بالهم فكرة التسكع مع فتيات غريبات، فأغلب حالات الزواج هنا تتم بين الأقارب، لا وجود لعلاقات الحب والرومنسية الا ما ندر، ولكن..
احقا هم اخويون؟ ام ان هذا ما يبدون عليه فقط؟
فبعد ان غابت الشمس عن السماء أمتلأ كل شيء بلون الازرق الغامق الذي كان ينعكس على بشرة جودي البيضاء، كانت قابعة كعادتها في هذا الوقت خلف جدار المنزل، تسند ظهرها عليه وعيناها تجول تارة بين سماء الليل وبين الكتاب، تتمتع بالنسيم البارد بعد الغروب الذي جاء ليداعب خصلات شعرها كمشتاق شعر لأول مرة بوصال حبيبه، واضعة بجانبها فانوسا ليضيء لها صفحات الكتاب الذي تقرأه، يقال ان كابيلا يركد على الجانب الاخر من ذراع المجرة، قريبا من كوكبة الجبار التي تعرفت عليها في الغابة مع ايان، لذلك كانت تقابل ذلك الاتجاه وتنظر بعينان لامعان الى هناك، تعلم في داخلها ان واحدا من بين تلك الملايين من النجوم هناك يقبع نجمها الذي تبحث عنه، وكان قد قطع هدوئها صوتا لخربشه على الحشائش على الجانب الاخر من المنزل، حاولت تجاهله والإستغراق في عزلتها ولكن بعد دقائق بدأ بازعاجها واخافتها، فرشقت ذلك المكان بنظرة حادة، حيث تكمن تلك العربة المليئة بالعشب المتيبس بجانب منزل السيدة ماري، وبعض من الحركه البطيئة خلفها، ثم تقدمت ببطء الى هناك وهي تنفض ثوبها من ذلك العشب والتراب الذي التصق فيه، اشتدت تلك الحركه شيئا فشيئا حتى قفزت قطه سوداء من خلف العربة، طاوية اذنيها بشراسه وذيلها منتصب، زمجرت بغضب في وجه جودي التي فقدت توازنها وسقطت على الارض في لحظة عجزت عن استيعابها، وراحت تنظر بحيرة وانفاس متسارعه الى القطه، كانت ستقفز عليها وتخربش وجهها ولكن ضحكه خافته من خلف جودي جذبت انتباه القطه، فذهب غضبها بسرعه واعتدلت بوقفتها واخذت بالمواء بشكل لطيف، فنظرت جودي الى مصدر الصوت لتجد ايان مستندا على الجدار، يضحك ضحكه هادئة وفي يده علبة من اللحم، خبطت جبينها بكفها وقالت بينما تراه يرمي اللحم الى القطة التي اصبحت تتلوى وكأنها تحاول اغرائه لعله يداعبها بأنامله (يا الهي، لقد اخفتني)
رد بهدوء لطيف (حقا؟ لقد كنت هنا منذ دقائق)
- (لم اشعر بوجودك على الاطلاق) قالتها باستنكار فأردف مفسرا (لدي القدرة على ان اخفي وجودي، اعلمي ذلك)
ابتسمت ابتسامه هازئة ووقفت هي الاخرى بينما تنفض ثوبها من التراب (هذا مثير للاهتمام، ومالذي تفعله هنا)
وعندما لم يصلها رد منه رمقته بعمق شديد، وفي داخلها حدثت حروب وصراعات، وراحت تشعر تارة برغبة في اجراء حديث، والانعزال معه كما يحصل دوما لها، ورغبة نقيضة لها في الهرب، وتجنب هذا الرجل في اي مكان يخلو من البشر، وقالت بتردد مخفية توجسها (هل، تحب القطط؟)
-(احبها، ماذا عنك؟)
-(ليس حقا، الحيوانات تخاف مني)
-(هل جربتي الاقتراب منها يوما؟)
هزت رأسها نافية فاستكمل ولا زالت يداه تداعبان فرو القطة (الحيوانات تتحسس الهالة التي تحيطك، ولأن معظم وقتك تظهرين تعابير الحذر، ستحذر منك)
جلست بجانبه ونظرت نحو القطه ببعض الحنو، كانت تلعق يدها وتتلوى وكأنها تطلب من ايان ان يداعب فروها مجددا، وهو يكمل شرحه (انها تتصرف بوحشيه في اللقاء الاول وبمجرد ان تثق بك سترخي دفاعاتها بالكامل، هيا حاولي لمسها)
حمل القطه بين ذراعيه كي لا تهرب، فبادلته جودي الابتسامه وقامت بتقريب يدها شيئا فشيئا بتردد، لترد عليها القطة بزمجرة عنيفه،وقامت بجرح اصبع جودي بمخالبها، فتاوهت جودي بألم وسحبت اصبعها بسرعه خاطفه، ونظرت الى ايان بعينان يلقيان عتابا
تنهد ايان ثم مد لها يده (هاتي كفك)
(هاه؟)
واذا به يخطف كفها، ضم اصابعها بشكل خفيف ثم قربها من القطه، جاعلا من وجهها يصطبغ بالأحمر لشدة خجله، وكان يتعمد فعل ذلك، لعلها تسقط باكية.
غير انه فشل مرة اخرى..
كان يحدق بها من دون ان يرمش، ثم ترك القطة لتهرب وارتمى على ظهره واخذ يتحسس نعومة العشب بعد ان عم صمت بينهما وعيناه التقيتا بالسماء؛ فضاع بين سرب النجوم ضياع احبته نفسه، ولسبب ما، ذلك الصمت كان جميلا، كان يسكت اصواته الداخلية حتى كادت ان تختفي، اصبح كل شيء غير مسموع..
اهي السماء ام هذه الأنثى التي تشاركه الجلوس؟ ولكن قلبه اخذ يلهو كالأحمق ويتناسى كل شيء، كما لو انه احتسى جرعة من النبيذ اثملته وخدرت آلامه، وبات كل شيء يتراقص في عيناه ببهجة، وكان يتحاشى ان يرمي بعيناه اليها لكي لا يكشف لها بأنه يكاد يصبح مخمورا، ولكي لا تنتهي هذه اللحظه..
اما هي فكانت تحدق به وكأنها تخوض في حلم، عيناه المغمضتان، وشعره الذي بدا راكدا مع ركوده، حتى روحه بدت راكدة لها ركودا جميلا، فقررت ان تغادر وتتركه يحظى بالهدوء، وعندما سمع صوت خفها يحرك العشب فتح عيناه ورمقها بنظرة تساؤل، فنطقت ببعض الحياء (انا اسفة، ظننت انك متعب قليلا لذلك قررت الذهاب، اعتذر على ايقاظك)
-(ولكنني لم اكن نائما)
-(سأغادر على اية حال)
وقبل ان تبتعد خطوة اسند رأسه تحت عضديه وقال (أطيلي البقاء، سأريك اين يقع كابيلا)
تلألأ في عيناها لمعان سعيد استطاع ان يلمحه، فكان يحاول اخفاء غبطته خلف وجه هادئ هدوء نقي، وراح يتأمل التحول الذي طرأ في تعابيرها، ودمدمت بخفوت (حقا؟ الا بأس في ذلك؟)
اظهر ايماءة خفيفة فعادت تدمدم ببعض التردد (هنا؟ في معزل عن الناس؟ لوحدنا مرة اخرى؟ الآن)
تبسم جانبيا في خفوت وقال (أتخشين شيئا؟)
-(لكنني ظننت انك لا تحب الأمر، ولا تحبذه، غير انني)
واشاحت بنظرها وهي تستكمل في تنهيده (اظن ذلك ايضا، لا يجب ان افعل ذلك)
-(تفعلين ماذا؟)
-(تعلم ذلك، اجل، انت تعلم، ان، ان ابقى هنا، لا يجب ان افعل ذلك)
-(لماذا؟)
قالها وفي وجهه تعابير توضح انه يعلم مقصدها، ولكنه يريدها ان تنطق به، لعله في ذلك يريد اخبارها بأن افكارها سخيفة، او ان خوفها لا سبب له، فحتى وان حدث ما تخشاه، ذلك ليس بالأمر السيء.
فقالت في يأس (لست ادري)
ثم جلس وحاوط ركبتيه بذراعه، ولم يكف عن التحديق فيها، ثم ضرب الارض بيساره ضربتين خفيفتين وكأنه يخبرها ان تجلس في هذا المكان، على مقربة منه، فحاولت التظاهر بقلة الفهم، لأن هذا الطلب كان يربكها، يجعل من ضربات قلبها تتسارع، والضعف صار يجري في ارجاء جسدها، اهو خجل ام توتر، وبعد عدة ثوان قالت (ماذا؟)
-(اجلسي)
هكذا رد عليها بهدوء مناقض للعواصف التي كانت تعصف في داخلها، ففعلت ذلك على مضض، وتعابيرها لا توحي بالإرتياح، وكان قد استطاع ملاحظة ذلك من دون ان يبذل جهدا، فصار ينظر وينظر وهي كالحجر الذي لا حياة له، ثم تبسم وقال (انت يا آنسة، تحيطين نفسك بأسوار شديدة جدا، قاسية جدا)
رمقته ببعض الاستفهام فعاود يفسر (تبنى الاسوار حول الاراضي لأسباب شتى يا انسة، لأسباب شتى، وانا على يقين بأن سببك يقبع بينها.)
-(مالذي تحاول ان تقوله)
استكمل متجاهلا سؤالها (ذلك ان كانت المدينة مزدهرة جدا، فتخشى ان يستهدفها كيان جشع، يستولي عليها ويستنزفها.
ان كانت خاوية وحيدة منعزلة، لا يسكن فيها الا اناس قليلون، يميل القلة الى الإختباء خلف الأسوار، لأن لا قوة لهم للمجابهة.
ان كانت بالية رثة فقيرة، لا جنود لها، ولا تقوى على الدفاع، فتهاب ان يحتلها كيان اخر.
ان كانت تخبئ شيئا في داخلها، وتخشى عليه من انظار الغرباء، وربما من دون تلك الأسوار ستعجز عن ابقائه في داخلها، يمكن للأسوار ان تكون دفاعا، ويمكنها ان تكون سجنا، وانت، تضعينها لكي تحجبي الأبصار عن قلبك، ولكنها اسوار متهالكة سرعان ما تفتحين ابوابها على مصراعيها، بمجرد ان ترخي دفاعاتك)
اطرقت برأسها وهي قد استوعبت كل ما يقوله، لم يفسرها احد بهذه البراعة من قبل، ولكن لماذا؟ هذا السؤال لم يفارقها منذ ان استرسل ايان في الكلام، لماذا يقوم بتفسيرها؟
فدمدمت ببعض التردد (جميعنا نحمي انفسنا بهذه الأسوار، جميعنا نمتلك جانبا لا نريد ان يلقي احد اليه نظرة، لذلك ما قلته كان شيئا بديهيا، ولا ارى سببا لتفسيراتك لي، اخبرتك يا سيد ايان، بأنني اريد المغادرة)
-(غادري اذن)
قالها وتبسم وهو يميل برأسه ليسنده على ذراعيه التي احاط بها ركبتيه، فأخذت ترمقه وضربات قلبها تتعالى، حتى كادت تحرج من صدرها وتتسلل الى مسامعه (اغادر؟)
-(ما بالك لا تهمين بالمغادرة؟)
وضلت تحدق كالمخدرة في عيناه، حتى انبثت ضحكة خافتة من بين شفتيه، وتمتم وهو يشيح بنظرة ببعض الغبطة التي حاول اخفاؤها (لا تلقي بالملامة علي اذن)
فأشعرها ذلك ببعض الخجل، فهمت بالوقوف واذا بها تدهس على طرف ثوبها الخلفي، ففقدت توازنها وراحت تسقط نحو الخلف، ارتطم جسدها ارضا واحتضنتها الاعشاب الناعمه، وقلبها قد هوى في مكان اخر لا تعلم اين هرب من قبضتها، وراحت تنظر الى السماء التي اصبحت فوقها وايان كان يظهر ضحكة خافتة، فهمس في مزاح (اظن ان جسدك يرفض المغادرة)
تجاهلت ذلك وقالت (ولكنك لم تخبرني حتى الآن اين يقع كابيلا)
-(صحيح)
ثم ارتمى بجانبها فكانت روحها ستغادر جسدها، اصبحت تتنفس من معدتها وكل جزء من جسدها بات ينبض، وهو اسند رأسه تحت عضديه فأذا بها تعتدل في جلستها، فكان يظن انه بالغ في محاولة استدعاء خجلها، وقال مسترسلا (النجم الذي احببتِه، انه هناك الان، في ذلك المربع لكنك لن تتمكني من تمييزه) واشار بأصبعه من حيث يمكن ان تراه هي فتناست كل شيء وبدأت عيناها تدور في الفراغ، وعندما لم تتمكن من رؤية ذلك المكان ارتمت مرة اخرى بجانبه متناسية كل ما حل بها من حياء وخجل، لا بل راحت تحشر نفسها بجانبه حتى تلاصقت كتفيهما، فأخذ يزدرد ريقه ببعض الصدمة، فرمقها نظرة وهو يتبسم وكانت تتأمل السماء بتركيز، وشعرها يتطاير بسبب الرياح، اعجبه ذلك المنظر عن قرب فأخذ يتأمل ملامحها على مهله، عيناها الباردتين، انفها المستقيم، وشفتيها الممتلئتين، وذلك الاحمرار الذي كان يبرز وجنتيها رغم الظلام، ثم انتشلها من بهجتها وهو يقول (ارأيتي؟ لقد ارخيتي دفاعاتك بالكامل)
أنت تقرأ
كابيلّا | Capella
Romanceولكنني كنت افكر في الاسباب التي جعلتك هكذا، في العواصف التي حدثت حول قلبك قبل ان تهب العاصفة الثلجية الاخيرة وتجمد كل شيء، كديسمبر، ينهي كل الفصول التي تسبقه في السنه بكتل من الثلوج .. (كابيلا هو نجم شتائي يبرق من الشرق في اوائل اكتوبر، كنت اشعر ان...